منتديات وهج الذكرى

منتديات وهج الذكرى (https://www.wahjj.com/vb/index.php)
-   علوم القرآن والتلاوات (https://www.wahjj.com/vb/forumdisplay.php?f=165)
-   -   علم الماهية والعلوم المطلوبة للأغراض المحمودة وعلم الظاهر من الحياة الدنيا (https://www.wahjj.com/vb/showthread.php?t=29347)

الغريبة 12-01-2019 10:05 AM

علم الماهية والعلوم المطلوبة للأغراض المحمودة وعلم الظاهر من الحياة الدنيا
 
علم الماهية والعلوم المطلوبة
للأغراض المحمودة وعلم الظاهر من الحياة الدنيا



يقول سبحانه: ﴿ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 5].



ففي هذه الآية دلالة على أن الله تعالى اختص الإنسان بالتعليم، وليس ذلك فحسب، بل إنه لَيعلم علومًا لا تعلمها الملائكة، من ذلك علمُ ماهِيَّة الأشياء، وهو ما يسمى بـ"علم الأسماء"، فالاسم يطلق على الأشياء بحَسَبِ وظيفتها وتركيبها واستخدامها، فإذا علمت اسم الشيء، فقد علمت تركيبه ووظيفته وكيفية استخدامه، وقد جمع الله تعالى لآدم الأسماءَ كلها، يقول سبحانه: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 31 - 33].



وأشرفُ علمٍ تعلَّمَه آدم - عليه السلام - هو أن يعلم أسماء الله تعالى الحسنى؛ لأنها داخلةٌ في مفهوم الأسماء كلها.



وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس، ﴿ ثُمَّ عَرَضَهُمْ ﴾ يعني عرض أسماء جميع الأشياء التي علمها آدم من أصناف الخلق[1]،
وفي الحديث عن أنسٍ مرفوعًا: ((فيأتون آدمَ فيقولون: أنت أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء))[2].



فهي أسماء لتنزيه الله تعالى بالحسنى، وليست لإدراك الماهية، ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 103]؛ وإنما لتحصيل الدعاء بها، يقول سبحانه: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 180]، فبهذا العلم يتوصل الإنسان لأشرف المقاصد وهو العبادة الصحيحة لله تعالى، وبه يتوصل الإنسان إلى جناب الله، وولايته له سبحانه، فعن أبي أُمَامة يرفعه قال:
((اسم الله الأعظم الذي إذا دُعِي به أجاب في سور ثلاثٍ: في البقرة، وآل عمران، وطه))[3]،
وهكذا يحظى الإنسان بأشرف العلوم عن الله تعالى، وبه يُصْلِح دنياه وآخرته.



بل إن الإنسان ليتمكنُ بعلمه الذي تعلمه من ربِّه من تسخير كل شيء بأمر ربه له، ولأجل إرضاء ربه سبحانه، حتى إنه ليتمكن من فعل أشياءَ تَفُوقُ في قدرتها الجنَّ لو ظل محافظًا على ما آتاه الله تعالى من علم، ويشهد لذلك طلب سليمان ممن حوله من الملأ الإنسِ والجنِّ أن يأتوه بعرش ملكة سبأ (بلقيس)، فأجابه الذي آتاه الله تعالى علمًا من الكتاب بأسرع من إجابة الجن له، قال سبحانه: ﴿ قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 38 - 40].



كذلك من العلم الذي علَّمَهُ الله تعالى للإنسان تلك العلوم المرتبطة بالبيئة والكون والكائنات، وهو ما نسميه بـ "علوم الجيولوجيا، والفلك، والطبيعة، والأحياء، والفيزياء"، قال سبحانه: ﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 19]،

ولعل منطق الطير والنمل كل ذلك مما آتاه الله تعالى لنبيه سليمان - عليه السلام - وكذلك في تعليم سليمان منطق الطير آيةٌ لأهمية تعلم اللغات الخاصة بالشعوب والقبائل، قال سبحانه: ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾ [النمل: 16]،
كذلك من العلم تعليمُ الله تعالى ليعقوب ويوسف تأويلَ الأحاديث، قال سبحانه:
﴿ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 68]،
وقال سبحانه: ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101]،
وكذلك من العلوم التي يتعلمها الإنسان من الله تعالى علم القضاء والحكم والسياسة، قال تعالى:
﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 79]،
وكذلك من هذه العلومِ العلومُ الحِرفِيَّةُ، كالنجارة مثل نبي الله نوح، والبناء كما تعلمه ذو القرنين،
والحدادة مثل نبي الله داود، قال تعالى:
﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 80]، وهكذا.



وبالجملة، فإن طلب العلم الذي يُتَوصل به إلى عبادة الله، وتعبيد الناس لله، وتحقيق مصلحتهم في الدنيا والآخرة - هو أشرف العبادات، وأسهلها طريقًا إلى الجنة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا، سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لَتَضعُ أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإن العالم لَيَستغفرُ له من في السموات ومن في الأرض، والحيتانُ في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وَرَّثُوا العلم؛ فمن أخذه، أخذ بحظ وافر))[4].



ولما كانت ضروب العلم كثيرة، وقد ظهرت الحاجة لأن يتعلم المجتمع المسلم هذه العلوم بالجملة، وإلا أصابه الضعف في جانب من جوانب الحياة والعيش أو الدين؛ أَجمع العلماء على أن طلب العلم فريضة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم))[5]،
لكن لما كان تحصيل الإنسان لكل العلوم على المستوى الفردي متعذرًا، لكن تحصيل ذلك على مستوى الأمة ممكن، استطاع العلماء أن يقسموا العلوم إلى فرض كِفَائِي، وفرض عينيٍّ، فقالوا: إن الفروض العينية في طلب العلم هو ما يُتَوصل به إلى خشيته سبحانه؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 28]،
وذلك سواء أكان هذا العلم دنيويًّا أم أُخْرَوِيًّا؛ ذلك أن أبواب العلوم الشرعية كثيرة، ويكفي المسلمَ أن يتعلم منها ما يستطيع أن يعبد اللهَ تعالى عبادة صحيحة بعقيدة سليمة وأخلاق حسنة،
وأما غير ذلك من أبواب التخصص في العلوم الشرعية، فيكفي أن تنفِرَ لها فِرْقَةٌ من العلماء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122]،
فأفاد بأن التفقه في الدين مع عِظَمِ أجره وشأنه؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((من يُرِدِ الله به خيرًا، يُفَقِّهْهُ في الدين))[6]، فإنه ليس فرضًا على الكافة؛ وإنما هو فرض كِفَائِي يكفي أن يتعلمه من كل فرقة من المسلمين طائفةٌ منهم، أما بالنسبة للعلوم الدنيوية، فلا بد أن يتخصص كل منا في أحد هذه العلوم، ويكفي قومَه حاجتَهم من هذا العلم؛ كالطب والسياسة والنجارة والهندسة... إلخ، ويشهد لذلك أمْرُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- لزيدٍ بتعلم السريانية، فعن زيد بن ثابت قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أتُحْسِن السريانية؟))، فقلت: لا، قال: ((فتعلَّمْها؛ فإنه يأتينا كتب))، فتعلَّمَهَا في سبعةَ عَشَرَ يومًا [7]،
وعن زيد بن ثابت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يتعلم كتاب اليهود، حتى كَتَبْتُ للنبي -صلى الله عليه وسلم- كُتُبَهُ، وأقرأْتُهُ كتبَهُم إذا كتبوا إليه [8].



ومن جهة أخرى يتعين الانتباه في طلب العلم إلى مقاصده وأغراضه، فقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من كل علم يتعلمه الإنسان لغير مرضاة الله تعالى، كأن يتعلم العلم ليصيب به دنيا أو يمدحه الناس، وليس قصده من العلم طاعة الله تعالى بإخلاص، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أول الناس يُقْضَى يوم القيامة عليه ثلاثة...، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأُتِي به فعرَّفَه نعمه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلمتُ العلم وعلَّمتُه وقرأت فيك القرآن، قال: كذبْتَ، ولكن تعلمتَ العلم ليقال: عالم... ثم أمر به فسُحِب على وجهه حتى ألقِيَ في النار))[9].



وهو ما يسميه المولى سبحانه بالعلم الظاهر من الحياة الدنيا، وليس له شأن بالوصول إلى الآخرة، يقول سبحانه: ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ [الروم: 7]،
فكل علم يعلمه الإنسان مُنْبَتِّ الصلة عن وحي السماء عُرْضَةٌ لأن يعتريَهُ العطب وتصيبه الآفات.



أما ذلك العلم الذي يتعلمه الإنسان بطريق الوحي من الله تعالى عن طريق الرسل والكتب المنزَّلة، فهو - بلا شك - علم معترَف به، حيث يرقى به الإنسان لمرتبة خَلَقَهُ الله لأجلها ليكون خليفة في هذا الكون العظيم، وذلك سواء أكان هذا العلم يُصْلِح شأن الدنيا أو شأن الآخرة ما دام أنه مقصود شرعًا، حيث يصحح العبدُ نيته فيطلب علوم الدنيا لأجل تحقيق مصالح الناس وخدمتهم، ويشهد لذلك أمْرُ الله تعالى لنبيه نوحٍ بصنع السفينة؛ فَتَعَلُّمُهُ صناعةَ السفن، وإتقانُهُ هذا العمل حتى لا تَغرَقَ في الطوفان - لَيَشْهَدُ أنه تعلم هذا العلم لا لأجْلِ دنيا؛ وإنما لأجل طاعة الله تعالى، ويُقَاس على ذلك كل علم يتعلمه العبد طاعةً لله تعالى، ويكون كذلك إذا ما توصل به إلى تحقيق غرض شرعي، قال سبحانه: ﴿ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ﴾ [هود: 38،37].



فإن كانت صناعة السفن تتطلب جُهْدًا ووقتًا وعلمًا لا يتحصل عليه العبد إلا بعد الدراسة والفكر والعمل، فهو علم يتعبد به لله تعالى، إذا كان الغرض من صناعتها تحقيق مصلحة معتبرة شرعًا، مثل إنقاذ المسلمين من الطوفان، وغير ذلك مما يجوز القياس عليه، ويَسْهُل القياس على ذلك مثل علم الطب، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((تداوَوْا عبادَ الله، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء))[10]،
وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله لم يُنْزِلْ داء أو لم يخلق داء، إلا أنزل أو خلق له دواء، علِمه من علمه، وجهِله من جهله إلا السامَ))، قالوا: يا رسول الله، وما السامُ؟ قال: ((الموت))[11]، وهكذا.



أما إذا كان عِلْمُه الذي تعلمه خارجًا عن هذا المصدر، ولم يمرَّ على مراكز تصحيح المعلومات في المخ، ثم خرج عن الإنسان في صورة خاطئة، فإنه لا مراء أن هذا العلم هو أول دليل على طغيان الإنسان، يقول - سبحانه وتعالى -: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ﴾ [العلق: 6]،
وعندئذٍ يشرع الإنسان في الخروج عن المنهج الصحيح الذي شرعه الله تعالى له؛ ذلك أن الإنسان إذا وصل إلى مرحلة معينة من العلم، فإنه يريد أن يستغني بعلمه عن التعليم، يقول سبحانه: ﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 76]، فإذا ما وجد عليمًا عليه [من هو أعلم منه] جادله بالباطل، يقول سبحانه: ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ﴾ [الكهف: 54]، وهنا يحصل منه الطغيان.



كما أن من أسباب طغيان الإنسان بعد أن يأتيه العلم أن ينسى شكر ربه، وحق العباد عليه، وهذا الذي أوقع قارون في الهلكة لمَّا طغى بماله ولم يعط الفقراء حقهم الذي فرضه الله لهم، قال تعالى: ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ [القصص: 76]،
وتأمل ماذا قال حين نظر إلى ماله وملكه بإعجاب: ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ﴾ [القصص: 78]،
فنسب فضل هذا المال الذي آتاه الله تعالى لعلمه، ولم ينسب الفضل لله؛
ولذلك رد الله عليه، فقال سبحانه:
﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾
[القصص: 78].



كذلك، فإن من أسباب الطغيان بالعلم أن يستغنيَ المرء بما علمه عن أن يتعلم شيئًا جديدًا، يقول سبحانه: ﴿ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 7]، فهذا هو الظرف الذي يجعل الإنسان يطغى بعد أن آتاه الله تعالى من العلم ما لم يكن يعلمه، حيث يستغنى بنفسه عن غيره [12]،
قال ابن عاشور: "والاستغناء: شدة الغنى، فالسين والتاء فيه للمبالغة في حصول الفعل؛ مثل استجاب واستقر"،
وقال: "وعلة هذا الخُلُق أن الاستغناء تُحَدِّثُ صاحبَهُ نَفْسُهُ بأنه غير محتاج إلى غيره، وأن غيره محتاج، فيرى نفسه أعظم من أهل الحاجة، ولا يزال ذلك التوهم يربو في نفسه حتى يصيرَ خُلُقًا حيث لا وازع يَزَعُهُ من دين أو تفكير صحيح، فيطغى على الناس؛ لشعوره بأنه لا يخاف بأسهم؛ لأن له ما يدفع به الاعتداءَ من لأمة سلاح وخدم وأعوان وعفاة ومنتفعين بماله من شركاءَ وعُمالٍ وأُجَرَاءَ، فهو في عزة عند نفسه".



وقال الشيخ مصطفى العدوي: (رآه) ترجع إلى نفسه؛ أي: إن الإنسان إذا رأى نفسه مستغنيًا عن الخلق، بدأ في التكبر عليهم والطغيان، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ ﴾ [فصلت:51]،
ويؤيده أيضًا قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ ﴾ [الشورى:27]،
فهذا دأب الإنسان، يبدأ في الطغيان إذا رأى نفسه مستغنيًا عن الناس"[13]؛
ولذلك كان من دعاء داود - عليه السلام -: ((اللهم إني أعوذ بك من غنًى يُطغي، ومن فقر يُنْسِي، ومن هوًى يُرْدِي، ومن عمل يُخزي))[14].


[1] الشوكاني في فتح القدير ج1 ص 71، ابن كثير ج1 ص 224، الطبري ج1 ص 485.

[2] رواه البخاري ج13 ص 391 رقم 4116.

[3] رواه الطبراني في المعجم الأوسط ج8 ص 192 رقم 8371، وصححه الألباني: الجامع الصغير ج1 ص99 رقم 981.

[4] رواه أبو داود ج10 ص 49 رقم 3157، وصححه الألباني: الجامع الصغير ج1 ص 1125 رقم 11243.

[5] رواه ابن ماجه ج1 ص 260 رقم 220، والطبراني في المعجم الكبير ج10ص 195 رقم 10461، وصححه الألباني: الجامع الصغير ج1 ص736 رقم 7360، وصحيح ابن ماجه ج1 ص 44 رقم 183.

[6] رواه أحمد في مسنده ج28 ص 104 رقم 16894، ورواه عبدالله بن عباس: الصحيح المسند ص 618 قال المحدث الوادعي: صحيح على شرط الشيخين، وصححه الألباني: الجامع الصغير ج1 ص 1156 رقم 11558.

[7] رواه الحاكم في المستدرك، ج3 ص 477 رقم 5781، وصححه الذهبي في التلخيص، وصححه الألباني: السلسلة الصحيحة ج1 ص364 رقم 187.

[8] رواه البخاري ج 22 ص 133 رقم 6656 باب "ترجمة الحكام، وهل يجوز ترجمان واحد؟".

[9] رواه مسلم ج10 ص 9 رقم 3527، ورواه النسائي في سننه الكبرى ج6 ص 478، والرواية له، وصححه الألباني: الجامع الصغير، ج1ص378، رقم 3777، والصحيح الجامع رقم 2014، والسلسلة الصحيحة ج10ص6 رقم 3518.

[10] رواه ابن حبان ج13 ص426 رقم 6061، والترمذي ج7ص349 رقم 1961، وصححه الألباني: الجامع الصغير ج1 ص525 رقم 5241.

[11] رواه الحاكم في المستدرك ج 4ص441 رقم 8205، السلسلة الصحيحة ج2 ص 394 رقم 1650، وقال: الحديث بشواهده صحيح.

[12] قال ابن عاشور ﴿ أَنْ رَآهُ ﴾ متعلق بـ "يطغى" بحذف لام التعليل؛ لأن حذف الجار مع "أن" كثير وشائع، والتقدير: إن الإنسان ليطغى لرؤيته نفسه مستغنيًا.

قال الرازي: قال الفراء: إنما قال: ﴿ أَنْ رَآهُ ﴾، ولم يقل: رأى نفسه، كما يقال: قتل نفسه، لأن (رأى) من الأفعال التي تستدعي اسمًا وخبرًا، نحو الظن والحسبان، والعرب تطرح النفس من هذا الجنس فنقول: رأيتني، وظننتني وحسبتني، فقوله: ﴿ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ من هذا الباب.

قال الطبري: "وكذلك تفعل العرب في كل فعل اقتضى الاسم والفعل، إذا أوقعه المخبر عن نفسه على نفسه، مكنيًا عنها فيقول: متى تراك خارجًا؟ ومتى تحسبك سائرًا؟ فإذا كان الفعل لا يقتضي إلا منصوبًا واحدًا، جعلوا موضع المكنى نفسه، فقالوا: قتلت نفسك، ولم يقولوا: قتلتك ولا قتلته".

[13] سلسلة التفسير لمصطفى العدوي ج97 ص 4.

[14] مصنف ابن أبي شيبة ج10 ص 276 رقم 29992.




د. أحمد مصطفى نصير

شموخ الكلمة 12-02-2019 05:20 PM

بارك الله فيك لطرحك القيم والمفيد
جزاك الله خير الجزاء
اجعلها في موازين اعمالك
55:

الغريبة 12-15-2019 03:28 AM

وفيكِ يبارك الرحمن شموخ
اسعدني مرورك اشكرك لطيب دعاءك
ولكِ بمثل .. ودي وتقديري

10:

ريماس 12-16-2019 06:58 AM

جزاك الله خير ونفع بك .‘
وجعله في موآزين حسنآتك ..
ورفع به درجآتك على هذآ الطرح القيم ..‘
لا حرمنآالله توآجدك

نواره 01-23-2020 12:18 AM

موضوع رائع ومعلومات مفيدة كثيرا
ستعود بالفائدة لجميع الاعضاء
نتمنى منك مزيدا من العطاء والابداع

الغريبة 03-26-2020 03:57 PM

جزاكم الله خيرا اخوتي واحبتي في الله
سعيدة بتعطيركم لمتصفحي لا حرمتكم
ودي وتقديري واحترامي ودعواتي لكم

أدمنت قربك 03-27-2020 11:50 AM

جزاك الله خيرا

الغريبة 04-01-2020 11:02 AM

https://upload.3dlat.com/uploads/13341504555.gif

انسان و ملاك 06-06-2020 06:53 PM

الغريبة


جزاك الله خيراً وجعل طيب ما قدمت

في ميزان اعمالك الصالحه

يارب

كل الشكر اختي

وارفة البيان 06-06-2020 07:02 PM

مَاهِيَةُ الأَمْرِ : حَقِيقَتُهُ وَطَبِيعَتُهُ وَصِفَاتُهُ الجَوْهَرِيَّةُ
علم الله الأنسان مالم يعلم

جزاك الله الخير عزيزتي كالعادة طرح قيم
من الطريف ان كلمة ماهية بالفارسيه تعني الشهريه ومصدرها ماه وهي نفس الكلمة المتداولة في اللهجة المصريه
534:


الساعة الآن 03:27 PM بتوقيت الرياض

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. Designed & TranZ By Almuhajir
new notificatio by 9adq_ala7sas
دعم فني استضافه مواقع سيرفرات استضافة تعاون