منتديات وهج الذكرى - صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في مدينة نابولي بولاية كمبانيا

صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في مدينة نابولي بولاية كمبانيا
صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في إيطالية (15)

إقليم كامبانيا:

هي أحد الأقاليم العشرين، المُكَوِّنة للتراب الإيطالي، ويقع في جنوب غرب إيطاليا، ويُطِلُّ على البحر التيراني من جهة الغرب، وهو يقع إلى الجهة الغربية، والجنوبية الغربية لإقليم بوليا، ويقع شمال غرب إقليم كالابريا، ومن أشهر مدنه: مدينة نابولي، وهي عاصمة الإقليم، ومدينة ساليرنو، ومدينة بينيفنتو، ومدينة أمالفي، ومدينتة سورينتو، وكل منها كان له تاريخ مع الفتوحات الإسلامية كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

مدينة نابلي:

هي عاصمة إقليم كامبانيا[1]، وأكبر مدن جنوب إيطاليا، وتُطِلُّ من جهة الغرب على خليج نابولي المعروف باسمها، والمفتوح بدوره على البحر التِّيْرانِي، وقد وصل الفاتحون المسلمون من الأغالبة إلى مدينة نابولي قديمًا.

قال الإمام ابن الأثير[2] في حوادث سنة ثمان وعشرين ومائتين، تحت عنوان (ذِكْرُ غزوات المسلمين في جزيرة صِقِلِّيَّة) : في هذه السنة سار الفَضْل بن جعفر الهمداني في البحر، فنزل مَرْسي مسيني- وهو يُطِلُّ من جهة صِقِلِّيَّة على المضيق المُسَمَّى باسمه بين صِقِلِّيَّة وإيطاليا- وبَثَّ السَّرايا، فغمنوا غنائم كثيرة، واستأمن إليه أهل نابل- أي نابلي- وصاروا معه، وقاتل الفَضْل مدة سنتين، واشْتَدَّ القتال، فلم يقدر على أخذها، فمضى طائفة من العَسْكر، واستداروا خلف جَبَل مُطِلٍّ على المدينة، فصعدوا إليه، ونزلوا إلى المدينة، وأهل البلد مشغولون بقتال جعفر، ومن معه، فلما رأى أهل البلد أن المسلمين دخلوا عليهم من خلفهم، انهزموا، وفُتِح البلد، انتهى.

وقد ذكر الكتاني رحمه الله تعالى [3] أن الأغالبة هاجموا نابولي سنة837 م، وعاودوا مُهاجمتها مرة أخرى فيما بين سنتي 856، 860 م[4].

وقال ابن عذاري[5]: وفيها- أي في سنة ست عشرة وثلاثمائة- غزا صابر[6] من صِقِلِّيَّة إلى بلد الروم، فافتتح موضعًا يُعْرَف بالغِيْران، وقلعة الحسب، واحتوى على ما فيهما، وزحف إلى سلير[7]، فصالحه أهلها بمال، وديباج، ثم توجه إلى نابل، فصالحوه أيضًا بمال، وثياب، ثم صَدَر إلى صِقِلِّيَّة.

ولم تكن علاقة مدينة نابولي بجيرانها من المسلمين عِلاقة عداء وقتال على طول الخَطِّ، بل حَدَث بينها وبين جيرانها من المسلمين في بعض الفترات نَوْع من الحِلْف؛ لاعتبارات سياسية، واقتصادية.

فبعد أن سيطر الأغالبة على أغلب جزيرة صِقِلِّيَّة، قام تحالف بين حكومة بَلِرم الإسلامية، والمدن الإيطالية الموجودة على ساحل إقليم كامبانيا، ولاسيما مدينة نابلي، وربما يكون قيام هذا التحالف؛ نتيجة للمساعدات التي قَدَّمَتْها سُفُن بَلِرم لأهل نابولي، في صراعهم ضد عدوهم على البَرِّ، أمير بنفنتم اللُّمْباردي.

ويُحْتَمَل أيضًا أن يكون سبب هذا التحالف: ما كان هناك من صِلات تجارية قديمة بين هاتين المدينتين- نابولي وبنفنتم- وبين مُسْلِمي شمال إفريقية، رغم اعتراضات بيزنطة على تلك العلاقات وقتذاك.

وأيًا كانت أسباب هذا التحالف؛ فإن صداقة نابولي كانت عظيمة القيمة لمسلمي صِقِلِّيَّة؛ لأنها أضعفت في لحظة حاسمة قوة أسطول بيزنطة في مياه البَحْر التِّيْرانِي[8]، كما أن تَخَلِّي نابولي عن بيزنطة، يُفَسِّر عَجْز القوات البحرية البيزنطية عن قطع الطريق على أسطول أفريقي، كان يحمل حاكمًا جديدًا لمدينة بَلِرم عام 835 م، كما يُفَسِّر نجاح الغارة التي قامت بها الوحدات الإسلامية على الجُزُر الأيولية في تلك السنة ذاتها.

وقد استولى المسلمون على مدينة ميسينا[9] في عام 843 م، وكان ذلك بمساعدة من سُفُن نابلي، وسيطروا على المَضِيْق بين كالابريا وبين صِقِلِّيَّة، ويظهر أنه لم تكن بمياه صِقِلِّيَّة قوات بيزنطية بحرية، تكفي لحماية هذا المركز الهام من هجمات المسلمين[10].

وقد كان تحالف المسلمين مع نابولي سببًا في تمكينهم من القيام بغارات على وسط إيطاليا، وجنوبها[11].

ولكن تحالف نابولي مع مُسلمي صِقِلِّيَّة لم يَدُم طويلًا؛ إذ تَخَلَّت عن تحالفها مع المسلمين في صِقِلِّيَّة بعد أن ساعدتهم على الاستيلاء على ميسينا.

وربما يكون سبب ذلك التَّخَلِّي: اتخاذ المسلمين قواعد لأساطيلهم في سواحل نابولي، وكانت هذه القواعد بالقرب من نابولي؛ بحيث هَدَّدَت أَمْنها، وتَعَرَّضَتْ لتجارتها؛ ولهذا عَقَد سرجيوس دوق نابولي حِلْفًا مع المدن البحرية المجاورة، وهي: أمالفي، وجايتا، وسورينتو، واشتركت هذه المدن في تكوين أسطول هزم المسلمين في البحر التيراني، وأجبرهم على التَّخَلِّي عن مراكزهم في جزيرة بونزا، قرب نابولي، وفي ليكوزيا، إحدى رؤوس خليج ساليرنو[12].

ولكن بعدما وضعت نابلي، والمدن المجاورة لها حَدًّا لتوغل المسلمين في السواحل الإيطالية، عادت فاستأنفت توثيق علاقاتها بالمسلمين كما كانت، واستمرت كذلك لنحو عشرين سنة تالية، أو تزيد[13].

أنظار العثمانيين تتجه إلى نابولي:

بعد أن فتح السلطان العثماني محمد الفاتح رحمه الله تعالى قلعة أوترانتو في جنوب إيطاليا، وصارت مركز لواء- سنجق عثماني- بدأت المفاوضات لاستسلام نابولي قبل وصول الغزوة السادسة والعشرين من الغزوات المُسَمَّاة بالهمايونية[14]، ولكن نابولي لم تستسلم صُلحًا، فغادر السلطان محمد الفاتح إسلامبول في 25 إبريل سنة 1481م، واتخذ من مرج السلطان "سلطان جايري" في منطقة أُسْكُدار الآسيوية البحرية قاعدة لتجهيز حملة إيطاليا، ولكنه توفي في نفس العام، فلم يُكْمِل ما بدأه[15].

وقد دخلت الدولة العثمانية في زمن السلطان سليمان القانوني في حلف مع فرنسا؛ لمحاربة شارلكان إمبراطور النمسا، ومُلحقاتها، وكان الاتفاق بين الدولتين يقضي بأن: تجعل الدولة العثمانية وِجْهَة حروبها: بلاد نابولي، وجزيرة صقلية، وإسبانيا، عِوضًا عن مهاجمة النمسا، التي تتحد جميع إمارات، وممالك ألمانيا للمُدافَعة عنها؛ إذ هي مع استقلالها جزء من التحالف الألماني، وأن تدخل جيوش فرنسا بلاد إيطاليا من جهة إقليم بيمونتي بشمال غرب إيطاليا، حينما تدخلها الجيوش العثمانية من جهة مملكة نابولي.

ولكن فرنسا حنثت في اتفاقها كما مَرَّ بيانُه، وذِكْرُ عِلَله، عند الحديث عن فتح العثمانيين لأوترانتو[16].

-------------------------------------------------------
[1] ظاهر صنيع الإدريسي في نزهة المشتاق (ص353،352) أنه يعدها من إقليم كالابريا، أو أبوليا؛ فإنه قال بعد أن وصف المسافات بين العديد من مدن الجنوب الإيطالي - ومنها مدينة نابل أو نابولي: وكل هذه المدن المذكورة، والمعاقل المشهورة، معاقل لا تنال، متقاربة الأحوال، وحواضر مقصودة بأصناف التجارات معمورة، خصبها زائد، وأمنها راكد، وأكثرها - لا بل كلها - من بلاد قلورية، وبلاد بولية، وبولية، وقلورية: أسماء الأرضين، والأقاليم،انتهى.

وبمثل قوله قال ابن سعيد المغربي في كتاب الجغرافيا (ص61،60): وفي شمالي صقلية بلاد قلورية، في آخر الجزء الثاني من الإقليم الخامس، وتقع مدينة نابل المشهورة بذلك الساحل، حيث الطول أربع وثلاثون درجة، وثلاثون دقيقة. وبالقرب منها سلرن - أي ساليرنو - التي يُجْلَب منها البندق الكبير، وفي غربي نابل مدينة روما، قاعدة البابا،انتهى. ووصفه لروما بوقوعها في غربي نابولي صحيح، مع مراعاة كونها بالجهة الشمالية منها، فهي على الصحيح في شمال غربي نابولي.

وقد وصفها الحميري في الروض المعطار (ص571) بأنها عمل عظيم في البَرِّ الكبير - وسبق أن ذكرنا أن إيطاليا عَبَّر عنها غير واحد من مؤرخي المسلمين وجغرافييهم بالأرض الكبيرة - من بلاد الروم، وبينها وبين مَرْسى مسينى - أي ميسينا - من جزيرة صقلية اثنان وثلاثون ميلًا، قال: ومدينة نابل هذه حَسَنة، أَوَّلِيَّة، عامِرة، ذات أسواق نافِقة السِّلَع، وافِرة البضائع والأمتعة، انتهى.

ووصف الحميري نابولي في (ص342) عند الحديث عن مدينة شكلة بإيطاليا بأنها مدينة ساحلية.

[2] الكامل (6/75).

[3] انظر: المسلمون في أوروبا وأمريكا (ص155).

[4] المرجع السابق (ص156). ووقع في المصدر المذكور أن الهجوم الأخير كان على أيدي الحفصيين في التاريخ المذكور، وهو سبق قلم على أغلب الظن؛ فما يخفى على مثل الكتاني رحمه الله أن الحفصيين لم تنشأ لهم دولة إلا بعد ذلك التاريخ بما يزيد على الثلاثة قرون، وأن القوة الإسلامية التي كانت تتحرك في فتوح هذه المنطقة في تلك الفترة كانت قوة الأغالبة، وربما شارك في ذلك مسلمو جزيرة كريت، وأحيانًا يُدْلي مسلمو الأندلس بدَلْو في تلك البقاع. وقد تابع الخطأ المطبوع في كتاب المسلمون في أوروبا وأمريكا للكتاني: سيد عبد المجيد بكر في كتابه المسمى: الأقليات المسلمة في أوروبا (ص106). ووقع فيه خطأ آخر، وهو قوله: استولى الأغالبة على نابولي سنة 222 ه-.

[5] في كتابه البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب (1/194).

[6] هو صابر الفتى، كان مولى لابن قرهب، ثم خدم عبيد الله المهدي العُبَيْدِي، فولَّاه على القيروان بعد عزل فتاه المسمى نسيم سنة 314 ه-، وكانت له عدة وقائع مع الروم، وهو الذي جَلَب جوهر الصقلي. انظر: المرجع السابق (ص221،194،191).

[7] لعل المراد بها ساليرنو، وهي قريبة من نابولي.

[8] يقع البحر التيراني غرب شبه جزيرة إيطاليا، في المنطقة البحرية بينها وبين صقلية، وسردانية، وكورسيكا، وجنوب فرنسا. وقد كان ضغط المسلمين على البحر التيراني، وشواطئ إيطاليا الغربية شديدًا لعشرات السنين، ولم يَخِفّ عن هذه المنطقة إلا في عام 880 م، حين ظهر أسطول بيزنطي كبير في مياه صقلية، قُدِّر له أن يظفر ببعض النجاح، وهَدَّد هذا الأسطول طريق التجارة بين المسلمين وبين مدن جنوب إيطاليا، بل استطاع أن يستولي خلال هذه العمليات على كميات كبيرة من زيت الزيتون، حتى قيل: إن ثمن هذه السلعة تدهور تدهورًا ملحوظًا في أسواق القسطنطينية، ويظهر أن البيزنطيين أقاموا هذا الأسطول بصفة دائمة في المياه الغربية عند ساحل مدينة ثِرْمة، الواقعة في الساحل الشمالي لصقلية، ويعتبر وجوده مسؤولًا عن عودة نابولي في 884 م إلى ولائها القديم لبيزنطة، بعد أن انصرفت عنه زمنًا طويلًا، لكن الوجود القوي لذلك الأسطول البيزنطي لم يستمر طويلًا؛ فقد مُنِي بهزائم ساحقة أمام القوات البحرية الإسلامية فيما بعد كما سيأتي بيانه عند الحديث عن سيطرة المسلمين على البحر الأدرياتيكي، والتيراني، والأيوني. انظر: المرجع السابق (ص220،219).

[9] وهي بصقلية، وتطل على المضيق المسمى باسمها بين صقلية وإيطاليا.

[10] انظر: القوى البحرية والتجارية لأرشيبالد لويس (ص214،213). وقد كان من أسباب نجاح المسلمين في مياه البحر التيراني: انشغال القسطنطينية بالمشاكل في أماكن أخرى؛ فقد حدثت إذ ذاك هجمات إسلامية على المراكز البيزنطية في كل من البَحْرَين: الأيوني، والأدرياتي. انظر: المرجع السابق.

[11] انظر: القوى البحرية والتجارية (ص218،217).

[12] انظر: المرجع السابق (ص216،215). وقد قال (ص216): ولعل المقاومة التي لقيها المسلمون عند شواطئ نابولي، شجعت المسؤولين البيزنطيين في صقلية - أي الجزء الذي ظل تحت حكم صقلية بعد فتح أكثرها - على إرسال حملة بحرية صغيرة عام 848 م، مكونة من عشر سفن حربية، بلغت خليج موندلو، الذي يبعد ثمانية أميال من بَلِرم ذاتها.

[13] انظر: المرجع السابق (ص216).

[14] انظر: المرجع السابق (ص216).

[15] انظر: مقالًا بعنوان (الواحة العثمانية الخامسة) للدكتور محمود السيد الدغيم، والذي نُشر في (ص19) من ملحق التراث، في جريدة الحياة بلندن، يوم السبت 27 ربيع الأول سنة 1426 ه-،الموافق 4 حزيران عام 2005م.

[16] انظر: تاريخ الدولة العلية العثمانية لفريد بك المحامي (ص234).

رابط الموضوع: http://www.alukah.net/culture/0/26338/#ixzz51T26jXTo