منتديات وهج الذكرى - الوسطية و الاعتدال

الوسطية و الاعتدال

من بين ما يثير الانتباه في كثير من الظواهر الطبيعية والانسانية أن هناك حالات غريبة في الخَلق كأطول رجل أو أسمن امرأة وهكذا...

والملاحظ أن هذه الحالات الغريبة لا تعمِّر في كثير من الأحيان ،وهذه الملاحظة تشير إلى أمر مهم جدا وقاعدة كونية هي أن الأمر الغير عادي والخارج عن الطبيعة لا يستمر طويلا. وهذه الملاحظة ، وإن كانت في مجال الخَلق والطبيعة؛ فهي تصدُق أيضا في مجال الأفكار والممارسات الإنسانية؛ فمثلا صاحب الفكر المُتطرف لا يستطيع الاستمرار؛ فهو إما ينتهي بأن يُدمِّر نفسه؛ أو يتعب ويملّ، ويترك ما كان عليه بالكلية، ومن ثم يصير منحلا أو بدون هوية.

ولهذا حذَّر الاسلام من التطرف والغلو لأنه لا يستمر، ولا يؤدي إلى النتيجة المطلوبة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا ، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وشيء مِنَ الدُّلْجَةِ " رواه البخاري، ومسلم.

والمنهج الصحيح الذي يكفل لصاحبه الاستمرارية في الحياة هو منهج الوسطية والاعتدال؛ لأن كلا من التطرف من جهة، والتسيب والانحلال من جهة أخرى كلاهما مذمومان، لأنهما يُخرجان بصاحبهما عن المسار الصحيح للتدين.

وعلامة التدين الصحيح أن صاحبه يعيش بين الناس بطريقة عادية؛ يُحب الناس ويُحبونه، ويألَفهم ويألفونه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " المؤمن يألف ويُؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس" [1]

أما المُتطرف ففي غالب الأمر يتحاشاه الناس وينفِرون منه؛ لأنهم لا يَسلمون من انتقاداته وملاحظاته القاسية اتجاههم، إن لم يَسلموا من أحكامه عليهم بالفسوق والعصيان والكفر في الحالات القصوى.

وهذا يجعل الشخص المتطرف لا يميل إلا إلى أقرانه، ولا يرتاح إلا في وسطهم، ويحس بعزلة عن مجتمعه. وهذا ليس من الدين في شيء فالنبي صلى الله عليه وسلم – وهو القدوة - عاش بين الناس وهم كفار، وظل يحاول هدايتهم وإرشادهم قدر الإمكان، ولم يترك فرصة للتحاور معهم. فكان عليه الصلاة والسلام يستغل كل موسم حج لملاقاة العرب، وإخبارهم بالدين الجديد ودعوتهم له، وطالما لاقى منهم عنَتا وقسوة وازدراء واستهزاء؛ ولم يُثنه ذلك عن المُضي في رسالته، حتى قيَّض الله له من المدينة المنورة رجالا صدَّقوه وآمنوا به، وعاهدوه على النصرة حتى النهاية.

وقبل النبي صلى الله عليه وسلم كان الأنبياء يُبعثون وسط أقوامهم؛ يحاولون هدايتهم وإخراجهم من الظلمات بدعوتهم إلى التوحيد.

وهكذا يظهر أن الدين عموما هو وسط الناس ومع الناس، لا يمكن العزلة عنهم لا بصومعة ولا جبل من حجر أو من فكر متزمت. وصدق الله تعالى إذ يقول: (فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اَ۬للَّهِ لِنتَ لَهُمْۖ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ اَ۬لْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِے اِ۬لَامْرِۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَ۬للَّهِۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ يُحِبُّ اُ۬لْمُتَوَكِّلِينَۖ)

هذا عن المتطرِّف فكريا، أما المنحل والمتسيب في الدين، فهو وإن ظهر أنه يتعايش مع الناس ومتساهل معهم ويعيش بشكل طبيعي؛ فهو في حقيقة الأمر يعيش في دائرة شهواته ويتبعها بغير ميزان ولا حساب لشيء؛ فهو يعيش بغير منهاج يُنظم له حياته، قال تعالى:( اَرَٰٓيْتَ مَنِ اِ۪تَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَو۪يٰهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاًۖ )

إن الالتزام بدين الاسلام بشكله الصحيح الوسطي يجعل الانسان إنسانيا حقا؛ يعيش مع الناس وللناس، ويحتسب علاقاته في ميزان حسناته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تحقِرن من المعروف شيئا ولو أن تلق أخاك بوجه طلق" ويقول عليه الصلاة والسلام: " إنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا ".

ويظهر من فضل حسن الخلق ما يُعطيه الاسلام من أهمية لعلاقة الانسان مع الغير؛ فلا عبرة بعبادات من صيام وصلاة وحج لا تنعكس على سلوك الانسان وتعامله مع الغير؛ ولهذا دخلت امرأة تصلي وتصوم النار لأنها تؤذي جيرانها.

إن الإسلام يجعل الانسان يعيش على منهج واضح وهدف محدد يسعى له في كل عمل وفي كل حركة وسكنة؛ هو عبادة الله والاصلاح في الارض لخدمة الناس قال تعالى: ( وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون).

والمسلم متى وضع هذا الهدف أمام عينه فإنه يحس - من ناحية -بالفخر والتكريم لأنه يستشعر أن خَلقه مرتبط بالله تعالى وبالكون كله المسبِّح لله، وهو من ناحية ثانية يحس بالسمو لأنه مميز عن غيره بهدف كبير؛ وهذا ما يجعله يترفع عن النقائص وصغائر الأمور، كما يترفع عن الارتباط بالدنيا؛ إذ هي فقط قنطرة للآخرة ومزرعة لها. والعمل للآخرة لا يترك مجالا لقلب المؤمن للتعلق وجدانيا بالدنيا؛ إذ تَقَرَّر في ضميره بأنه ( كل شئ هالك إلا وجهه).

وخلاصة الأمر لنعِش كما أمرنا الله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَآ ءَات۪يٰكَ اَ۬للَّهُ اُ۬لدَّارَ اَ۬لَاخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَ۬لدُّنْي۪اۖ وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اَ۬للَّهُ إِلَيْكَۖ وَلَا تَبْغِ اِ۬لْفَسَادَ فِے اِ۬لَارْضِ إِنَّ اَ۬للَّهَ لَا يُحِبُّ اُ۬لْمُفْسِدِينَۖ )

أي لنعِش في الدنيا متمسكين بمنهج الإسلام الحنيف دون غلو ولا تقصير، فهو السبيل إلى رضا الله تعالى. وفقنا الله لكل خير. آمين.