منتديات وهج الذكرى

منتديات وهج الذكرى (https://www.wahjj.com/vb/index.php)
-   ❦ وهـج القصص والخيال ❦ ❧ (https://www.wahjj.com/vb/forumdisplay.php?f=14)
-   -   بيت من لحم.. (https://www.wahjj.com/vb/showthread.php?t=26543)

لجين 01-22-2019 11:36 AM

بيت من لحم..
 
[align=center][tabletext="width:100%;background-image:url('http://us.cdn3.123rf.com/168nwm/lembit/lembit1201/lembit120100043/11917425-abstract-grunge-grey-background-with-spring-floral-ornament-on-black.jpg');border:10px inset silver;"][cell="filter:;"][align=center]
[align=center][tabletext="width:80%;background-color:black;border:10px ridge silver;"][cell="filter:;"][align=center]


بيت من لحم....قصة.يوسف ادريس


الأرملة طويلة بيضاء ممشوقة، في الخامسة والثلاثين. بناتها أيضا طويلات فائرات، لا يخلعن الثوب الكاسي الأسود بحداد أو بغير حداد. صغراهن في السادسة
عشرة وكبراهن في العشرين .. قبيحات ورثن جسد
الأب الأسمر المليء بالكتل غير المتناسقة
والفجوات، وبالكاد أخذن من الأم العود.

الحجرة رغم ضيقها تسعهن فى النهار، رغم فقرها الشديد مرتبة أنيقة، يشيع فيها جو البيت وتحفل بلمسات الإناث الأربع. في الليل تتناثر أجسادهن كأكوام من لحم دافئ حي، بعضها فوق الفراش، وبعضها حوله، تتصاعد منها الأنفاس حارة مؤرقة، أحيانا عميقة الشهيق.
الصمت خيم مذ مات الرجل، والرجل مات من عامين بعد مرض طويل. انتهى الحزن وبقيت عادات الحزانى وأبرزها الصمت.. صمت طويل لا يفرغ، إذ كان في الحقيقة صمت انتظار، فالبنات كبرن والترقب طال، والعرسان لا يجيئون. ومن المجنون الذى يدق باب الفقيرات القبيحات، وبالذات إذا كن يتامى؟ ولكن الأمل بالطبع موجود، فلكل فولة كيال ولكل بنت عدلها. فإذا كان الفقر هناك فهناك دائما من هو أفقر، وإذا كان القبح هناك فهناك دائما الأقبح، والأماني تنال .. أحيانا تنال بطول البال.
صمت لم يكن يقطعه إلا صوت التلاوة… يتصاعد في روتين لا جدة فيه ولا انفعال. والتلاوة لمقريء، والمقريء كفيف، والقراءة على روح المرحوم وميعادها لا يتغير.. عصر الجمعة يجيء بعصاه ينقر الباب، ولليد الممدودة يستسلم، وعلى الحصير يتربع. وحين ينتهى يتحسس الصندل، ويلقى بتحية لا يحفل أحد بردها، ويمضى. بالتعود يجيء.. بالتعود يقرأ.. بالعادة يمضي، حتى لم يعد يشعر به أو ينتبه إليه أحد..
دائم هو الصمت، حتى وتلاوة عصر الجمعة تقطعه أصبحت وكأنها قطع الصمت بصمت. دائم هو كالانتظار، كالأمل.. أمل قليل ولكنه دائم، فهو أمل في الأقل. دائما هناك لكل قليل أقل، وهن لا يتطلعن لأي أكثر.. أبدا لا يتطلعن.
يدوم الصمت حتى يحدث شيء.. يجيء عصر الجمعة ولا يجيء المقرئ. فلأي اتفاق مهما طال نهاية وقد انتهى الاتفاق.
وتدرك الأرملة وبناتها الآن فقط كنه ما تقدم، ليس فقط الصوت الوحيد الذى كان يقطع الصمت، ولكن أيضا الرجل الوحيد الذى كان ولو في الأسبوع مرة يدق الباب، بل أشياء أخرى يدركن.. فقير مثلهن هذا صحيح، ولكن ملابسه أبدا كانت نظيفة، وصندله دائما مطلي، وعمامته ملفوفة بدقة يعجز عنها المبصرون، وصوته قوى عميق رنان.
والاقتراح يبدأ: لماذا لا يجدد الاتفاق ومنذ الآن؟ ولماذا لا يرسل في طلبه هذه اللحظة؟ مشغول! فليكن، الانتظار ليس بالجديد. وقرب المغرب يأتي، ويقرأ وكأنه أول مرة يقرأ، والاقتراح ينشأ.. لماذا لا تتزوج إحداهن رجلا يملأ علينا بصوته الدار؟ هو أعزب لم يدخل دنيا، وله شارب اخضر، ولكنه شاب . وبالكلام يجر الكلام ، ها هو الآخر يبحث عن بنت الحلال.

البنات يقترحن والأم تنظر فى وجوههن لتحدد من تكون صاحبة النصيب والاقتراح. ولكن الوجوه تزور مقترحة – فقط مقترحة – قائلة بغير الكلام: أنصوم ونفطر على أعمى؟ هن مازلن يحلمن بالعرسان، والعرسان عادة مبصرون، مسكينات لم يعرفن بعد عالم الرجال، ومحال أن يفهمن أن الرجل ليس بعينيه.

- تزوجيه أنت يا أماه.. تزوجيه

- أنا؟ يا عيب الشوم!.. والناس؟

- يقولون ما يقولون.. قولهم أهون من بيت خال من رنين صوت الرجال.

- أتزوج قبلكن؟ مستحيل

- أليس الأفضل أن تتزوجي قبلنا، ليعرف بيتنا قدم الرجال فنتزوج بعدك؟ تزوجيه يا أماه

وتزوجته.. زاد عدد الأنفس واحدة، وزاد الرزق قليلا، ونشأت مشكلة أكبر.
الليلة الأولى انقضت وهما في فراشهما، هذا صحيح ولكنهما حتى لم يجسرا على الاقتراب.. ولو صدفة!.. فالبنات الثلاث نائمات، ولكن من كل منهن ينصب زوجا من الكشافات المصوبة بدقة إلى المسافة الكائنة بينهما.. كشافات عيون، وكشافات آذان، وكشافات إحساس. البنات كبيرات، عارفات ومدركات، والحجرة كأنما تحولت بوجودهن الصاحي إلى ضوء نهار. ولكن بالنهار لم تعد ثمة حجة، وواحدة وراء الأخرى تسللن ولم يعدن إلا قرب الغروب، مترددات خجلات يقدمن رجلا ويؤخرن رجلا، حتى يزددن قربا وحينذاك يدهشهن.. يربكهن.. يجعلهن يسرعن ضحكات.. قهقهات رجل تتخللها سخسخات امرأة.. أمهن لا بد تضحك، والرجل الذى ما سمعنه إلا مؤدبا خاشعا ها هو يضحك! بالأحضان قابلتهن ولا تزال تضحك، رأسها عار وشعرها مبلل ممشط ولا تزال تضحك، وجهها.. ذلك الذى أدركن للتو أنه كان مجرد فانوس مطفأ عشعش فيه العنكبوت والتجعيدات، فجأة أنار، ها هو أمامهن كلمبة الكهرباء مضيء. ها هي عيونها تلمع وقد ظهرت وبانت وتلألأت بالدمع الضاحك.. تلك التي كانت مستكنة فى قاع المحجر.
الصمت تلاشى واختفى تماما، على العشاء وقبل العشاء وبعد العشاء نكت تترى وأحاديث وغناء! صوته حلو وهو يغنى ويقلد أم كلثوم وعبد الوهاب، صوته عال أجش بالسعادة يلعلع.
خيرا فعلت يا أماه! وغدا تجذب الضحكات الرجال، فالرجال طعم الرجال.
نعم يا بنات، غدا يجئ الرجال ويهل العرسان. ولكن الحق أن ما أصبح يشغلها ليس الرجال أو العرسان ولكنه ذلك الشاب كفيف فليكن، فما أكثر ما نعمى عن رؤية الناس لمجرد أنهم عميان. هذا الشاب القوى المتدفق قوة وصحة وحياة، ذلك الذى عوضها عن سنين المرض والعجز والكبر بغير أوان.
الصمت تلاشى وكأن إلى غير رجعة، ضجيج الحياة دب. الزوج زوجها وحلالها وعلى سنة الله ورسوله، فماذا يعيب؟ وكل ما تفعله جائز، حتى وهى لم تعد تحفل بالمواربة أو بكتمان الأسرار. حتى والليل يجيء وهم جميعا معا، فيطلق العقال للأرواح والأجساد، حتى والبنات مبعثرات متباعدات يفهمن ويدركن وتتهدج منهن الأنفاس والأصوات، مسمرات في مراقدهن يحبسن الحركة والسعال.. تظهر الآهات فجأة فتكتمها الآهات.
كان نهارها "غسيل " في بيوت الأغنياء، ونهاره قراءة في بيوت الفقراء، ولم يكن من عادته أول الأمر أن يؤوب إلى الحجرة ظهرا، ولكن لما الليل عليه طال والسهر أصبح يمتد، بدأ يؤوب ساعة الظهر يريح جسده ساعة من عناء ليل ولى واستعدادا لليل قادم. وذات مرة بعدما شبعا من الليل وشبع الليل منهما ، سألها فجأة عما كان بها ساعة الظهر، ولماذا هي منطلقة تتكلم الأن ومعتصمة بالصمت التام ساعتها؟ ولماذا تضع الخاتم العزيز عليه الأن – إذ هو كل ما كلفه الزواج من دبلة ومهر وشبكة وهدايا – ولماذا لم تكن تضعه ساعتها؟
كان ممكنا أن تنتفض هالعة واقفة صارخة. كان ممكنا أن تجن. كان ممكنا أن يقتله أحد. فليس لما يقوله إلا معنى واحد، ما أغربه وأبشعه من معنى!
ولكن غصة خانقة حبست كل هذا وحبست معه أنفاسها.. سكتت. بآذانها التي حولتها إلى أنوف وحواس وعيون راحت تتسمع وهمها الأول أن تعرف الفاعلة. إنها متأكدة لأمر ما أنها الوسطى. إن في عينيها جرأة لا يقتلها الرصاص إذا أطلق.. ولكنها تتسمع الأنفاس الثلاثة تتعالى عميقة حارة كأنها محمومة.. ساخنة بالصبا تجأر، تتردد، تنقطع، أحلام حرام تقطعها أنفاس باضطرابها تتحول إلى فحيح .. فحيح كالصهد الذى تنفثه أراض عطشى، والغصة تزداد عمقا واحتباسا. إنها أنفاس جائعات ما تسمع، بكل شحذها لحواسها لا تستطيع أن تفرق بين كومة لحم حي ساخنة مكتومة وكومة أخرى. كلها جائعة! كلها تصرخ وتئن، وأنينها يتنفس ليس أنفاسا، ربما استغاثات. ربما رجوات.. ربما ما هو أكثر.
غرقت في حلالها الثاني ونسيت حلالها الأول.. بناتها! والصبر أصبح علقما، وحتى سراب العرسان لم يعد يظهر. فجأة ملسوعة ها هي كمن استيقظ مرعوبا على نداء خفي.. البنات جائعات! الطعام حرام صحيح ولكن الجوع أحرم.. أبدا ليس مثل الجوع حرام! إنها تعرفه.. عرفها ويبس روحها ومص عظامها، وتعرفه – وشبعت ما شبعت – مستحيل أن تنسى مذاقه.
جائعات وهى التي كانت تخرج اللقمة من فمها لتطعمهن… هي التي كان همها حتى لو جاعت أن تطعمهن، هي الأم، أنسيت؟

وألح مهما ألح تحولت الغصة إلى صمت. الأم صمتت ومن لحظتها لم يغادرها الصمت.
وعلى الإفطار كانت – كما قدرت تماما- الوسطى صامتة
وعلى الدوام ظلت صامتة
والعشاء يجيء والشاب – سعيدا وكفيفا ومستمتعا – ينكت لا يزال و يغنى ويضحك ولا يشاركه الضحك إلا الصغرى والكبرى فقط.
ويطول الصبر ويتحول علقمه إلى مرض ولا أحد يطل.
وتتأمل الكبرى ذات يوم خاتم أمها في أصبعها وتبدى الإعجاب به، ويدق قلب الأم وتزداد دقاته وهى تطلب منها أن تضعه ليوم، لمجرد يوم واحد لا غير. وفى صمت تسحبه من أصبعها. وفى صمت تضعه الكبرى في أصبعها المقابل.
وعلى العشاء التالي تصمت الكبرى وتأبى النطق
والكفيف الشاب يصخب ويغنى ويضحك، والصغرى تشاركه
ولكن الصغرى تصبح – بالصبر والهم وقلة البخت – أكبر، وتبدأ تسأل عن دورها في لعبة الخاتم، وفى صمت تنال الدور.

والخاتم بجوار المصباح… الصمت يحل فتعمى الآذان. وفى الصمت يتسلل الأصبع صاحب الدور ويضع الخاتم في صمت أيضا ويطفيء المصباح والظلام يعم، وفى الظلام تعمى العيون. ولا يبقى صاخبا منكتا مغنيا، إلا الكفيف الشاب. فوراء صخبه وضجته تكمن رغبة تكاد تجعله يثور على الصمت وينهال عليه تكسيرا. إنه هو الآخر يريد أن يعرف.. عن يقين يعرف. كان أول الأمر يقول لنفسه إنها طبيعة المرأة التي تأبى البقاء على حال واحد، فهي طازجة صابحة كقطر الندى مرة، ومنهكة مستهلكة كماء البرك مرة أخرى. ناعمة كملمس ورق الورد مرة، خشنة كنبات الصبار مرة أخرى. الخاتم دائم وموجود صحيح، ولكن وكأنما الأصبع الذى يطبق عليه كل مرة أصبع إنه يكاد يعرف، وهن بالتأكيد كلهن يعرفن، فلماذا لا يتكلم الصمت؟ لماذا لا ينطق؟
ولكن السؤال يباغته ذات عشاء، ماذا لو نطق الصمت؟ ماذا لو تكلم؟
مجرد التساؤل أوقف اللقمة في حلقه
ومن لحظتها لاذ بالصمت تماما وأبى أن يغادره
بل هو الذى أصبح خائفا أن يحدث المكروه مرة ويخدش الصمت. ربما كلمة واحدة تفلت فينهار لها بناء الصمت كله، والويل له لو انهار بناء الصمت
الصمت المختلف الغريب الذى اصبح يلوذ به الكل
الصمت الإرادي هذه المرة، لا الفقر، لا القبح، لا الصبر ولا اليأس سببه.
إنما هو أعمق أنواع الصمت، فهو الصمت المتفق عليه، أقوى أنواع الاتفاق ذلك الذى يتم بلا أي اتفاق.
الأرملة وبناتها الثلاث
والبيت حجرة
والصمت الجديد
والمقرئ الكفيف الذى جاء معه بذلك الصمت، وبالصمت راح يؤكد لنفسه أن شريكته في الفراش على الدوام هي زوجه وحلاله وزلاله وحاملة خاتمه، تتصابى مرة أو تشيخ، تنعم أو تخشن، ترفع أو تسمن، هذا شأنها وحدها، بل هذا شأن المبصرين ومسئوليتهم وحدهم! هم الذين يملكون نعمة اليقين، إذن هم القادرون على التمييز. وأقصى ما يستطيعه هو أن يشك، شك لا يمكن أن يصبح يقينا إلا بنعمة البصر، ومادام محروما منه فسيظل محروما من اليقين، إذ هو الأعمى، وليس على الأعمى حرج

أم على الأعمى حرج؟

[/align]
[/cell][/tabletext][/align]

[/align]
[/cell][/tabletext][/align]

همس المطر 01-22-2019 02:28 PM

رائعة من روائع الدكتور يوسف إدريس
إسلوب هالكاتب غريب ومبدع ورائع ومدهش
نقل راق لي كثيرا غاليتي
إحترامي وتقديري لكِ
الله يحفظك ويسعدك

روح 01-22-2019 06:52 PM

رائــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
فـ النقل والاختياار .. دائما جديدك مميز
تقديري

ريماس 01-22-2019 09:36 PM

قصه شيقه
سلمت الايادي
تحاااتي لكRoro44Com-Forums-Smi

لجين 03-06-2019 10:18 AM

شكراً لحضور انيق
انار متصفحي


الساعة الآن 11:59 PM بتوقيت الرياض

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. Designed & TranZ By Almuhajir
new notificatio by 9adq_ala7sas
دعم فني استضافه مواقع سيرفرات استضافة تعاون