عرض مشاركة واحدة
قديم 02-22-2012   #8


الصورة الرمزية الغزال الشمالي
الغزال الشمالي غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 218
 تاريخ التسجيل :  Apr 2011
 أخر زيارة : 07-10-2013 (07:01 PM)
 المشاركات : 2,111 [ + ]
 التقييم :  119
لوني المفضل : Cadetblue
شكراً: 0
تم شكره 2 مرة في 2 مشاركة
افتراضي



الفصل الرّابع


في الصّباح خرجَ جابر من المسجد بعد صلاةِ الفجر.. مستأذنًا ضيفَه في أنْ يغيب ساعةً منَ الزّمن..
وفيما عادَ صالح إلى النّوم، انطلَقَ جابر من فورِه إلى دربِ الميزاب.
وعندما وصلَ إلى الدّرب ألفاهُ خاليًا منَ النّاس؛ فجعلَ يتسكّع جيئةً وذهابًا مُتسلّيًا بذلك.. مُنتظرًا أنْ يرى أحدًا منَ النّاس ليسألَه..
وعندما انتشرَ النّورُ رأى دخانًا يتصاعد من أحدِ المنازل، فاتّجَهَ إليه وطرقَ الباب..
ليَفتحَ لهُ بعدَ بُرهة صاحب المنزل وقد بادرَهُ جابر بالسّلام ثمّ سأل:
- أينَ أجدُ بيتَ أسرةِ الشّيخ حسنة المغوليّ؟
أجابَ الرّجل:
- لا أعرفُ رجلًا اسمه حسنة المغوليّ.. لكن ها هنا شابٌّ منَ المغول.. اذهب واسألهُ عن صاحبك فربّما يعرفُه.
- وأينَ هو؟
أشارَ الرّجلُ إلى أحدِ المساكن وقال:
- هذا بيتُه.. وأظنُّ اسمَهُ عبد الصّبور، أو عبد الشّكور.. نسيتُ اسمَه!
ابتهجَ جابر فالاسمُ قريبٌ من اسمِ عبد القيّوم، وسأل:
- هل أجدُهُ هذهِ السّاعة؟
- نعم.. لقد اشتريتُ منهُ حطبًا عقبَ الصّلاة.
انصرفَ جابر وقد تزايدَت بهجَتُه؛ فالشّخصُ شابٌّ وحطّابٌ أيضًا.. إذًا.. عادَ عبد القيّوم إلى عملِ والدِهِ القديم.. المُتاجرَةُ بالحطَب..
وطرقَ جابر الباب.. ثمّ جعلَ يُصلحُ من هيئتِه ويُسوّي حزامَه وعِمامته.. وكانَ يَسمعُ بالدّاخل صوتَ الفأس وهي تقدُّ الحطبَ الغليظ..
وأعادَ جابر طرقَ الباب فانقطَعَ الصّوت.. وبعدَ بُرهةً فُتحَ الباب..
كانَ الذي فتحَ شابًّا مَغوليًّا حقًّا.. كانَ عاريَ الزّندين.. مصبوبَ العَرَق رغمَ لطافةِ الهواء..
لم يتكلّم جابر ممّا حدا بالشّابِّ أنْ يقول:
- مرحبًا يا أخي.. هل تُريدُ حطبًا؟
انتبَهَ جابر، فقال مُتداركًا:
- السّلام عليكم ورحمة الله، لقد ذهلتُ عنِ السّلام!
- وعليكم السّلام.. تفضّل.. عندي حَطَبٌ كثير.. جافٌّ تمامًا.
- لا، أنا لا أريدُ حطبًا!
صمتَ الواقفُ بالباب فيما تابعَ جابر:
- أريدُكَ أنتَ إنْ كنتَ مَن أبحثُ عنه!
- عمّن تبحثُ يا سيّدي؟
- أبحثُ عن عبدِ القيّوم بن حسنَة المغوليّ..
- إذًا أنا مَن تبحثُ عنه؛ أنا عبد القيّوم بن حسنة المغوليّ!
كان عبد القيّوم أقربُ لأن يكونَ طويلًا، عذبَ الملامح، وكانَ مفتول العضلاتِ رشيقًا، ناحلَ الخصر، ذا يدين خشنتين، ومظهرٍ خشنٍ يُناسبُه كحطّاب..
وكانَ كسائر المغول؛ ضيّق العينين لهُ قطعتا شعرٍ فوقَ زوايا فمِه.
وعندما خرجَ إلى جابر كانَ يعتصبُ عصابةً خضراء تندّت بالعَرق.. وكانَ فأسُه ما يزالُ في يدِه.. وقد جمدتْ عليه نظراتُ جابر
ثمّ انفرجَت أساريرُه وطافَت بذهنِه الذّكريات.. أهذا عبد القيّوم؟ لقد كبرَ ولم يعُد ذلك الطّفل
الذي يعهدُه! ولمّا طالَ الصّمتُ من جابر تحدّثَ "عبد القيّوم" قائلًا:
- مرحبًا بك.. هل كنتَ تبحثُ عنّي إذًا؟
فقال جابر:
- أحقًّا أنتَ عبد القيّوم بن حسنة؟
- نعم يا رجل.. قل ماذا وراءك؟!
ووسطَ دهشتِه هجمَ جابر عليه وضمّهُ ثمّ أفلَتَه ليسألَه:
- ألم تعرفني بعدُ يا فتى؟
قال عبد القيّوم بدهشَة:
- لا!
- ألَا تذكرُ غلامًا كانَ يلعبُ معك في أزقّةِ الحطّابين.. وأنتَ لم تبلغ الحادية عشرة.. وتُشاكسانِ النّاس وتصطادان الفئران معًا قُربَ النّهر؟
- أصدقاءُ الصِّبا كثيرون، وكلّهم قد لعبتُ معهم واصطدنا الفئرانَ معًا.. وشاكسنا النّاسَ أيضًا!
- أنا جابر الحبشيّ.. ألَا تذكُرُني؟
لم يبحث عبد القيّوم في ذاكرتِهِ طويلًا فقد تذكّر صديقَهُ القديم سريعًا وهتَف:
- بلى، تذكّرت.. أحقًّا أنتَ جابر؟!
وانقضَّ عليه بدورِه، وضمّهُ بعُنف ناسيًا أنَّ الفأسَ معه.. وجعلَ يربت على كتفِه بالفأسِ بخشونة.. وهو يرحّبُ به.. ممّا جعلَ جابرًا يصيح:
- الفأس.. الفأس.. كتفي يا رجل!
وعندما أطلقَهُ قال عبد القيّوم:
- لقد مضى خمسةً عشر عامًا على آخرِ لقاءٍ لنا!
- حقًّا لقد تغيّرتَ وكبرت.. واختلفتَ عمّا كنتُ أعهدُك!
- وهل كنتَ ترجو أنْ أظلًّ صَبيًّا أبدَ الدّهر؟!
- وأصبحتَ قويًّا.. لقد كدتَ تكسرُ أضلاعي!
- مَن يعمل حطّابًا ويضرب بالفأس كلَّ يوم لا بدَّ أنْ تشتدّ قوّةُ زنديه.
وعندما هدأت ضجّةُ اللقاء بينَ الصَّديقين القديمَين.. واستنفدا عباراتِ التّرحيب وأسئلة الأحوال.. قالَ عبد القيّوم:
- يا لي من بخيل! لقد تركتُكَ واقفًا بالباب.. تفضّل يا رجل!
- لا.. ليسَ الآن.. أعلمُ أنّه وقتُ خروجك إلى السّوق لبيعِ بضاعتِك.. سآتيكَ في وقتٍ أمتع لك فحديثي إليكَ طويلٌ ومهم.
- لقد علمتُ أن ما جاءَ بكَ إلّا أمرٌ جليل.. وإلّا فما الذي يدعو رفيقَ الولاة وصديقَ
السّلاطين، وبعد كلّ هذه السّنين أنْ يتذكّر حطّابًا متواضعًا ويزورَه!!
قالها باسمًا ثمّ دعا جابرًا ثانيةً للدّخول فدخل فهو لم يكن بحاجةٍ إلى إلحاحٍ طويل.. وكان متحرّجًا أنْ يشغل
عبدَ القيّوم عن حضورِ السّوق، لكنّ فكرةً عنّت له عندما رأى أكوامَ الحطَب.. فسألَ على الفور:
- كم قيمة هذه الأحطاب كلِّها؟
- عشرون دينارًا..
ثمّ قال وهو يضحك:
- لماذا؟ هل تودُّ شراءها؟
- نعم.. كلّها.
- إذًا ستترك صحبةَ الأكابرِ وأهلَ الشّأن.. وتعزمُ على الاتّجار في الحطب؟!
- لا يا رجل، كلّ ما في الأمر أنَّ لي حظوةً عند الوالي ابن يونس.. فأبي كان من رجالِ أخيه أبي الحسين.. وقد حصلتُ على حرّيّتي منه.
أشرقَ وجهُ عبد القيّوم بالبهاء؛ تأثّرًا بما صار إليه جابر من الحريّة ولاحت لجابر في ملامحه سيما طاهرة دهش لها وقال عبد القيّوم معبّرًا:
- الحمد لله يا جابر.. تلكَ نعمةٌ ألّا يشاركك أحدٌ في نفسِك.
- الحمدُ لله، ذلك من فضلِ الله عليّ..
ثمّ أضاف:
- قل.. هل بعتني أحطابَكَ كلَّها بأربعين دينارًا؟
- هذا كثير! إنّها لا تساوي ما ذكرت!
- إذًا فقد اشتريتُها وأصبحتُ لي.. وهذا ثمنُها.
وبعد أنْ عدَّ أربعين دينارًا من كيسه.. التقطَ يدَ عبد القيّوم الذّاهل ووضع الثّمنَ فيها؛ فقال عبد القيّوم:
- سأظلُّ شهرًا كاملًا لا أبيعُ شيئًا!
- هذا ما أردتُ.. فالآن أستطيع أنْ أتحدّثَ معك بما أريد وأنا مطمئنٌّ أنّي لم أسلبكَ وقتَك وأشغلك عن سوقك.
وبعد أنْ جلسَ جابر، غابَ عبد القيّوم داخلَ البيت ثمّ عاد ومعهُ أرغفةٌ ساخنةٌ غريبةُ الشّكل وإيدام، وقال:
- هذا خبزُنا نحنُ المغول.. لقد أُعجب النّاسُ بخبزِ والدتي فأصبحت تبيعُ لهم حتّى أصبحنا نفكّر في شراءِ هذه الدّار من صاحبِها.
- بربحِ هذا الخبز؟!
- والحطبَ أيضًا.
- وماذا هناك أيضًا؟
- لا شيء.. سوى بستان استأجرناه من قبل في بطحاءِ النّهر أيّام والدي.
- والبستانُ لابن حذيفة.. ثمّ تركتموه إلى أرضِ العالية..
- أنتَ تعرفُ سيرَتَنا!!
- لقد بحثتُ عنكَ بحثًا جيّدًا.. والبارحةُ كنتُ عندَ ابنِ حذيفةَ نفسَه وأصغرُ أولادهِ صالح رجع معي إلى بغداد.
- صالح أعرفه؛ إنّه مدلّلٌ من قِبلِ أبيه.. وغريبُ التّصرّف!
- لكنّه يكرهُ ذلك الدّلال ويضيقُ به، ويشتهي الأخطار!
تأكّد عبد القيّوم بأنّ ثمّةَ دافعًا مهمًّا خلف جابر وزيارتِه.. لكنّه أتمَّ حديثَهُ السّابق:
- ثمّ أصابت أبي علّة.. ومرض؛ فاعتنيتُ بالبستان وحدي ثمّ انتقلنا إلى بستان آخر في أرضِ العاليةِ كما
تعرف.. وعندما توفّي والدي رجعنا إلى بغداد حيث ترانا الآن.
- ألم يُرزق والدُكَ بأولادٍ غيرِك وغير محمّد أخيك وأختِكَ عائشة؟
- لا.. لا يوجد سوانا.
- ومحمّد ألا يساعدُك في كسبِ العيش؟
عندها زفرَ عبد القيّوم زفرةً حارّةً وقال بحزن:
- محمّد؟ كم سبّبَ لنا محمّد من المتاعب!
- أذكرُ أنّه كان مشاغبًا..
- لقد نبتَ نبتًا سيّئًا رغمَ حرصِ والدي على إصلاحِه!
- وماذا يعملُ الآن؟ هل أستطيعُ رؤيتَه؟
- لن يراهُ أحدٌ بعد الآن!
- مات؟!
- نعم.. هربَ من أبي ثمّ قُتل.
- هرب؟
- هربَ قبل حوالي خمس عشرةَ سنة، أي بعد فراقِنا بقليل.
- وأينَ ذهب؟
- لا أدري.. سوى ما يشاع، فقد افتقدناه ذات يوم وبحثَ عنه والدي فلم يجده، ومضت أيّام وأسبوع وأسابيع
ثمّ شهورٌ وسنوات.. ولم يعد، ويئسنا من عودته..
ورغم صغرِ سنّي ذلك الزّمان إلّا أنّني فرحت بذلك؛ فقد كان يؤذيني ويشاكسُ أمّي بل يضربُها إذا غضب!
إنّ أحدًا لم يحزن لهلاكه وفراقِه إلّا أمّي فقد انتابتها الأوجاع وزحفت إليها الشّيخوخةُ بعد موتِه.
- وما الذي دفعهُ للهروب؟
- ربّما يكون ما حدث تلك الليلة هو سببُ هروبِه.. فقد كان والدي يُعنّفهُ على تركهِ الصّلاة.. بل ويضربُه، وقد
كان ذلك ممكنًا وهو صبيّ فلمّا شبَّ قليلًا وقارَبَالعشرين صار قويًّا؛ يهدر كالجمَل ولا يستطيعُ أحدٌ الاقترابَ منه إذا هاج..
وذاتَ ليلة ضربهُ والدي ضربًا مؤلمًا.. وبِتنا بشرِّ مساءٍ ذلكَ الوقت. ولمّا انتصفَ الليل استيقظتُ مذعورًا على صراخٍ وعويل
فذهبتُ إلى حيث كانت أمّي وأبي وأختي يتعاركون مع محمّد.. لقد اجتمعوا عليه وهم يضربونه بالنّعالِ والعصيّ
وهو يحاولُ النّيلَ منهم.. وفهمتُ فيما بعد أنّه حاولَ "الاعتداء" على عائشة فصرخَتْ واجتمعوا عليه.. وفي صباحِ ذلكَ اليوم اختفى!
- ألم تسمعوا عنه شيئًا بعد ذلك؟
- لقد ذكر بعض المسافرين لوالدي أنّهم رأوه في القافلة التي كانوا فيها متّجهًا إلى مصر أو إفريقيا.. وبعد ستّةِ أشهر
من رحيلِه قال شخصٌ من أهلِ الثّقة يتجر بين مصر وبغداد إنّه رآه ثملًا في خمّارة في دمياط بمصر..
ثمّ أكّد لنا بعد عودته من إحدى تجاراتِه أنّه قُتلَ في مشاجرةٍ بينه وبين آخر حال سكرهما في دمياط نفسها.
- إنّه حديثٌ مؤلمٌ يا عبد القيّوم..
- حقًّا.. ورغم ذلك فقد فرح الكثيرون من جيراننا لمقتلِه.
- وعائشة؟ تلك الصبيّةُ الحسناء.. ماذا فعلت؟
ابتسم عبد القيّوم بعدما كدّرته القصّةُ الحزينة وقال:
- لقد كبرت عائشة وأصبحت امرأة وتزوّجت.
- إنّها تُشبه أجدادَها المغول؛ فقد كانت تعتدي عليّ دائمًا، وتتلذّذُ بشدِّ شعري إذا كان منفوشًا..
فإذا صرختُ من الألم انفجرَتْ ضاحكةً في غايةِ السّرور!
لم يتمالك عبد القيّوم نفسه من الضّحك وقال:
- لا تأسَ؛ فقد انتقمتُ لكَ منها.. فعندما بلغتُ الثّالثةَ عشرةَ من عمري أحسستُ أنّي أصبحتُ رجلًا يجبُ
أنْ يُظهرَ قوّتَه؛ فصرتُ أشدُّ شعرَها فإذا صرخَتْ من الألم جعلتُ أضحكُ عليها..
ثمّ أضاف:
- لقد تزوّجَتْ رجلًا من أهلِ بطحاء النّهر.. جاءَ ليعمل مساعدًا لوالدي في البستان في بدايةِ مرضِه، لكنّه
لم يلبث أنْ خطبَ عائشةَ وتزوّجها.. وقد رُزقَت منه أطفالًا.
ابسمَ جابر وهو يقول:
- أرجو ألّا يكونوا قد أشبهوا أخوالَهم؟!
ابتسم عبد القيّوم بدورِهِ وقال:
- من حسنِ الحظّ أنّ والدَهم كان شابًّا هادئًا مسالمًا وقد انصرفوا إليه.
- ووالدتك؟
- إنّها تعيشُ معي، وهيَ التي صنعَتْ هذا الطّعام فأنا لم أتزوّج بعد..
وحكمَ الصّمتُ جلستهما فترة.. حتّى قال عبد القيّوم:
- لقد أخبرتُكَ بكلِّ أمري فأخبرني عن سببِ زيارتِك؛ فأنا متأكّدٌ أنّ خلفَكَ
أمرًا هامًّا!
أخبر جابر عبدَ القيّوم بالقصّةِ كاملة؛ ابتداءً من خبرِ السّجينين اللذين هربا وحدّثا الخليفةَ بشأنِ فظائعِ قانين وانتهاءً بخطّةِ
الهجومِ على قصرِ حاكمِها الظّالم. وانتدَبَه أنْ يكونَ الفدائيَّ المجاهد الذي يتسلّل - بأيّ عذر - داخلَ القصر ويكتشفَه،
وحثّه على النّهوض والمشاركة في هذه المهمّة وأنّه ركيزةُ هذه الحملة وعمادها ومن الصّعوبة التي تقارب الاستحالة أنْ تتمّ إلّا به؛
فهو القادر على الدّخول بين جنود المغول دون أنْ يُكتشفَ مقصدُه وسيكونُ بعيدًا عن الشّكوك لأنّه يشبههم ويعرفُ لغتَهم.
وأضاف جابر قوله:
- لقد فُتح لي ولك يا عبدَ القيّوم بابُ المجدِ على مصراعيه.. فإنَّ مَن يأتي برأسِ شيّوم أو يقتله فسيكونُ له حُكمُ مدينةِ الأشبار، وهي
إحدى أعمالِ الشّامِ العامرة.. فإذا نجحتُ فستكونُ نائبي عليها.. هذا عدا ما ستحصلُ عليه منَ الجاه والمال والحَظوَة لدى القادةِ والأكابر..
واعلَم أن لا أحدَ ينافسني على هذا الأمر إلّا شابٌّ اسمُهُ يوسف بن محمّد.. وهو تحت إمرتي ومن عداد جندي..
- أليسَ هو ابنُ أختِ الوالي ابن يونس؟
- بلى.. هل تعرفُه يا عبدَ القيّوم؟ هل قابلتَه؟!
- لقد سمعتُ به لكنّي لم أرَهُ أبدًا.. إنّه يشتري منّا الحطَب ويُرسلُ غلمانَه إليَّ لهذا الشّأن، وهذا سببُ معرفتي به.. غيرَ أنّ ذلكَ كان أيّام حياةِ والدي.
حمدَ جابر اللهَ أنَّ يوسفَ لم يسبقهُ للفوزِ بعبدِ القيّوم، وتعجّبَ من فطنتِه.. وكيفَ أدركَ أنَّ عبدَ القيّوم صالحٌ لهذه المهمّة. وأضاف عبد القيّوم:
- لستُ أشكُّ أنّ هذا من الجهاد.. ونفسي تحدّثني بالجهاد منذ زمن.. وقد أذنَتْ لي والدتي في ذلك..
كما أنَّ إمامَ المسلمين هوَ مَن ندبَ إليه وكلّفَ به.. غير أنّي أريدُ جهادًا لا حظَّ للدُّنيا فيهِ يا جابر..
جهادٌ لم ينغمسْ في مطامعِ النّفسِ القريبة.. فأنا لستُ بطالبِ مجد إلّا مجدَ الآخرة.. ولا أبتغي مُدُنًا أحكمُها ولا أجرًا على بذلِ روحي..
أنا لا أريدُ إلّا الشّهادةَ في سبيلِ الله فإنْ عدمتها فأحبّ أنْ أرجعَ إلى فأسي وأحطابي ولا شيءَ غير ذلك.
شعر جابر باحتقارٍ خفيٍّ لنفسِه عندما صرَّحَ عبد القيّوم بسموِّ نيّتِه وصفائها وقارن بينها وبين غايته هو وجهاده الممزوجِ حتمًا
بحظوظِ الدّنيا والتّفكير في مغانم الحملة ومكاسبِها الدّنيويّة قبل التّفكير في كونِها جهادًا وبذلًا للرّوحِ في سبيلِ الله.
وأفرحتهُ تلكَ الموافقة غير المؤكّدَة من عبد القيّوم، ولتأكيدها قال:
- إذًا فأنتَ لا تُمانعُ منَ السّفر والانضمام إلينا؟
بعد تفكيرٍ قصيرٍ أجالَهُ عبد القيّوم في ذهنِه الصّافي رأى ألّا شيءَ يمنعُه من السّفر ويصدُّه عن المضيّ مجاهدًا في سبيلِ الله
سوى قيامِه على رعايةِ والدتِه العجوز.. ولهذا قال لجابر:
- إنّها يا أخي فرصةٌ لا ينبغي إهدارُها.. لكن والدتي مُسنّة فهل أترُكُها؟
ردَّ جابر على الفور قاطعًا على عبد القيّوم الطّريقَ إلى أيِّ عذر:
- ستأتي إليها جاريةٌ من قصرِ الوالي تنامُ عندَها وتخدمُها وتؤانسُها لحينِ عودتِك.
- لكنّها لا تقوى على عملِ الفأس!
- سيُجرَى لها رزقٌ مُرتّبٌ من بيتِ المال ما دُمتَ غائبًا عنها.
- فإنْ هلكتُ؟
- سيبقى رزقُها جاريًا مدى حياتِها، وتكونُ الجاريةُ لها.
سكتَ عبد القيّوم معاودًا التّفكير لكنّ جابر الملهوف على الموافقة حالَ بينه وبين أنْ يتردّد.. فهزّهُ بشدّةٍ وصاحَ به:
- قُل إنّك وافقت؟
وباستسلامٍ وابتسامةٍ ردَّ عبد القيّوم:
- وهل تركتني أقول شيئًا غير ذلك؟!
نهضَ جابر على الفور وقال ببهجةٍ عارمة:
- على بركةِ الله سننطلقُ مع أصحابِنا غدًا صباحًا قبلَ طلوعِ الشّمس.
وعندما صارَ بالباب ناداهُ عبد القيّوم:
- الحطب.. انتظِر.. لقد نسيتَ الحطبَ الذي اشتريتَه!
لكنّ جابر هتفَ له ضاحكًا وهو يحثُّ الخُطى في الممرّ:
- إنّه هديّةٌ لك مقابلَ السُّرور الذي أدخلتَهُ على قلبي.
ثمّ تمتمَ بخفوت وقد ابتعَد:
- السُّرور الذي أخشى أنْ يُنغّصَهُ يوسفُ بن محمّد!
بعدَ انصرافِ جابر لبثَ عبد القيّوم في مكانِه ذاهلًا عن الرّغيفِ الذي يقضمُه.. كانَ يُفكّرُ في الرّحلة القادمة
والتي سيكون مرتكزَ المغامرةِ فيها.. لم يكن الخطر هو ما يهمّه..
كانَ مشغولَ التّفكيرِ بوالدتِه.. كيفَ ستقضي أيّامها لحينِ عودتِه.. إنْ عاد! وكيف ستتحمّلُ الوحدة.. وانتظار الأيّام الطّويلة التي قد تُفضي إلى ما لا يسرُّها؟
وكأنّما كانت أمّه تسمعُ أفكارَه.. حينَ دخلَت عليه في فناء الدّار وضمّت ذراعيها إلى صدرِها المترهّل وجعلَت تتأمّلُ
وحيدَها والهواء الذي تحرّكَ فجأة يتمايلُ بشعرِها الأشيبِ الرّماديّ.. وشرعتْ تقولُ بلغتِها وهيَ تبتسِم:
- إذًا فقد قرّرتَ الذّهابَ إلى بلادِ فارس؟
فرفعَ عبدُ القيّوم رأسَه وقال:
- هل سمعتِ حوارَنا يا أمّاه؟
- سمعتُ كلّ شيء.. وأستطيعُ أنْ أعرفَ ما الذي تُفكّرُ به!
ثمّ تابعَت:
- تُفكّرُ بي.. ويُكدّرُ خاطرُك أنْ تذهبَ وتتركَني وحيدة.. أليسَ كذلك؟
قفزَ عبدُ القيّوم إليها وقبّلَها وقال:
- دائمًا تستطيعين معرفةَ ما يجولُ في قلبي! وعلى كلٍّ فأنا لم أذهب بعد وأستطيعُ البقاءَ إنْ كنتِ ترغبينَ في ذلك.
- كلّا يا بُني، لا تجعلني حجرَ عثرةٍ في طريقِك وامضِ إلى حيثُ تشاء.. لكن كُن حذرًا؛ فتلكَ البلادُ مليئةٌ بالأخطار.
ضحك عبد القيّوم وهو يقول:
- أمّاه، كيف أكونُ حذرًا وأنا ذاهبٌ لأواجهَ الموت، وأقتحم قصرًا محشورًا بالأعداء، وأتسلّلُ بداخلِه وأنتِ تعلمين شراسةَ أهلِنا المغول!
ببراءةٍ ردّتِ العجوز:
- لا تقل إنّهم أهلنا! بل هم أعداؤنا.. لقد كان والدُك يؤنّبني على مثل هذا الكلام!
- حقًّا يا أمّاه.. إنّ أهلَنا هم المسلمون وهؤلاء أعداؤنا لعدائهم المسلمين.
حملَتْ أمّ عبد القيّوم بقايا الطّعام وهي تتذكّر زوجَها وأبناءها الذين يتناقصون تباعًا.. فبدءًا بالزّوج الذي اغتالَه
المرض، ثمّ محمّد الذي قُتلَ فاسقًا في بلادٍ بعيدة، ثمّ عائشة التي تزوّجَت
ومكثَتْ مع زوجها بعيدًا عن بغداد.. وها هو عبد القيّوم يُبدي لها رغبتَه في الجهاد ويستطيع إقناعها بأنّ دولةَ بني العبّاس وعلى رأسِها
الخليفة ووالي بغداد قد وضعوا فيه ثقتهم لإنجاح هذه المهمّة التي تبنّوها إكرامًا لمسلمين مضطهدين..
وقد كان عزاؤها الوحيد في رحيل ابنها سموّ الغاية التي ستتحقّق من وراء هذه الحملة..
فبطشُ شيّوم لا يخفى عليها واغتيالُه إراحة للمسلمين وإزاحة ظلال ثقيلة عنهم.
واحتسبَت صبرَها عند الله فهي قد آمنت مع زوجِها ووجدَت سعادةَ روحِها في الإيمان..
وكانت تتوق أنْ تتقرّبَ إلى الله بشيء.. وها قد وجدَتْه.
لقد بثّت حزنها إلى الله وأفضَتْ إلى ربِّها بمكنونِ صدرِها من آلامِ السّنين الماضية.. وكأنّما كوفئت على ذلك عاجلًا فانداحَ
في نفسِها شعورٌ بالفخر بأنْ يعتمد المسلمون وعلى رأسِهم الخليفة والوالي على ابنِها في هذا الأمر.. وحبسَتْ دموعَ
اللوعة في محاجرِها.. وعندما سمعَت صوتَ عبد القيّوم يخرجُ من البيت ويغلق الباب ذاهبًا للاستعداد لرحلةِ الغد..
أذنَت لدموعِها بالانسياب وشرعَت تنشج بصوتٍ مسموع.
أمّا جابر فوصل إلى بيتِه، وعندما صارَ قريبًا من الباب سمعَ صوتًا غريبًا.. فأسرعَ باتّجاه الدّار ليسمعَ صوتَ عراك.. وصالح يصيح:
- لنْ أدعكَ تأخذُ شيئًا!
ربطَ جابر فرسَه على عجل، وشهرَ سيفَه، ودخلَ ليجد صالحًا يتعاركُ مع رجلٍ طويلٍ ملثّم لا يظهرُ من وجهه سوى عينيه، فصاح عندها:
- أتقتحمُ بيتي يا شرّير؟!
وجعل يصاوله بمساعدةِ صالح.. لكن الرّجل تمكّن من التقاط جرّةٍ فارغة وقذها بقوّة لتشجَّ جبينَ جابر وتُسقطه ثمّ لاذَ بالفرار.. وانطلقَ صالح خلفَه..
وبقيَ جابر يُعالجُ الجرحَ الصّغير الذي أحدثتهُ الجرّة التي تحطّمَت على هامتِه.
وعادَ صالح دون أنْ يظفرَ بالرّجل، فقال في خيبة:
- لقد أفلتَ اللئيم! ليتني أدري لماذا يهاجموننا بهذا الشّكل!
فقال جابر شاكرًا ومعتذرًا من ضيفِه:
- لقد أبليتَ معي بلاءً حسنًا.. حتّى إنّي أفسدتُ عليكَ نزهتَك.
- أعتقدُ أنّه ممّن هاجمَنا البارحة.. فقد كان يطالبني بالرّقعة.. لقد تركتَها أنتَ عند رأسِك.. وكنتُ أنا قد استيقظتُ لتوّي فسمعتُ
رجلًا يتحرّك داخل البيت وظننتُه أنتَ وما أنْ رأيتُه بهذه الهيئة حتّى علمتُ أنّه لصّ.. فألقيتُ بنفسي عليه وكانتِ الرّقعةُ
في يدِه فاستوليتُ عليها ثمّ جعلنا نتعارك.. كان هذا قبل أنْ تدخلَ بقليل.
- لقد علموا أنّي غير موجودٍ بالدّاخل فتجرّؤوا على الدّخول ولم يتوقّعوا أنْ يكونَ بانتظارِهم ليثٌ مثلك!
- لماذا كلّ هذا الحرص على الرّقعة؟! أخبرني فلم يعد بوسعكَ أنْ تكتمَ الأمرَ عنّي!
وأخبرَهُ جابر بقصّة الرّقعة فلم يعد بوسعِهِ حقًّا أنْ يُبقيَ الأمرَ مخفيًّا عن صالح.. ولم يعد بوسعِهِ أيضًا أنْ يُخفيَ إعجابَهُ به. وعلّق صالح:
- ولهذا كنتَ جادًّا في البحث عن عبد القيّوم المغوليّ!
- نعم.. وقد وجدتُه بحمدِ الله بل تناولتُ عندَه الإفطار قبل قليل.
- وتركتَ ضيفَكَ للجوع ومصارعة اللّصوص؟!
- أبشر يا صالح؛ أنتَ تستحق الكثير.. وعندي خادمٌ ماهرٌ في إعداد الطّعام وسيعدُّ لكَ إفطارًا جيّدًا!
- وردًّا على بُشراك.. أبشّرُك أنّكَ قد أحسنتَ الاختيار؛ فعبد القيّوم خيرُ مَن يرصد لمهمّةٍ صعبةٍ كهذه.. شجاعةً وحزمًا.
- لقد وافق.. وكنتُ متفائلًا أنّه سيوافق حتّى قبل أنْ أحدّثَهُ بشيء!
ثمّ أضاف:
- وما أريدُه منك أنْ تكتم ما سمعتَ ورأيت ولا تُخبر به أحدًا.. فما أخبرتُك إلّا مكافأةً لك.
- لنْ أخبرَ أحدًا البتة.. لأنّني سأرافقُكم!
- تذهبُ معنا في رحلةٍ خطيرةٍ كهذه؟!
- نعم..
- هذه مجازفةٌ غيرُ مأمونة العواقِب!
- أريدُ أنْ أقتربَ منَ الخطر ولو مرّة.. وأختبرُ نفسي بأسفار طويلة ومفاوز بعيدة حتّى أعرف أيَّ شيءٍ أكون.
- ووالدك؟
- لنْ يعلَم.
وبشيءٍ منَ الشّفقة تأمّلَهُ جابر.. وفكّرَ هل يعتمدُ على قليلِ تجربةٍ مثلِه؟ إنّه مشدود الجسد، قد نبتَ في نعمةٍ
وصحّة.. لكنّه كانَ نحيلًا، ناعمَ المظهر، وكفّاهُ لَيّنتان يتضّحُ أنّهما لم يلامسا خشنًا منذ وُلد!
وأراد جابر أنْ يُعفي نفسَه من عناء صحبتِه فقال:
- لا.. أنا أرفض؛ أنتَ ما زلتَ فتى.. فلا تخاطر بحياتِك حتّى يشتدَّ عودُك!
- حتّى أنت؟
- أنا لا أقصدُ إلّا نفعَك؛ فأنا أعلمُ بما في سفرِنا هذا من الأخطار..
وهنا هتفَ صالح بحدّة:
- قُل لي يا هذا مَن الذي أنقذَكَ البارحةَ من أسيافِ الرّجال.. وحرسَ بيتَكَ هذا الصّباح؟!
ولم يتكلّم جابر، بل فوجئ بالهجومِ المُقنع.. وواصل صالح كلامَه:
- وقل لي مَن الذي منعَ اللّصوصَ مِن أخذِ الرُّقعة؟
اقتنعَ جابر.. ولم يرَ بُدًّا من إجابتِهِ إلى ما طلب؛ فاندفاعُ صالح وشجاعتِه المكنونة التي كان دلال أبيه
يغمطها.. قد استوليا على إعجابِه، لكنّه أراد أنْ يُقرّره بالمسؤوليّة فقال:
- وافقتُ بشرط أنْ تُخبرَ والدَكَ وتستأذنَه.
فقال صالح:
- لو علمَ أبي بما جرى البارحة وما جرى الآن لفقدَ رشدَهُ ثلاثةَ أيّامٍ بلياليهنّ!
- إذًا ستكونُ مسؤولًا عن نفسِك منَ الآن..
- ومَن قالَ إنّك كنتَ مسؤولًا عنّي طوالَ الوقتِ الماضي؟!
ردودُكَ حادّةٌ يا صالح، ولا يستطيعُ أحدٌ أنْ يُطيلَ جدالَك!
وأوصى جابر صالحًا أنْ يتجاهلَ يوسف بن محمّد ولا يُحدّثَهُ بشيءٍ ممّا جرى حفاظًا على سيرِ الرّحلة وطلبًا
لنجاحِها.. ونوى هوَ ألاّ يُراجعَ الوالي ويُحدّثَه في اعتداءاتِ يوسف ومهاجماتِه.

يتبع





 
 توقيع :
قال تعالى {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }النجم28

دائما النية الطيبة لاتجلب معها إلا المفاجآت الجميلة
لاتغيروا أساليبكم فقط غيروا نياتكم فعلى نياتكم ترزقون



رد مع اقتباس