عرض مشاركة واحدة
قديم 03-30-2012   #18


الصورة الرمزية الغزال الشمالي
الغزال الشمالي غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 218
 تاريخ التسجيل :  Apr 2011
 أخر زيارة : 07-10-2013 (07:01 PM)
 المشاركات : 2,111 [ + ]
 التقييم :  119
لوني المفضل : Cadetblue
شكراً: 0
تم شكره 2 مرة في 2 مشاركة
افتراضي




الفصل العاشر



في صباح تلك الليلة التي اختصم فيها محمد مع والده وأمه وأخته هرب إلى حيث لا يدري.. ووجد أقدامه تقودانه إلى مصر.. وهناك
عاش حياة معذبة.. متشرداً.. متنصلاً من الدين عقيدة وشريعة.. وصاحب الفساق والمنحطين.. ومارس عملاً مهيناً فأصبح ساقياً
للخمر، وحاول إنشاء خمارة مع رجل آخر وعملا لفترة قصيرة.. ثم اختلفا وتشاجرا.. وفي لحظة غضب
قتل محمد شريكه.. وكان ذلك أول لقاء له مع البطش والدماء!
ثم اقتتل مع شقيق شريكه فجرحه الأخير.. وأشيع أنه قتل.. لكنه نجى من الموت وهرب بجلده من مصر بعد أن أمضى

فيها قرابة الخمس سنوات.. والتحق ببلاد المغول وكره بلاد العرب والمسلمين.. وتخلى عن الدين نهائياً
واعتنق الوثنية وتعاليم "الأليساق" قوانين جنكيز خان!
وخدم كجندي باسل في جيوش الخان الأعظم.. زعيم المغول.. وما زال يترقى في الجيش حتى أصبح قائد كتيبة.. ثم قائداً عامّاً..

ثم حاكماً لبلاد قانين التي تعتبر مشاغبة في نظر المغول.. فشوهد له من البطش والقسوة والظلم
ما زاد حظوته عند الخان الأعظم وأشاع ذكره حتى بلاد بني العباس!
وقد تنازعت عبد القيوم بشأنه نوازع شتى.. إنه يلتقي شريكه في رحم أمه بعد طول غياب.. وقد تكلفت السنين الطويلة

بمحو تلك الاعتداءات الصغيرة التي صدرت منه.. وبراءة عبد القيوم الطفل - التي لا تختلف كثيراً عنها
الآن - جعلته يتناسى مشاكسات أخيه ويتمنى - بعد سنة من غيابه - لو يعود ليلعب معه!
وهاهو يظهر الآن لا للعب بل للبطش والظلم!
لثقل الموقف وغرابته.. أجّل عبد القيوم التفكير فيه.. والتأمل فيما يتخذ من قرار إلى حين. وشرع يسأل أخاه بلهجة هادئة:
- لماذا اخترت لنفسك هذا الاسم؟!
أجاب شيوم باعتزاز:
- أردت أن يكون لي اسم من لغة قومنا.. وكرهت أن يبقى شيء يربطني بحياتي العربية.
- حقاً.. لقد أصبحت تكره العرب والمسلمين وتخصهم ببطشك!؟
- أنا سعيد يا عبد القيوم بلقائنا هذا.. فلا تفسد علي فرحتي بهذه الشتيمة!
- لقد أدهشني أنا أيضاً لقاؤنا.. لكنني لم أنتظر أن أجدك حاكماً ظالماً يتعطش الكثيرون للفتك به؟!
- وأنا لم أنتظر أن أجدك في صف أعدائي يا عبد القيوم.
ثم أضاف:
- إنك تجهل أموراً كثيرة يا أخي.. فالحكم لا يقوم إلا بالحزم.. وأهل هذه البلاد قوم شغب وعصيان.. وكان لا بد من

القسوة تجاههم حتى يذعنوا ويهدأوا.. وقد نجحت في ذلك.. فنظرة واحدة كفيلة بإخماد لجاجتهم.
وقد رأيت بنفسك أي قدر وصلت إليه في ذلك، ويلزمك سنوات لتدرك أموراً كثيرة بهذا الشأن.
- ألا تخاف من الله أن يأخذك بظلمك؟!
- لقد اخترت طريقي.. ولا أجد ضيراً فيه.. فالذود عن مجد المغول أمر ألزمت نفسي به ويهمني كثيراً.
- هل يسرك ما فعلت بوالديك؟
- والديّ.؟ نعم.. أنت لم تحدثني عن والديّ.! أخبرني عن أمي كيف هي؟
- أمك!! لقد جلبت لها الأحزان والأمراض وعجلت بشيخوختها..
- وأبي؟
- لقد قتلته بفعلك المشين.. فأصيب بعلة في قلبه.. ومات بعد هروبك بسنوات.
فقال شيوم بحدة:
- أنت تعود ثانية لشتيمتي؟!
رد عبد القيوم بحدة أكثر:
- ما فعلته سابقاً وتفعله الآن.. لا يمكن أن ينسى أو يغتفر.. أم نسيت أنك حاولت "الاعتداء" على عائشة؟!
تلجلج شيوم.. واعتراه الخجل.. ثم قال:
- هي ابتدأت بالشجار.. وعلى كل حال لا داعي للحديث في أمر بغيض كهذا!
- لقد سببت لنا المتاعب جميعاً..
وبعد هدوء سأل:
- ما أخبار عائشة الآن؟
- لقد تزوجت شابّاً عمل عند أبي إبّان مرضه.. ولديها ثلاثة أطفال.
وحكم جلسة الشقيقين جو من التقارب وتداعي الذكريات.. وطفق عبد القيوم يتكلم عما حدث أثناء
غيبة أخيه بلهجة عجز
عن أن يجعلها غير غاضبة.! ابتداء من تنقلاتهم والبستان الذي استأجروه في بطحاء النهر ثم عودتهم إلى بغداد
وممارسة العمل بالحطب مجدداً وزواج عائشة ومثله تحدث شيوم عن تفاصيل
رحلته إلى مصر وحياته هناك ثم فراره إلى المغول وسطوع نجمه.
وحاول عبد القيوم أن يكون لطيفاً أثناء الحديث طمعاً في استدراج شقيقه إلى العودة والتوبة.. والرجوع إلى

حظيرة الإسلام.. وجعل ينتظر الفرصة المناسبة للحديث بهذا الشأن.. وقد تأخرت تلك الفرصة أياماً.
وخلال ذلك أظهر شيوم حذراً تجاه عبد القيوم.. وخلط له الاحترام بالأسر!! فعمد إلى إزالة السلاسل القديمة الغليظة واستبدلها

بسلاسل صاغها من الذهب الخالص. وخصص له حجرة في الجناح الخاص به حبسه فيها..
ولم يأذن له إلا في الخروج ليتمشى في الحديقة أو في الأسطح وفوق الأسوار.
وبلغ العجب بالجنود مبلغه حين رأوه ينتقل من ذل الأسر إلى عزِّه ومن كونه عدوّاً خائناً إلى كونه شقيقاً للأمير شيوم..

يلاصقه الساعات الطوال ويشاركه طعامه.. وقد رأوا مقدار البهجة في عيون أميرهم وهو ينضحهم بالقطع الذهبية الكثيرة ويقول:
- هذا شقيقي.. لقيته بعد طول غياب، وسأجعل لقدومه احتفالاً.. وأصنع الخمر بنفسي لهذه المناسبة.!
وكان عامة الجنود لا يحبونه.. وكان موقفهم فاتراً تجاهه لاسيما أوسطاي و لاتو رئيس الحرس.. رغم انكشاف أكذوبة اليوتا..!!
ولم يكونوا يصارحونه بالعداوة والشتائم مخافة من الأمير شيوم.
إلا أن ثلاثة أو أربعة من الجنود في مقدمتهم سوجي كانوا أكثر تملقاً وطمعاً في الاقتراب منه بحكم قرابته الطارئة بالأمير.
ولم يكن يعرف ماذا حل برفاقه ولا ماذا حصل لصالح وأسيريه يوسف بن محمد ورفيقه.. وتمنى ملهوفاً معرفة أيّ خبر عنهم!
وبعد جهد أخبره سوجي والذين معه أن أصدقاءه ما زالوا في السجن.. لكن لا أحد يعرف ماذا يفكر شيوم بشأنهم..

وإن كان الجميع متأكدين أن أحداً منهم لن ينجو من بطشه!
وكان الجنود وعلى رأسهم الرئيس لاتو يلحّون على الأمير شيوم في مواصلة عقاب وتعذيب أولئك الذين قتلوا رفاقهم..

ولكن الأمير وقع في الحيرة و تنازعته أفكار شتى مثل عبد القيوم. فالرغبة في الانتقام متوفرة لديه لكن فرحته بشقيقه
ومجاملته تقضي بألا يسئ إليه بقتل أصحابه.. وكان يفكر على الدوام بحلٍ لهذا الوضع الشائك! وقد أسف عبد القيوم
للتشاؤم الذي أصبح يعتريه بشأن نهاية رفاقه فصار يلح على أخيه في أن يزور السجن الذي يقبعون فيه..
لكن هذا الأمر لم يكن موضع مناقشة بالنسبة لشيوم! لاسيما وقد خفت حدة مفاجئته باللقاء غير المتوقع..
وبدأ يفكر بطريقة تناسب طبيعته القاسية.. بعيداً عن فورة اللقاء الأول..
وعاطفته تجاه عبد القيوم التي أسرته في البداية!!
وجاء الوقت الذي نادى عبد القيوم فيه شقيقه الطاغية إلى العودة والإياب ونبذ الطريق السائر فيه.. كان ذلك في جلسة

قصيرة شكلت منعطفاً حادّاً في تعامله مع أخيه وكيفية التفكير في مستقبل علاقتهما.!
فذات ليلة.. ضجر عبد القيوم من البقاء في حجرته وكان باب فناء المقصورة مغلقاً فآثر الصعود إلى السطح الفسيح المعزول..

الذي ارتقى إليه قبيل الاقتحام.. وهناك كانت أنسام الليل منعشة.. فقام وصلى طويلاً ودعا الله أن يلهمه رشده..
وأن يهدي أخاه محمداً إلى التوبة والإسلام.. وعندما فرغ جلس مطمئناًّ.. هادئ الشعور والتفكير..
ولبث مدة يتأمل القمر وهو يكافح غيوماً بيضاء مستطيلة داهمته بسرعة..
كان القمر بهيّاً جميلاً.. لكن السحب تزاحمت عليه واغتالته بقسوة.!
وقطع عليه تأملاته صوت شيوم من خلفه:
- أنت هنا إذاً.. هل راقت لك الخلوة بنفسك في هذا السطح؟
أجاب عبد القيوم بعدما التفت إليه:
- إنه مكان جيد للتفكير.. لأنه بمنأى عن التدخلات.. فهو لا يناله إلا من كان في المقصورة أو الغرف التي في فنائها.
- إن القصر كله يعجبني.. لقد أتقن الفرس بناءه وتفصيله.. لكن بماذا كنت تفكر؟
- لم أصعد لأفكر في شيء.. ضجرت من الداخل وطار النوم من عيني فجئت إلى هنا.
- ضجرت من الغرفة أم من كل شيء؟!
- ما الذي يدعوني إلى الضجر من كل شيء!!؟
- أعلم أن حياتنا هنا لا تعجبك!
- الحياة هنا.. وفي بغداد سواء.. لكن أنت وأفعالك تجلب لي الحزن!
- ولماذا جلبت لك الأحزان؟
- بظلمك للناس.. وإرهاقهم بالضرائب والإتاوات.. والبطش بهم لأجل ذنوب طفيفة..
- الذنوب التي تحسبها طفيفة تقود لأكبر منها.. والأموال التي نأخذها منهم ندافع عنهم بها ونردها في مصالحهم.
أطرق عبد القيوم إلى الأرض ثم رفع رأسه قائلاً:
- يا محمد إني أراك تظلم نفسك وتغرق في ظلم الناس إلى أذنيك.. ولك عليّ حق النصيحة.. فعد إلى ربك الذي

خلقك ودع ما أنت فيه من هذه الوثنية التي تمجها العقول والتي لم تتبعها إلا حمية للمغول وتشبثاً بخرافاتهم وقد ذقت
الإسلام والإيمان فأنت قادر على المقارنة بين دين أنزله الله وأيّده بمعجزة وبين نتاج عقول لا تعرف ربها.
- وماذا بعد؟!
- إني أرى لك أن تنتهي عن هذا الحكم اللعين الذي قادك إلى الفجور والظلم.. وتعود معنا إلى بغداد وتسلم

نفسك إلى الخليفة العباسي فهو أكبر ملوك المسلمين.. وتنـزل عند حكم الله.
ابتسم شيوم ساخراً من بساطة عبد القيوم:
- لا أدري كيف تفكر يا عبد القيوم.. أترك مجدي وأمارتي التي لم أحصل عليها إلا بعد جهد.. لأذهب مكبلاً بالحديد

إلى بغداد وألقي بنفسي بين يدي عدوي وعدو المغول.. وأبقى تحت رحمته فإما أن يقتلني.. وإما أن يحبسني ذليلاً..
وإذا أنعم عليّ غاية الإنعام أطلقني لأعمل راعياً للغنم.. أو حطاباً معك!!
- أعدك أن تصل إلى بغداد مكرماً.. وإذا لم ترد بغداد فدعها إلى أي بلد تحب وسأذهب أنا معك.. وستفرح أمي بذلك وتأتي معنا.
كان عبد القيوم يتكلم بغاية العفوية والبساطة.. وعدّ شيوم ذلك سذاجة وأراد

النفاذ من هذه الموضوعات فقال قاطعاً الطريق على عبد القيوم:
- أنا راض بالذي أنا عليه.. ديني الأليساق وشريعة جنكيز خان.. وأمتي أمة المغول.. وسأبذل كل شيء في خدمتهم
فهم
أنقى البشر وأشرف الأجناس! ولا أكتمك القول أني تمنيت أن أبي لم يعرف الإسلام ولم يعتنقه ولم يهاجر لبغداد.. ويختلط بالمسلمين.
اقشعر بدن عبد القيوم لدن سماعه هذا الكلام، وقال مرعوباً:
- ألا تخاف الله.! ألا تؤمن به؟ هذه ردة.. توجب دخولك النار.. ردة صريحة يا محمد!!
- اسمي شيوم.. فلا تضجرني بهذا الاسم الذي تدعوني به!
- حتى اسمك لم تعد تطيقه! إنه اسم رسول الله.. نبي البشرية.!
- لا مكان في الأرض لمثل هذه الأشياء يا عبد القيوم.. وليس هناك غير الحياة التي ترى بعينييك.. ثم الرقدة التي لا يقظة بعدها.
- لو سمعتك أمك تتفوه بهذا الكفر لصعقت!
- أمي.. أنا لم أصعد إليك إلا لأحدثك بشأنها..
ثم بان عليه الفرح لما سيقول وتابع:
- ستشاركني هذا المجد الذي أعيشه.. وسأسمح لك بالعودة إلى العراق مع بعض جنودي.. لتأتي بأمي ونعيش هنا في

هذا القصر أسياداً وأمراء لا حطابين وفقراء.! وسنتعاضد لبسط المزيد من الهيمنة والنفوذ.
لم يفكر عبد القيوم البتة في استثمار اقتراح شقيقه وتصرف حسبما أملت عليه براءته وفطرته السليمة فنهض غاضباً وصاح:
- تريد أن أشاركك طغيانك وظلمك.. وأنا من قطع المسافات الطوال لردعه وصده؟!!
- لماذا تسميه طغياناً.. وتصر على ألا تفهم معنى الحزم ومعنى الظلم؟!
- وماذا تسميه أنت؟!
- إنه المجد.. إذا تعاضدنا ستنال الحظوة لدى الخان الأعظم وستتدفق الأموال بين يديك كالماء!
لم يستوعب عبد القيوم المهموم بالآخرة.. هذه العروض الدنيوية التي أضجره بها جابر في بغداد ثم يوسف ثم شقيقه أخيراً.. لذا قال بسخرية:
- حظوة في بغداد وأموال، ومدن تحكم... وها أنت تضجرني بالحظوة كذلك.. قبحك الله وقبح هذا الخان الأذل..

تريدني أن أنسلخ من ديني.. وأنتظم في خدمة هذا السفاك الأثيم؟!
فقال شيوم:
- ولاؤك شديد لهؤلاء البؤساء الذين تنافح عنهم، والذين ستجتثهم جيوش المغول من عروقهم.. وتبيد دولهم عما قريب!
حاول عبد القيوم تهدئة نفسه، وقال في يأس:
- إننا لن نلتقي على شيء يا "شيوم" ولن يجمع بيننا جامع.. إن العقيدة تفرقنا.. فإن كنتُ شقيقك الذي

تحب فأطلق سراحي وسراح رفاقي ودعني أرجع من حيث جئت..
وأدرك شيوم هو الآخر اتساع الفجوة بينه وبين عبد القيوم فقال بلهجة قوضت آماله:
- لست من الحماقة بحيث أطلق سراح رجال تغلي قلوبهم حقداً علي وقد اقتحموا مكاني وقتلوا جنودي..

ولست من الجفاء بحيث أدع شقيقي يبتعد عني بسهولة قبل أن أملأ نفسي منه.. الجنود يا عبد القيوم
متشبّثون بمعاقبة رفاقك، أما أنت فستظلّ شقيقي وستظلّ داخل القصر حتى أنظر في أمرك!
قال ذلك ثم نزل مع الدرج منصرفاً بينما ظلّ عبد القيوم واقفاً كالجماد يغرز نظراته الحادة في ظهر شقيقه.
وعندما أوى عبد القيوم إلى فراشه في موهن من الليل.. حانقاً.. غاضباً.. اجتاحت ذهنه عاصفة من الأفكار المختلطة..

فالالتقاء مع شقيقه والاتفاق على صلح وقناعة بات مستحيلاً.. فشيوم يميل إلى الانتقام من رفاقه وسيلح عليه جنوده
في ذلك فيصبح ذلك الميل تصميماً وعزيمة.. وسيستمر في بطشه وطغيانه.. فصورته في صباه لا تختلف
عنها في حاضره.. شهوة للعدوان.. وانقطاع إلى الظلم والقسوة!
وارتأى عبد القيوم أن خير حل لمعضلته.. هو الهروب.. أن يحاول الفرار بنفسه ويعود إلى بغداد ويترك أصدقاءه لأقدار الله..

فلا طاقة له بإنقاذهم ولا لوم عليه إذا ولى هارباً وعاد من حيث أتى.. فحملة القضاء على مظالم قانين
باءت بالفشل وقد عمل كل ما بوسعه.. وقام بدوره المناط به لإنجاحها.
ورفع الغطاء ناهضاً من فراشه.. وحاول فك السلسلة من رجليه تمهيداً للهروب فعجز.. وقام إلى الباب وكان عنده

مرآة فوقعت عينه على صورته في المرآة فتوقف ناظراً إلى وجهه على ضوء القمر
الذي عفت عنه السحب وتركته ليبسط ضياءه على أفنية القصر ونوافذه.
وكأنما أكدت له المرآة ما جال في نفسه فجأة.!! بأنه خائن.. متخاذل.. لم يحقق الغاية التي كابد المشاق من أجلها..

واقترب من المرآة.. هل كان حقّاً مجاهداً.. يتحرق شوقاً للجهاد والغزو دفاعاً عن المسلمين..!
كيف اعتقد ذلك في نفسه عندما كان يشاهد صورته في المرآة المعلقة في فناء الدار التي يقطنها في درب الميزاب ببغداد..

هل كانت تكذبه تلك المرآة.. وصدقته الحقيقة مرآة قانين.!؟ وأوجعه الخاطر الجديد.. فما هو إلا متنصل من مناصرة الإسلام
وأهله.. متخفف من مكابدة الطغيان ومصاولة الظلم.. لسبب وحيد.. أنه صادر من شقيقه.. وبهذا تكون عاطفة القرابة
غير المتبصرة والضحلة.. طاغية على ما يحتمه الدين وعقيدة الإيمان من نصر المسلمين والكفاح عنهم!
وعانت نفسه المؤمنة هذا الشعور.. وأحسّ بالنقمة على ذاته.. فبصق على وجهه في المرآة..

ونكص إلى فراشه مغموماً.. ملهوب القلب بالأسى.
إن شيوم سيقتل جابراً ومالكا وبقية الرجال كما قتل أبا موسى وياقوت.. وسيواصل تجبره في الأرض.. وسيتعاظم خطره..

فالمغول ولا شك لن يتركوا هذا الشاب المندفع الطموح الشديد البأس محصور النشاط في مدينة واحدة.!
بل سيوكل إليه المزيد من النفوذ والقيادة.. وسيدرك أن ما أوصله إلى هذه المنزلة إلا شدته وقسوته، فيتمادى في ذلك ويستكثر منه.!
وهو عبد القيوم المجاهد.. على بعد خطوات من طاغية المغول شيوم، وقطع دابر شروره.. وإنهاء طغيانه ملقى بين يديه..
وليس يحول بينه وبين ذلك إلا العزيمة الصادقة.. وأن يستوعب بصدق أنه مسلم مجاهد.. أمام كافر مشرك..
يتربص بالمسلمين ويسومهم سوء العذاب.. وأن لا علائق تربطهما حتى يذعن الأخير للحق
والإيمان ويجافي كفره وظلمه.. وإلا فلا رحم ولا قرابة.
وركضت إلى خاطره آية كان يقرأها في الجامع ببغداد.. نطق بها قلبه من دون أن يحرك شفتيه:
قال تعالى: لا تَجِدُ قَوماً يُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَـانُواْ ءَابَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ

أُوْلَئكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيّدَهُم بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَئكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنّ حِزْبُ اللهِ هُمُ المُفْلِحُونَ [ المجادلة: 22 ].
فزاوله شيء من سكر العاطفة.. وشدَّه سياق الآية العظيمة.. فانسابت إلى قلبه بعد ما راعته الجوائز المذكورة

فيها المبذولة بسخاء رباني لكل من بتر علائق القربى مع الكافرين و العصاة.. وعلقها بالله وحده.!
وقام من مرقده في تصميم.. تحدوه عزيمة لم يختبر جودتها.. وتسلل خارجاً من غرفته، ولم يكن في الممر القريب أحد من الجنود.. واتجه إلى مقصورة شقيقه ووقف برهة عند الباب.. سيقتله بهدوء فهو طاغية كافر ولا شيء غير ذلك.. وسيحاول الهرب فإن نجا

وإلا فليمت شهيداً.. ولا يضره بعد ذلك ما دام في إزهاق روحه.. راحة من ظلم لا يطاق!
ودخل المقصورة.. وهناك كان الأمير شيوم.. حاكم قانين البطاش.. وينبوع مآسيها.. ينام ملء جفونه.. وقد استلقى على سريره

الفخم.. ناشراً يديه كنسر.. مباعداً بين ساقيه.. مملوءاً بالعظمة.. يشخر شخيراً لطيفاً..
وقد استولى جذعه وأطرافه على كامل الفراش.. ولا تكاد تخفى سيطرته وجبروته حتى أثناء نومه!
وانتزع أحد السيوف المعلقة على الجدار.. وشد قبضة يده على السيف.. وتقدم من الكائن الهائل المطروح على السرير..

وما أن شاهد وجهه وعينيه المغمضتين والظلمة تلفه في طمأنينةٍ.. حتى فر الأمير شيوم.! وحل مكانه محمد.. أخوه المراهق..
الضائع في مصر!! فانهارت حماسته عاجلاً.. ولذعت فؤاده شفقة موقوتة!!
فانكفأ راجعاً يجر سلاسله وهي تصدر صوتاً ناعماً.. وأغلق الباب خلفه مرجعاً السيف إلى مكانه.!
وعندما استقر في فراشه.. كان محبطاً.. مدركاً أي شراك وقع فيها.. وأيّ قيد أحاط بمعصميه.. وجلد نفسه بتفكير أليم..

لقد جبنت عن الإخلاص.. أسرتك مودة الكافر الذي حاد الله ورسوله.. أنت خائن.. سافرت من بغداد لتجاهد أعداء الله..
وتحارب الطغاة بسيفك ويدك.. أما قلبك فكان مفتوحاً كالباب المشرع لكل طارئ.. فاستقبلت أول وافد
يناقض قصدك بالخور.. وسقطت من أول امتحان!! شيوم السفاح، الولوغ في الدماء.. ينام على بعد
أذرع من مرقدك.. مفتوح الصدر.. جاهزا.. والسيف في يدك.. وأنت الزاعم أنك مجاهد تحب الفداء في سبيل الله..
ثم تجبن عن إراحة الناس منه.. وتهبه الفسحة ليستيقظ غداً.. ويعبث في الأرض بطشاً وظلماً..
وربما بدأ بأصحابك.. كأنك لم تقرأ آية.. ولم تتل قرآناً!!
وهنا تباعث فيه التصميم مرة أخرى.. ونهض بعزمه الذي كان لا يزال أسير الوهن..

وتكلف اندفاعاً.. ففتح باب غرفته وخرج إلى شيوم.. فلم يكد يضع يده على الباب حتى انهار من جديد..
وعجز عن التنفيذ.. فعاد إلى حجرته وألقى بنفسه على فراشه شبه باكٍ!!

تتبع








 
 توقيع :
قال تعالى {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }النجم28

دائما النية الطيبة لاتجلب معها إلا المفاجآت الجميلة
لاتغيروا أساليبكم فقط غيروا نياتكم فعلى نياتكم ترزقون



رد مع اقتباس