عرض مشاركة واحدة
قديم 06-27-2011   #18


الصورة الرمزية الغزال الشمالي
الغزال الشمالي غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 218
 تاريخ التسجيل :  Apr 2011
 أخر زيارة : 07-10-2013 (07:01 PM)
 المشاركات : 2,111 [ + ]
 التقييم :  119
لوني المفضل : Cadetblue
شكراً: 0
تم شكره 2 مرة في 2 مشاركة
افتراضي



كنت كلما أقترب مني صوت أو حركة من إحدى الجهات، هربت زاحفاً إلى الجهة الأخرى وكنت أرى الأقدام وهي تقترب
مني بحذر من جميع الجهات، فعدت بذاكرتي إلى القرية عندما كنت أنا وأبي والجيران، نحاصر الثعلب بين أكوام
القش، لما يفترس الدجاج، وكان كل واحد منا يحمل عصا أو قضيبا حديديا كبيرا، وفي معظم الأحيان
كان يُفلت منا،هارباً بين الحقول...
لم يعد لي مجال للهرب وأيقنت أنها النهاية، ولم يتبق سوى خطوة واحدة من أحد الغجر ليضع يده علي من بين الحشائش.
كانت يدٌ ضخمة وطويلة أمسكت بي من قميصي وسحبتني بسرعة هائلة لأجد نفسي
داخل العربة التي كانت تقف بجانب حوض الورود.
كانت عربة مصنوعة من الخشب، على شكل صندوق كبير له دواليب لكي يدفعه البائع أمامه بسهوله، وكان البائع يضع
بداخله حوائجه من سكر و أصبغة لصناعة الحلويات. كان المكان مظلما جداً لم أستطيع أن أرى شيئاً،
سوى أنفاس خائفة مرتعبة، تخترق آذاني، ولكن هذه الأنفاس لم تكن غريبة عني فقد كنت أعرفها
جيداً، منذ زمن بعيد عندما كنا نختبئ في خم الدجاج، هاربين من باقي الأطفال لكي لا يرونا، كانت أنفاس
أيمن، نعم هو أيمن بجانبي! همست بصوت خافت جداً، حتى أني لم اسمع صوتي جيداً: أيمن.. أيمن...
فسمعت صوته باكياً يريدني أن أصمت: صه.. صه..صمت قليلاً، ولكني عدت وسألته بصوت غير مسموع:
أيمن ماذا حصل.. ما الأمر؟لم يسمع ما قلت له، لكني أعتقد أنه فهم ماذا أريد.
وضع شفتيه على أذني تماماً، وهمس : إنه بائع غزل البنات، يحاول أن يساعدنا عرفت الآن لمن هذه اليد الضخمة
التي سحبتني إلى داخل العربة، فقد كانت يد البائع الذي كان يقف بجانب حوض الورود، وهو يخاطر بحياته لكي يساعدنا
لا أستطيع أن أصف إحساسي بالذل والمهانة، وأنا مختبئ داخل العربة مثل الجبناء، عشت فقيراً ولكني
لم أكن جباناً أبداً، فقد كانت عروقي تنتفض، وأعصابي ترتجف، من شدة القهر الذي أصابني،
ومن غير أن أشعر، اندفعت من باب العربة محطماً الخوف الذي يحاول السيطرة على كبريائي، وقد
فضلت الموت بشجاعة، طعناً بسكين أو بضربة تكسر رأسي، على الاختباء، ولكن البائع
كان لي بالمرصاد فلم أستطيع الخروج بسبب ضخامة جسده القابع على باب العربة.
فتح باب العربة، وأطل علينا البائع برأسه الكبير، ثم أشار لنا بأصبعه على فمه بأن نهدأ، فهز أيمن رأسه للبائع، ثم
قال لي هامساً، بعد أن أغلق البائع باب العربة: أرجوك أهدأ، أنا أعرفك جيداً وأعرف أن هذا الأمر
صعب عليك جداً، منذ كنا أطفالا وأنا أتذكر كيف كنت تعارك من هم أكبر
منك سناً، ولا تسكت لهم، ولكن أرجوك نحن هنا نواجه الموت، وأنا لا أريد الموت الآن، فإذا
كنت لا تبالي بحياتك، فأنا أريد أن أعيش أرجوك.. أرجوك.. أرجوك.. وأخذ يجهش بالبكاء.
لم أجب على كلامه، وبقيت صامتاً، ولكني حاولت تهدئته، فوضعت يدي على رقبته
محاولاً تشجيعه، ولكن ماه ذا السائل الذي يملئ رقبته الضعيفة؟
كان الدم يجري من رقبة المسكين أيمن من غير أن يشعر به، فمزقت قطعة من قميصي وتحسست
مكان الجرح بيدي، ثم ضمدت الجرح، وأنا لا أرى شيئاً، فربما ما يزال هناك جروح أخرى في جسده.
علت أصوات اللصوص في الخارج، وقد أصابهم الجنون، فهم لا يعرفون أين اختفت
فريستهم التي كانت ستقع بين أيديهم، ولا يفصلهم عنها سوى قاب قوسين أو أدنى.
اقترب أحدهم من البائع وهو يصرخ، ويضرب العربة بسلاسل حديدية، وكأنه يقول
للبائع، إنك تعرف مكانهم ولا تخبرنا، فكان البائع يتمتم بصوت خافت، وكأنه
يقول له، دعني وشأني، فأنا لا أعرف شيئاً.
كل هذا كنت أخمنه، لأني لا أستطيع أن أسأل أيمن عن أي شيء، فأقل همسة مني، سوف يسمعونها، ويكشفون
مكاننا فوراً، فالتزمت الصمت، ووضعت يدي على ظهر أيمن كي أشعره ببعض الاطمئنان،
ولكن جسد أيمن بدأ بالارتعاش عندما فتح باب العربة، وامتدت يد سوداء طويلة
تبحث عن شيء، ولم تكن يد البائع، كانت يد أحد اللصوص الذي أخذ قطعة من الحلوى، ومن
غير أن ينظر إلى داخل العربة، ثم أغلق الباب، فهو لم يفكر أبداً، بأننا يمكن أن نكون محشورين
داخل هذه العربة الصغيرة. كانت أنفاس أيمن شبه مقطوعة من شدة الخوف، ولكن
سرعان ما هدأ خوفه عندما ابتعد اللصوص عن العربة.
مرت أكثر من ساعة قبل أن يفتح البائع الباب، ويكلم أيمن، ثم أغلق الباب
وبدأ أيمن يترجم لي ما قاله بصوت أعلى بقليل من ذي قبل:
- يقول البائع، إنهم ابتعدوا عن العربة، وهم الآن يقفون على أطراف الحديقة
يراقبون مخارجها لأنهم متأكدون بأننا لم نغادر الحديقة، ويقول البائع إنه
من الأفضل أن نبقى مختبئين حتى غياب الشمس، لكي نستطيع مغادرة الحديقة في الظلام
وعلى كل حال لم يتبق كثيراً لغياب الشمس.
لم يمض وقت طويل حتى فتح باب العربة مرة ثانية، وأشار لنا البائع بالخروج فخرجنا من العربة، وكان الظلام قد خيم على الحديقة.
أخرج أيمن من جيبه بعض النقود ومد يده ليعطيها للبائع، لكن البائع رفض بشدة، وكأني فهمت
من كلامه، بأنه ساعدنا لله وليس من أجل المال، والغريب في الأمر
أن البائع كان غجريا ولكنه غجري شريف، يأكل من عرق جبينه!
شكرنا البائع كثيراً، وودعناه متسللين بهدوء إلى منطقة بعيدة من الحديقة
لكي نهرب منها، من غير أن يشعر بنا اللصوص...
ما أن وضعنا أقدامنا خارج الحديقة، حتى رآنا أحد اللصوص، وبدأ يصرخ وينادي
باقي المجموعة، فأوقفت أول سيارة أجرة قادمة من على الطريق، وارتمينا بداخلها
ونسيت أن السائق لا يعرف العربية، فرحت أصرخ به لكي يسرع قبل أن يصل
اللصوص.. بسرعة أرجوك... بسرعة... أسرع.. هناك من يريد قتلنا! ولكن السائق لم يفهم إلا عندما
انهال أحد اللصوص بالضرب بسلسلته الحديدية على النافذة
الخلفية للسيارة، ليتطاير الزجاج في كل مكان...
عندما رأى السائق ما يحدث، فهم الموضوع، ولم ينتظر كثيراً، حتى كانت أصوات
دواليب السيارة تحتك بالأرض من شدة السرعة، بعد أن انطلق هارباً.
لم نتوقف إلا عندما وصلنا الحي الذي يسكن فيه أيمن، نزلنا من السيارة، وأخذنا
نتفحص الأضرار التي ألحقها اللصوص بها.
كان السائق ينظر إلى سيارته، وهو حزين جداً عما لحقها من تحطيم للزجاج، وبعض
الضربات على الجوانب، لكن أيمن لم يتركه يعاني كثيراً، فقد أعطاه أجرته، وأعطاه
ثمن الزجاج، ولم ندعه يذهب إلا راضياً، وممنوناً.






 
 توقيع :
قال تعالى {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }النجم28

دائما النية الطيبة لاتجلب معها إلا المفاجآت الجميلة
لاتغيروا أساليبكم فقط غيروا نياتكم فعلى نياتكم ترزقون



رد مع اقتباس