عرض مشاركة واحدة
قديم 06-29-2011   #27


الصورة الرمزية الغزال الشمالي
الغزال الشمالي غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 218
 تاريخ التسجيل :  Apr 2011
 أخر زيارة : 07-10-2013 (07:01 PM)
 المشاركات : 2,111 [ + ]
 التقييم :  119
لوني المفضل : Cadetblue
شكراً: 0
تم شكره 2 مرة في 2 مشاركة
افتراضي



كان البيت عبارة عن غرفتين ومطبخ كبير، والحمام موجود في الخارج بجانب
الإسطبل، الذي يحتوي على قسم للدجاج، وقسم آخر للخنازير، وبقرة كبيرة.
كان الحارس يُقيم في المنزل مع زوجته العجوز، التي لم تستغرب عندما رأتني
أخرج من باب الغرفة، لأني كنت موجودا في بيتهما منذ أيام غائبا عن الوعي.
ابتسمت لي العجوز التي كانت تقوم بجمع أوراق الأشجار المتساقطة من ساحة
المنزل، وبدأت تكلمني، ولكن الحارس قاطعها بصوت عال، وأظنه كان يقول لها، ألم
أقل لك إنه لا يعرف لغتنا! وتابعت العجوز الكلام، ولكن هذه المرة مع الإشارات
وكنت قد بدأت أفهم بعض الكلمات، فقد كانت تدعوني لتناول الطعام.
دخلت معها إلى المطبخ، وجلست أنظر إليها وهي تضع الطعام على المائدة، ثم
نظرت بعيني، وهي تريد أن تقول شيئاً، ولكنها عجزت أن تُفهمني بالإشارة، وفجأة
حملت صحن الطعام الذي وضعته على الطاولة، وجرتني من يدي كما تجر الطفل
الصغير، ومشينا حتى وصلنا إلى الإسطبل، فقد كنت في حيرة من أمر هذه العجوز
ماذا تريد مني ؟ هل تريدني أن أكل في الإسطبل مع الحيوانات؟
أدخلتني إلى قسم الخنازير، ثم أشارت بأصبعها إلى الخنازير، ومن ثم إلى الصحن
لتفهمني أن الطعام لا يحتوي على لحم الخنزير، وبعد ذلك، أدخلتني إلى قسم الدجاج
وعملت نفس الشيء، لتفهمني بأن الطعام يحتوي على لحم الدجاج فقط!
فوجئت بثقافة هذه العجوز التي تعلم بأننا لا نأكل لحم الخنزير، فشكرتها
كثيراً بلغتها، ثم عدنا إلى المطبخ...ورحت ألتهم الطعام بشراهة من شدة الجوع...
بعد أن تناولت الطعام خرجت من المطبخ، وجلست بجانب الحارس، وكنت أحاول
ببضع كلمات تعلمتها أن أفهم منه السبب الذي جعله يقيدني بالسرير.
فتشجع الحارس وراح يكلمني ويشرح لي بالكلام تارة وبالإشارات تارة أخرى، وبعد
جهد جهيد، فهمت أنه بعد أن أنقذني من بين الكلاب المشردة، وجاء بي إلى بيته
كنت أستيقظ بين الحين والآخر، وأصرخ بصوت عال، ثم أطرق على باب الغرفة بكل
قوتي، ولا أتوقف حتى يغمى علي، فقرر تقيدي كي لا أجرح نفسي،
وكي يضمن سلامتي أثناء نومه، فشكرته كثيراً، لما فعله من أجلي
أمضيت وقتي في ساحة البيت، أنظر إلى السوق الذي بدا صغيراً من بعيد، وبصعوبة
بالغة استطعت إخبار الحارس وزوجته العجوز بقصتي، وكيف فقدت أيمن في السوق
فوعدني الحارس بأن يأخذني كل يوم إلى السوق كي أبحث عن أيمن، حتى أجده...بعد ذلك عدت للنوم....
أيقظني الحارس، ولم تكن الشمس قد أشرقت بعد، فتعجبت لأمره! لماذا يريد أن يأخذني
في هذا الوقت المبكر إلى السوق؟ ولكني عرفت الجواب عندما وصلنا إلى السوق
فقد كان مكتظاً بالزبائن الذين يأتون قبل بزوغ الفجر ليشتروا بضائعهم ويغادرون قبل أن تزدحم الشوارع.
لم يمض وقت طويل حتى انتشرت أشعة الشمس بالمكان، وكانت الشاحنات تدخل إلى
السوق فارغة ثم تخرج ممتلئة بالبضائع. أما الحارس فقد كان يحمل
البضائع على الشاحنات في النهار أو يفرغها، أما في الليل فقد كان يتولى الحراسة.
جلست بجانب البوابة وأنا أراقب كل شخص يدخل ويخرج لعلي أرى أيمن، قد يأتي
ليبحث عني، أو لعلي أرى أحد العرب فيساعدني أو يدلني على المنزل، ولكني
لم أر سوى الصينيين، وعندما كنت أرى شخصاً يشبه العرب، كنت أركض نحوه
كي أكلمه، ولكني أعود بخيبة أمل، عندما أكتشف أنه تركي أو إيراني،لا يفهمون
من لغتي شيئاً سوى التحية (السلام عليكم، وعليكم السلام)
جاء الحارس ومعه أكياس من النايلون، وطلب مني بأن أذهب إلى بيته، وأملأ هذه
الأكياس بالطين من حديقة بيته، كي يغلق بها مجرى مياه الأمطار عن غرفة الحراسة
لم أتأخر كثيراً، فقد ملأت الأكياس بمساعدة زوجته العجوز، ثم وضعتها على عربة
صغيرة، دفعتها أمامي، وعدت إلى السوق.
جلست بجانب البوابة، والعربة أمامي أنتظر الحارس كي يأتي ويأخذ الطين، ولكن
الحارس تأخر بسبب تفريغ شاحنة كبيرة ممتلئة بالبضائع، فجلست في مكاني أنظر
إلى زبائن السوق، ربما أرى أحداً من العرب يساعدني.
شعرت بالجوع، فقد انتصف النهار ولم آكل شيئا، وكنت أنتظر عودة الحارس كي أطلب
منه أن يجد لي عملاً في تحميل البضائع، أكسب منه بعض المال، ولا أكون عالة على أحد
لم أستطع الانتظار أكثر، فقررت أن أذهب إليه، فربما يدعني أعمل معه
في الشاحنة التي يفرغها، وما أن تحركت من مكاني، حتى رأيت رجلاً يقف بجانب الطين
ويسأل عن سعر الكيس، فقلت له بكلمات متقطعة، ولكنه فهمها، هذا الطين ليس
للبيع، ولكنه أصر على الشراء، وأخرج نقوداً من جيبه، ووضعها في يدي
حملت كيسا من الطين، وأعطيته للرجل وأنا مصاب بالذهول، تعالي يا أمي لتري
ابنك يبيع الطين! أنا متأكد بأنك لن تصدقي بأن الطين يباع، ولكني أنا
هنا يا أمي أبيع الطين، ومعي نقود أستطيع شراء الطعام بها!
جلست مكاني وراء أكياس الطين، ورحت أرتبها الواحد بجانب الآخر، ولم يمض
وقت طويل حتى بعتها كلها!
جاء الحارس، وهو ينظر إلي مستغرباً، فهو يرى العربة أمامي فارغة، وهذا يعني
أنني ذهبت إلى المنزل، وأحضرتها، إذاً أين الطين؟
ظن الحارس بأنني لم افهم جيداً، وقد أحضرت العربة فارغة، لكني قلت له
أني بعت الطين، وطلبت منه أن يأخذ النقود، لكنه رفض، وضحك كثيراً
لغرابة هذا الأمر، وضحكت أنا أيضاً رغم المصائب التي لا تفارقني...
كنت ادفع كل يوم مبلغا من المال حتى يُسمح لي بالوقوف جانب بوابة السوق
لأبيع الطين، وكنت صباح كل يوم أملأ الأكياس بالطين من الأراضي المجاورة
للسوق، وأبيعها بجانب البوابة، ومضت الأيام وأنا أبيع الطين من أجل الزهور
أو لأشياء أخرى، وكنت أمضي معظم وقتي في السوق وعيني تراقب مدخله،ولكن لم أرى أثراً لأيمن !
كان كل يوم يمر، مثل اليوم الذي قبله، لا يتغير شيئاً، أجمع الطين في المساء
وأذهب به إلى السوق في الصباح، وأحياناً كنت أبيع كل الكمية، وأحياناً
أخرى تبقى نصف الكمية إلى اليوم التالي، وكنت أعطي زوجة الحارس نصف النقود
التي أكسبها من بيع الطين، حتى لا أكون عالة عليهم، وكانت العجوز ترفض أن
تأخذها، ولكني كنت أضعها في جيبها شاءت أم أبت..
وفي يوم من الأيام حصل ما لم أكن أتوقعه ولا كان ليخطر على بالي! استيقظت
في الصباح فوجدت كل شيء في الخارج أبيض، فقد تساقط الثلج طوال الليل، ولم
أستطع الذهاب إلى السوق من شدة البرد، حتى الطين تجمد وأصبح قاسياً، وقد
غطته الثلوج، وصار من المستحيل تعبئته في الأكياس.
غيرت الثلوج كل نظام حياتي، وكنت كل يوم أنتظر أن تتوقف الثلوج، وأعود
لعملي، ولكنها كانت تتساقط بغزارة، حتى ارتفعت بحوالي المتر عن سطح الأرض
كنت اذهب كل يوم إلى السوق، وأقف بجانب البوابة، ليس لكي انتظر أيمن، لأني
فقدت الأمل في إيجاده، ولكن ربما يحتاجني أحد التجار أو الزبائن، فأكسب بعض المال
ولكن بسبب برودة الجو، والتي كانت تتجاوز العشرين تحت الصفر، فقد كان أكثر
الأحيان السوق فارغاً، حتى المتسولون واللصوص هجروه إلى مرتع آخر...
كنت أشعر بها تلاحقني بنظراتها كل يوم عندما أقف بجانب البوابة، وكانت
الابتسامة لا تفارق وجهها عندما تقع عيني بعينها، ولكني حاولت مراراً أن
أبقى بعيداً عنها، فما رأيته من روكسانا جعلني أكره كل الفتيات في هذا
البلد، ولكن مع هبوب عاصفة ثلجية على السوق، وجدت نفسي أرتجف من البرد
بجانبها، في المتجر الذي تعمل به..
قالت:
ـ لماذا تقف بعيداً عني
ـ لا أريد أن أضايقك
ـ تعال وأجلس بجانبي، البرد شديد وسوف تصاب بالزكام
ـ لا عليك فقد تعودت
ـ اقترب فأنا لا آكل البشر
ضحكتُ، واقتربت منها، لتعطيني نصف الغطاء الذي تضعه على كتفها، ثم سألتني:
ـ ما اسمك
ـ فارس
ـ فلوري
ـ مرحباً بك
ـ أهلا وسهلاً
ثم صمتت فلوري ولم تعد تقول شيئاً، واسم فلوري يعني "وردة" وكانت وردة حقيقية
فتاة في التاسعة عشرة من عمرها، وجنتاه مثل البرتقال، وعيناها خضراوان
كبيرتان، فمها صغير، وشعرها الذهبي المتموج يتراقص على كتفيها، كانت وردة جميلة
جداً، ولكني لم أشعر بها حتى الآن، ربما لكثرة الهموم التي تلاحقني...
كانت فلوري تقيم في المدينة وتأتي كل يوم إلى العمل في السوق، فهي تعمل بائعة عند
تاجر صيني. ومنذ أن تعارفنا كنت أقضي معظم وقتي بجانبها، حتى رآني
الصيني، وعرض علي العمل عنده في تحميل البضائع من المستودع إلى المحل، ولكن
الأجركان زهيداً، فوافقت ريثما تتوقف الثلوج، وأعود لبيع الطين...
كانت الأيام تمر بسرعة، وكنت سعيداً جداً بمعرفة فلوري، فكنت أمضي معها معظم
النهار، وفي الليل أنام عند الحارس وزوجته العجوز الطيبة.
لم أكن أعلم أني قد وقعت في حب فلوري إلا عندما أتيت إلى السوق في الصباح
ولم أجدها، فسألت الصيني عنها، ولكنه هو أيضاً، لا يدري عنها شيئا، وانتظرت
قدومها طوال النهار، ولكنها لم تأت.
لم يغمض لي جفن طوال الليل، كنت أفكر... ماذا حصل لفلوري؟ لماذا لم تأت؟
وقبل موعد مغادرتي الاعتيادي كل يوم إلى السوق، ذهبت مبكراً، وانتظرتها عند
البوابة، وبقيت واقفاً أحدق في كل الفتيات اللواتي يدخلن السوق، ولكنها لم تأت!
وبين الحين والأخر، كنت أسأل الصيني عنها، فربما دخلت من غير أن أراها، ولكنه
كان يجيبني بالنفي، وهكذا مرت ثلاثة أيام بلياليها من الانتظار والترقب...
كانت عيناي لا تفارق البوابة، وفكري مشتت بين همومي...
وفلوري التي ضمتني، حلقت بي إلى السماء، نسيت معها همومي وآلامي، عوضتني عن الحرمان
أعطتني الحب والحنان، وقلبي دائم الخفقان، شعر معها بالأمان ،فأغمضت عيني بهيام
فضاعت كل الأحلام، حبيبتي، قد خطفها الزمان، قدمت له القربان، صرخت ناديت،
سخر مني الزمان، لن ترى حبيبتك بعد الآن، سحرها عفريت من الجان، فتلاشت مع زبد
الشطآن، ارجع من حيث أتيت، قد فات الأوان
لم أستطع البقاء كثيراً في السوق، فخيال فلوري يلاحقني في كل حركة أتحركها،
عدت إلى بيت الحارس، وأنا محطم، مشغول البال، ارتميت على السرير، ووضعت الوسادة
فوق رأسي، محاولاً الهروب إلى أعماقي الدفينة، لعلي أجد فيها شيئاً يواسيني
فشعرت بشفتيها تلامس أصابعي، وأنفاسها تدق أبواب قلبي، لم يكن حلماً، كانت هي
حبيبتي! لم أقول شيئا، شعرت بأن القلب الذي توقف، عاد ينبض من جديد، وضمتني إليها، ثم قالت:
ـ اشتقت لك
ـ وأنا أيضاً،أين كنت كل هذه المدة
ـ لقد زرت عمتي، وكانت مريضة جداً، فلم أستطع تركها وحدها، حتى تعافت
ـ وأنا؟
ـ ما بك؟
ـ لقد مرضت بسبب بعدك عني، فمن سيبقى بجانبي؟
ضمتني بقوة وقالت:
ـ لن أغيب عنك بعد الآن
ـ وإذا مرضت عمتك مرة ثانية؟
ـ عندها، سوف نذهب سوية إليها
شعرت أن الحياة عادت من جديد، وكل شيء رجع كما كان، حتى الثلوج، لم تعد
تتساقط بغزارة، وعدت إلى بيع الطين، ولم أكن أفارق فلوري نهائياً، كنت أبقى
بجانبها حتى تركب الحافلة في آخر النهار، وأبقى واقفاً أنظر إليها حتى تغادر
وفي الصباح كنت انتظرها عند موقف الحافلة، وعندما تأتي أضع يدي
بيدها ونسير معا إلى السوق.






 
 توقيع :
قال تعالى {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }النجم28

دائما النية الطيبة لاتجلب معها إلا المفاجآت الجميلة
لاتغيروا أساليبكم فقط غيروا نياتكم فعلى نياتكم ترزقون



رد مع اقتباس