عرض مشاركة واحدة
قديم 09-12-2011   #4


الصورة الرمزية الغزال الشمالي
الغزال الشمالي غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 218
 تاريخ التسجيل :  Apr 2011
 أخر زيارة : 07-10-2013 (07:01 PM)
 المشاركات : 2,111 [ + ]
 التقييم :  119
لوني المفضل : Cadetblue
شكراً: 0
تم شكره 2 مرة في 2 مشاركة
افتراضي



الفصل الثاني



اهتم الخليفة بأمر المنذر وعبد الرحمن اهتماماً بالغاً.. وأنهى إليه واليه ببغداد أبي الحسن ابن يونس أمر العناية بهما.. مستجيباً إلى اقتراحهما
في إرسال فرقة من الفرسان لاغتيال طاغية قانين. وأمر الخليفة واليه أن يتدبر أمر هذه المعضلة بسرعة تامة.. فقد رأى أن الآمال تعلقت به..
وأن أهالي تلك المدينة المنكوبة يعدونه - بعد الله - المنقذ الوحيد لهم.. فهو الذي تهفو لنجدته قلوب المتضررين من المسلمين
في مشارق الأرض ومغاربها.. لأنه الأقوى بين ملوك المسلمين في الوقت الحالي.
وقد جلس الوالي - أبو الحسن ابن يونس- صباح اليوم الذي تلا قدوم المنذر ورفيقه يحدق في الأرض بصمت ويتأمل فيما عهد به الخليفة إليه..
وألح في سرعة إنجازه..
لم يكن في مجلسه ذلك الصباح الباكر سوى بعض مواليه وحاجبه. وقد بلغت الحيرة به حدّاً أطبق معه فكيه صامتاً.. وجمد على كرسيه كالصنم..
وقد مضت ساعتان على هذه الوضع.. لم يتحرك فيهما إلا ليريح جسده بتغيير وضع جلسته!
وفجأة.. دبت فيه الحيوية.. وسطعت ملامحه بالبهجة.. وقد بدا واضحاً أن فكرة طرأت له.. فالتفت إلى حاجبه الواقف بالباب..
وحرك شفيته اللتين أيبسهما تطاول الصمت وقال:
- لا تدخل إليَّ أحداً هذا الصباح حتى أعلمك.. وانطلق من فورك حتى تأتي دار جابر الحبشي ولا تعد إليَّ إلا وهو معك..
واحذر أن يعلم أحد عن قصدك شيئاً. حقّاً.. الفارس الجيد جابر الحبشي هو خير من يمكن اختياره لهذه المهمة الشائكة..
فالسفر عبر بلاد شاسعة كبلاد فارس واختراق أراضي المغول بقليل من الرجال..
ثم اقتحام عرين أمير حذر شرس مغامرة خطيرة.. لا يتصدى لها إلا طموح يطلب المجد.. أو مجاهد ينشد الموت في سبيل الله..
وكلتا الصفتين يجمعهما جابر الحبشي. إنه شاب مقدام.. في قلبه غيرة فائقة.. وهو إلى ذلك مقاتل شجاع.. وقد انتظم في جيوش
الخليفة منذ أن شب وقوي ساعده.كان عبداً مملوكاً لأبي الحسين ابن يونس- شقيق الوالي - وكان أبو الحسن قائداً في عسكر
العباسيين فدرب فتاه خير تدريب على القتال والفروسية.. وقاتل معه وهو لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره.. وعندما بلغ الخامسة والعشرين
من عمره أعتقه وجعله في جنده.وقد كان الوالي أبو الحسن شديد التعلق به لأمانته.. وإتقانه لما يكل إليه من عمل.
إن مجموع صفاته الجيدة.. ترشحه أن يكون أهلاً للحملة الخطيرة التي اعتزم الخليفة إنفاذها. وتؤهله كذلك أن يكون كفؤاً للجائزة
التي رصدها لهذا الشأن..وأعدها لمن يقتل شيوم بنفسه.. وهو لم يكن في ذلك بخيلاً فقد جعل مدينة "الأشبار" العامرة
بالشام جائزة سخيّة لمن يقضي على الأمير شيوم المغولي.
ظل الوالي ابن يونس يترقب عودة حاجبه بلهفة.. وبعد قريب من الساعة وقف بنهاية مجلسه شاب متقلدٌ سيفاً.. نحاسي اللون.
وقد ألقى السلام لدى وقوفه بالباب فرد الوالي مخفياً عظيم سروره بالوقار:
- وعليكم السلام يا جابر ورحمة الله.
وتقدم جابر وقبل رأس الوالي.. ثم التقط يده وقبلها وسط امتناعه المصطنع!
وقال الوالي معاتباً:
- ألا تريح جنبك من تقلد هذا السيف؟
فقال جابر:
- لم أحمله إلا الساعة فقد أدركت أن سيدي لم يدعني في هذا الصباح المبكر إلا لأمر جليل!
- لقد أصبت في ظنك إنه أمر جليل انقطعت عنده الحيل.. وتناقض فيه أمران الأول ضرورة القيام به عاجلاً
والثاني صعوبة إنجازه تقارب امتناعه عن التحقيق!
- إن كان في تحقيقه خير فسيعين الله على إنجازه.
- لقد ألقى به على كاهلي أمير المؤمنين.. ولله كم أثقلني ذلك.
- لعله يكون طغيان الأمير المغولي شيوم وما يروى عن فظائعه؟
- هو ذاك يا جابر.. كيف عرفت؟!
- ألم يقدم بشأنه رجلان من عرب بلاد فارس.. المنذر بن سعد ورفيقه عبد الرحمن اللذان هربا من سجن شيوم بعدما رأيا ما لا يسر العين؟
- هل تسامع الناس بخبر الرجلين وما جاءا يطلبان.. إن الخليفة أوعز إليّ أن أنظر في الأمر بغاية الخفية!!؟
- لم يعلم الكثيرون.. إنها مجرد تخرصات من بعض المحيطين بالخليفة.. ولكن مظالم ذلك الأمير لم تعد تخفى على أحد.
- إن المشكلة تكمن في أن التعرض له من قبلنا سيهيج علينا هؤلاء التتار وسيكون في ذلك تهديد لدولة بني العباس!
وبعد صمت تابع الوالي:
- لقد اخترتك يا جابر لهذه المهمة الخطيرة.. إنني عظيم الثقة بك.. وماضيك في البسالة والجرأة.. وصدق تدينك لا يخفى عليّ..
بهت جابر لهذا الإطراء السخي من الوالي فسارع يقول في حياء:
- أستغفر الله يا سيدي.. ما أنا إلا صنيعة يديك.. وتربية سيدي أبي الحسين.. ولا أظنني أهلاً لما تعدّني له.. إنني محدود القدرة!
لم يبال الوالي بتواضعه.. فقال:
- إن صفاتك التي أعلم جيداً تجعلني لا أحيد عنك إلى غيرك.
أحنى جابر رأسه إلى الأرض.. يفكر تفكيراً شوشته المفاجأة.. وأمهله الوالي مدة كافية ليتخذ قراراً.. فلما أبطأ عليه قال في إصرار:
- يا بني.. أنا عازم عليك أن تعد العدة لهذا الأمر.. فلا مناص لك منه.. وقد أزمعت أن أريح كتفي من حمله إلى كتفيك.. فما تقول؟
أجاب جابر مقتنعاً:
- وافقت يا مولاي.
- على أن تختار من الرجال من تشاء في خفية تامة.. وتسافر لاغتيال هذا الطاغية..
- على أن أذهب لأريح المسلمين من شرّه.. وأرفع عنهم كيده وبطشه.
- وتقبل جائزة أمير المؤمنين التي جعلها مقابل رأسه.؟
- أما الجائزة فلا علم لي بها!
- لقد كتب أمير المؤمنين على نفسه كتاباً وأمرني أن أشهد بما فيه.. أن قائد الحملة الذي يباشر الإجهاز على الطاغية بنفسه ويقتله..
سيجعله حاكماً لمدينة "الأشبار" بين الشام والعراق مكافأة له.. حاكم بحاكم ومدينة بمدينة.
بانت الدهشة والسرور على محيا جابر فهتف:
- إنه المجد بعينه يا سيدي.. إنها جائزة عظيمة!!
- إنها لك إن فزت يا جابر.
- سأسعى حتماً إلى الفوز.. فالنفوس تتوق إلى مثل هذه المكرمة.
- إني عظيم الثقة في أنك ستفوز وتنتصر في هذه المهمة إذا أوليتها كامل عنايتك.. أسأل الله لك العون والتوفيق..
وسأستدعي الرجلين اللذين حملا هذا الأمر إلى مقام أمير المؤمنين..
المنذر بن سعد وصاحبه.. سأستدعيهما لتسمع منهما رأيهما فيما يتعلق باقتحام قصر شيوم.. فهما يعرفان الكثير عن تلك البلاد.
والتفت الوالي إلى حاجبه وأمره باستدعاء المنذر بن سعد ورفيقه عبد الرحمن من دار الضيافة الملحقة بقصره.
وخرج الحاجب لتنفيذ أمر الوالي. ولم تمض لحظات حتى دخل المجلس شاب قصير القوام.. أبيض.. ذكي النظرات.. يلوح المكر..
في ملامحه الحسنة. ولم يكد يدخل حتى بان الكدر في وجه جابر.
كان ذلك يوسف بن محمد الابن الأكبر لأخت الوالي ابن يونس.. ولم تكن المودة قائمة بينه وبين جابر.. بل كان يحكم علاقتهما
منافسة وشبه عداوة.. ومرد ذلك إلى تنافر طبيعتهما.. فجابر معتدل السيرة مستقيم المدارك ويوسف من جهته متكبر..
يتكئ على نسبه وقرابته من الوالي.. وينساق خلف المطامع والشهوات بلا تعقل.
ويحتقر جابراً لأنه ينافسه الزلفى من الوالي ويغضب إذا قارن أحد بينه وبين جابر.. فهو لا يرى مجالاً للمقارنة!!
كان طموحاً بشكل مندفع.. شديد السعي لإرضاء نفسه وتحقيق ما يريد بشتى الوسائل.. ولم تكن الشجاعة تنقصه..
وقد أوقع خاله الوالي في مشاكل عديدة، غير أن الأخير كان يبدي كلفاً به وتسامحاً من قبله.. وسرعان ما يرضى عنه ويرضيه..
ويتناسى ما يسببه له من متاعب.
وقد تعاظمت الفرقة بينه وبين جابر لدن دخوله مجلس الوالي.. فمدينة "الأشبار" مطلب قديم وملح من مطالب يوسف بن محمد..
ومن أمانيه الكثيرة أن يتولى حكمها.. وبما أن "الأشبار" أصبحت محط نظر جابر فقد بدأت الفجوة تتسع بينهما أكثر!
وقد دهش الوالي عند دخول ابن أخته وتمنى لو كان في غير هذا الوقت.. ونوى أن يلوم الحاجب لولا أنه تذكر بأنه قد أمره
أن يدخل يوسف بن محمد في أي وقت يجيء فيه!
وعند دخوله سلّم يوسف على خاله وقبل رأسه.. وناول جابراً أطراف أصابعه.
وبعد حديث قصير دخل المنذر بن سعد وعبد الرحمن.. ورحب بهما الوالي وجابر ويوسف.. كانت الراحة المديدة التي أخذاها قد غسلت
عنهما كآبة السفروقتامة الموقف الذي كانا فيه.. وكانا يرتديان حللاً جديدة ويتخذان مظهر الأضياف الذين لقوا تكريماً خاصّاً.
وقد أفسح الوالي المجال لجابر أن يتحدث إليهما استعداداً لتنفيذ الأمر الذي اعتزم فعله.. ولكنه كان مشغول البال بيوسف وأي شيء يصنع
به فهو يدرك الفجوة التي بينه وبين جابر.. ولم ينس رغبة ابن أخته في مدينة "الأشبار" فأطرق إلى الأرض يفكر بسرعة.
ثم نهض.. وأشار إلى يوسف أن يتبعه إلى داخل القصر.. وقد ذهبت الظنون بجابر كل مذهب.. ولم يستبشر خيراً من انفراد يوسف بخاله!
وفي الداخل ألقى الوالي بجسده على كرسي مرتفع وأريكة وخاطب ابن أخته في عبوس متكلف:
- أي ريح سموم ساقتك إليَّ في مثل هذه الساعة يا شقي؟!
ردَّ يوسف وهو يجلس قريباً من خاله:
- شممت رائحة "الأشبار" فجئت..
- أنت شيطان من الشياطين!!
- إن كان ذلك يعجبك يا خالي.. فأنا شيطان من الشياطين!
- أيَّ شيء جئت تطلب هذه المرة؟
- أنت تعلم أني لا أطلب دائماً إلا شيئاً واحداً.. وقد نُمِيَ إلى علمي أن أمير المؤمنين قد جعل ما أطلب جائزة لمن يقضي على شيوم أمير قانين!
- ألن تكف عن طمعك الذي لا حد له يا خبيث؟
قفز الشاب عند قدمي خاله ثم خطب يده وقبلها وأجاب باسماً:
- أنا كل شيء تريد.. لكن لا تحرمني مما أنا أهل له..
ثم أضاف بلهجة معاتبة يعلم مدى وقعها على قلب خاله:
- لماذا تعرض مدينة "الأشبار" أن يأخذها غيري وأنت تعلم أنها أمنيتي منذ سنوات.. لماذا لم تعرض عليَّ أن آخذها وبحقها؟!
- كيف؟
- أنا لا أريد أن أحكم مدينة "الأشبار" إلا وأنا كفؤٌ لذلك جدير به.
- كيف؟
- أقصد أني سأنفذ طلب أمير المؤمنين وأفي بشرطه.. وأذهب إلى بلاد فارس وأقتل شيوم وأفوز بالأشبار عن حق وجدارة.
ركل الوالي صدر يوسف برجله في لطف وهو يقول:
- إنه عمل صعب.. أنت لا تعي مدى الأخطار التي تنتظر كل من يحاول التسلل خلال تلك البلاد..
ثم يقتحم قصراً منيعاً لرجل لا يكاد ينتمي للآدميين!
- بلى أدرك ذلك.. وسترى كيف أفعل لو أذنت لي!
- وهل تدرك أن لا أحد يمكنه أن يتجسس على المغول ويندسّ بين صفوفهم لأنه لا يشبههم أحد في هيئتهم وخلقتهم؟!
- وأدرك ذلك أيضا..
- أنا أخشى إن ذهبت.. ألا يعود منك إلا خبر مصرعك!!
- كل من سيذهب معرض لأن يقتل.. والقتل ليس عيباً بل هو مصير الشجعان دائماً.. ولست أقل شجاعة من غيري.. ولست
طفلاً ولا غرِّاً فأنا في الثلاثين من عمري ولست جباناً ولا أحمق.. وأنت خالي.. وخير من يعلم قدرتي وعقلي. ألا يكفي كل هذا؟!!
وساد الصمت قليلاً ولان الوالي ابن يونس تجاه إصرار ابن أخته واندفاعه.. لكنه قال محاولاً التخلص منه:
- لقد كان ما تطلب ممكناً لولا أنني قد فرغت وأعددت لهذه المهمة رجلاً غيرك.
- ووعدته بأن يلي "الأشبار" لو قتل شيوم؟؟
- نعم.
- وهل هو من الحاضرين في مجلسك الآن؟
- نعم.
- جابر..؟
- نعم!
- توقعت ذلك.. إنه طموح وجريء.
- هذه الرحلة وجائزتها من نصيبه.. فإن فاز فذلك له، وإن فشل هو ومن معه أقنعت أمير المؤمنين بأن تسير أنت
بسلاح ورجال وتحاول اغتيال شيوم ثانية ولك بلاد الأشبار.
- إن أذنت.. فثمة ما هو خير من ذلك..
- ما هو؟
- أن نذهب سويّاً فأينا أراد الله أن يكون مقتل شيوم على يديه فله حكم المدينة.
- ربما احتدم التنافس بينكما.. وفشل الأمر كله؟!
- أنا لن أنافسه.. بل سأساعده وسيكون رئيس الرحلة وصاحب الأمر والكلمة الأولى.. ولن أقعد له مقعد المخالف في أي طريق..
لكن إذا أتيح لي الإجهاز على الطاغية دون اعتراض منه فلن أتردد.. وتكون"الأشبار" لي.
سكت الوالي.. وبعد تأمل - غير طويل- في كلام يوسف.. درس خلاله العواقب وما يمكن أن ينتج عن المشاركة بين الشابين
الطموحين المتنافسين.. صور له عقله أن العواقب ستكون حميدة..
فجابر كفءٌ للرحلة ومتاعبها ولا يمكن التنازل عنه.. ويوسف مندفع لا يخلو من شجاعة وتهور أحياناً..
لكن إذا كان صاحب القول الثاني في الرحلة.. ومجرد مساعد لجابر
فلن يكون له تأثير في مسايسة الأحداث وتوجيه الرجال.. وكل ما في الأمر أنه سيرضيه بإتاحة الفرصة له
ليقضي على شيوم ويحصل على ما يطلب.. بل سيكون مفيداً لو وقع جابر فالرجال لن يختلفوا بعده ولن يعوزهم
إيجاد قائد يسوسهم عوضا ًعنه.. وليس فرق بين أن يذهب الآن مع جابر..
أو يذهب فيما بعد في رحلة أخرى. ولهذا كله فاجتماع يوسف وجابر في رحلة واحدة سيكون سبباً من أسباب النجاح.
لذا فقد قال لابن أخته:
- لقد وافقت على رأيك.. على أن تلزم نفسك بما تعهدت به آنفاً..
فهتف يوسف بجذل:
- أعدك بذلك يا خالي.
وفي المجلس كان جابر قد أسهب في الحديث مع المنذر وعبد الرحمن ورفض عرضهما بمرافقة الرجال إلى قانين فهما شخصان
معروفان للحرس المغولي وربما أعاق وجودهما الحملة وكشف خطّتها. وقد ابتدر الوالي لدن خروجه عليهم بصحبة يوسف قائلاً:
- سأبشر الخليفة بما توصلنا إليه.. وسيرافقكم يا جابر.. يوسف.. وربت على كتف ابن أخته بوقار حنون.
أما جابر فقد ألقى على يوسف نظرة مختصرة، ولم يَخْفَ على الوالي ذلك الكدر العظيم الذي اكتسح ملامحه..
لكنه رجح أن الصفاء سيسود علاقتهما سريعاً.
وبعد مضي مدة من النقاش والتدبير للرحلة قال المنذر:
- ثمة أمر هام يا سيدي الوالي.. لقد عملت في القصر الذي يقيم فيه شيوم وأنا فتى يافع.. فأنا أعلم بمداخله ومخارجه..
فقد كنت مساعداً للطاهي- طاهي القصر- في خدمة حاكم المدينة الفارسي
قبل أن تحل به وبغيره نكبات المغول. واقتحام القصر أمر صعب للغاية فهو معقد البناء والأمير شيوم قد احتاط أشد الحيطة..
واختار حامية قصره بنفسه.. ولم يجعل حرسه وخدمه المقربين
إلا ممن يثق فيهم.. وكل حرس القصر من بني جنسه من المغول.. لذا فالدخول إلى القصر أو التسلل مهمة
صعبة فالداخل سرعان ما ينكشف أمره متى ما رأوا وجهه يختلف عن وجوههم!
وسأل الوالي:
- لقد جال هذا الأمر بخاطري يا منذر فالقوم حقّاً لا يشبههم أحد.. لكن ألا يوجد بالمدينة من يرغب بالمشاركة إذا دفع له مال لا بأس به؟
- من الممكن ذلك لكن لا يصح تسيير الرحلة اعتماداً عليه فالناس يعرفون وحشية الأمير ويهابونه وهم في بيوتهم فكيف باقتحام عرينه!!
إنه لا يدخل عليه أحد من غير المغول إلا سويعات من نهار يفتح باب قصره الكبير فيدخل عليه أصحاب الحوائج
وينظر في أمرهم وكل ذلك بعد أن يفتشوا وتؤخذ أسلحتهم منهم. فإذا حل الليل أغلقت البوابة
ولم يؤذن لأحد بالدخول.. بل لا يسمح بالاقتراب من أبواب القصر!
- وحامية قصره ! أليس فيهم من يمكن شراؤه؟
- إنه قاسٍ مع الجميع.. لهذا لا أستبعد وجود جندي يمكن الدفع له مقابل مساعدة منه..
لكن إيجاده صعب وربما جر ذلك إلى المصائب والأخطار.
- إذا ماذا ترى أنت؟
- لقد فكرت في هذا الأمر منذ قدمنا إلى العراق أنا وعبد الرحمن فما وجدت حيلة خيراً من أن يتسلل إنسان
إلى داخل القصر.. حيث سأرسم له خارطة بممرات القصر..
أعين له فيها المنافذ والأبواب والدهاليز والمكان الذي يقطنه شيوم.. فأنا متأكد أنه هو نفس المقصورة
التي كان يستعملها الحاكم الفارسي لنومه. وبعد ذلك يفتح للبقية
وينطلق الرجال ساعة دخولهم إلى مكان الطاغية مجتمعين.. ويجتهدوا ألا يعلقوا بأحد من الجنود حتى يبلغوه
فإذا نالوا منه وقتلوه وحققوا الغاية التي جاؤوا من أجلها..
لاذوا بالفرار مرتدين من حيث جاؤوا.. ولا يقاتلون إلا من اعترض طريقهم. هذا هو رأيي يا سيدي.
خلّل الوالي لحيته بأصابعه في تأمل.. وقال:
- ولكن تبقى المعضلة الأولى في أن شخصاً لن يقدر على التسلل داخل القصر دون أن يكتشف وتعرف غايته.. ؟
- هذا الشخص الذي ذكرت لا بد أن يكون مغولياً.. شبيهاً بهم حتى يستطيع التنكّر والدخول وسط الحراس..
ولا بدّ أن يكون مجيداً للعربية حتى يسهل التخاطب معه والتخطيط والاتفاق.. ولا بد أن يرضى بالمخاطرة والمغامرة
بحياته فالحيلة كلها تعتمد عليه! أعجب الوالي بخطة المنذر بن سعد في الكيفية التي سيقتحم بها القصر..
وألزم بها جابراً ويوسف، لكن يوسف أبدى ملاحظته وخاطب الوالي:
- إنها شروط صعبة.. فأين سنجد هذا الإنسان الذي تنطبق عليه الأوصاف التي ذكرها المنذر؟
أجاب الوالي على الفور ملتفتاً إلى جابر:
- أنت يا جابر من سيبحث عن رجل بهذه الصفات وستبدأ من هذا اليوم وسأمهلك نصف شهر لتجده.
وبكل أريحية أجاب جابر باسماً:
- سأجتهد في البحث عن هذا الشخص الذي لا وجود له!
وقال الوالي ليوسف بن محمد:
- وأنت عليك أن تختار عشرة من الرجال وتجزل لهم العطاء.. وأخبرهم بما ينتظرهم من الأخطار حتى يكونوا على بينة..
لكن لا تخبرهم عن المدينة ولا الوجهة حتى تفارق بغداد.
وقذف بين يديه بكيس أخرجه من صندوق عنده مضيفاً:
وعليك أن تجد جيادا وسلاحاً لك ولرجالك وما يلزم لرحلة كهذه.
وأعطى جابراً كيساً أكبر من الذي أخذه يوسف وقال:
- وأَعِدَّ أنت يا جابر أيضاً خيلاً وسلاحاً.. واختر كذلك قريباً من عشرة رجال ولا ترفض لهم أي أجر يطلبونه.
وتناول المنذر الرقعة وأخذ ريشة غمسها في دواة الحبر.. وجعل يرسم خريطة مفصلة للقصر الذي سبق أن جاله كله وهو صبي..
قبل أن يصبح مَوْئلاً للأمير شيوم. رسم الردهات والأبواب والدهاليز ومقر الغرفة التي كان ينام بها الحاكم السابق
والتي رجح أن شيوم قد اتخذها موضعا لنومه كما رسم أسوار القصر
وحدد ارتفاعاته المتباينة ووضع علامات للأجزاء المنخفضة منه. ثم عرض تلك الرسوم على الوالي وهو يقول:
- هذه يا مولاي هي خريطة القصر فمن أراد الدخول إليه فلا بد أن تكون معه حتى لا يقضي وقتاً في البحث عن طريقه.
ونهض المنذر مستأذناً بالرحيل. فقال له الوالي:
- بارك الله فيك يا منذر أنت وصاحبك ستؤجران إن شاء الله على صنيعكما.
ثم أضاف وهو يمد لهم مالاً استخرجه من صندوقه:
- هذا بعض ما تستحقان..
شكراه جميعا، وقال المنذر:
- سأذهب إلى أهلي إلي بادية الشام.. وصاحبي سيتجه إلى الجزيرة.
وأمر لهما الوالي بركاب وعتاد فقبّلا يده و ودعا الجميع وخرجا. والتفت الوالي إلى جابر ويوسف وقال مؤكداً ما اعتزم عليه:
- أريد أن تنجح هذه الحملة بأي ثمن.. افهما ما أقول!
وكانت الرقعة على خوان الوالي.. وامتدت إليها يدا جابر ويوسف معا ولكن يد جابر كانت الأسرع فالتقطها
وتأملها برهة قصيرة ثم طواها ووضعها في جيبه! ولم يخف ذلك على الوالي لكنه تجاهله..
وفيما عُدَّ تصرف الوالي ذلك وتجاهله لهذا الأمر البسيط من أخطائه القليلة..
وردد الناس أن الحكمة التي اشتهر بها أبو الحسن ابن يونس قد خانته هذه المرة!!


 يُتبع






 
 توقيع :
قال تعالى {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }النجم28

دائما النية الطيبة لاتجلب معها إلا المفاجآت الجميلة
لاتغيروا أساليبكم فقط غيروا نياتكم فعلى نياتكم ترزقون



رد مع اقتباس