عرض مشاركة واحدة
قديم 12-25-2011   #2


الصورة الرمزية بسمة روح
بسمة روح غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 234
 تاريخ التسجيل :  Apr 2011
 أخر زيارة : 09-13-2014 (01:00 PM)
 المشاركات : 12,175 [ + ]
 التقييم :  53790370
لوني المفضل : Cadetblue
شكراً: 0
تم شكره 5 مرة في 5 مشاركة
افتراضي



الآية الوحيدة التي قدم الله فيها النفس علي المال كانت: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم.. بأن لهم الجنة" (سورة التوبة آية 111) إلى آخر الآية.. هنا قدم الله النفس لأنه سبحانه وتعالى الذي يشتري, ويعلم أيهما أغلى: النفس أم المال.. بمعنى أن الإنسان من شدة تمسكه بالمال قد يتحرج في الجهاد به أكثر من تحرجه في الجهاد بنفسه!!
ولهذا الأمر تطبيق كبير في الواقع.. وجدناه في أنفسنا وفي من حولنا.. وجدنا من يقدم كنز ماله على نفسه وراحتها ومتعتها!! قد يخاطر بسمعته من أجل المال, مع أن تلويث السمعة إيذاء للنفس! قد يخاطر بحريته من أجل المال, وتقييد الحرية إيذاء للنفس! قد يخاطر بإراقة ماء الوجه من أجل المال, وإراقة ماء الوجه إيذاء للنفس! بل قد يخاطر بإخوانه وأحبابه.. وحتى بأبنائه من أجل المال؛ يتركهم أعواما وأعواما.. يعمل بعيدا وحيدا حزينا من أجل المال, وترك الأهل والأحباب إيذاء للنفس!
وفوق كل ذلك.. قد يخاطر الرجل بحياته ونفسه من أجل المال, وهذا ليس مجرد إيذاء للنفس.. بل هو تضييع لها!! نشاهده كثيراً.. أرأيتم المرتزقة كيف يقاتلون في المعارك الضارية من أجل المال؟ أرأيتم السائق كيف يقود سيارته وهو يغالب النعاس, فلا يركن إلي راحة معرضًا حياته وحياة من معه للضياع من أجل المال؟ أرأيتم مريض القلب طبيبًا كان أو مهندسًا أو تاجرًا.. كيف لا يكف عن الإرهاق في عمله وهو يعلم أنه يعرض نفسه لموت من أجل المال؟؟..
حب المال – إذن - متغلغل تماما في النفس البشرية, مسيطر تماماً علي جنباتها.. لماذا؟ لماذا يخلق الله جلت قدرته وتعاظمت حكمته الإنسان علي هذه الجبلة؟ لماذا يفطره علي هذه الفطرة؟ ما الحكمة الربانية الجليلة وراء ذلك؟ هذا ما أسميه "فلسفة الابتلاء".. الله سبحانه وتعالي - بقدرته وحكمته - زرع في النفس أمورًا متأصلة فيها, وعظم جدًا حبها فيها.. ولما علم سبحانه وتعالى أنك أصبحت تحبها حبا جما, ولا تطيق لها فراقًا.. هنا طلب منك أن تبذلها في سبيله, وتنفقها من أجله.. حتى تثبت أنك تقدِّم حب الله علي حب شيء متأصل عميق في الفطرة, وهذا دليل الصدق في حب الله.. ولو طلب الله من الخلق بذل شيء بسيط زهيد لنجح في الاختبار الصادقون والكاذبون.. الأمر ليس تمثيلية هزلية.. الاختبار حقيقي وجاد.. بل هو عسير وشاق, ولكونه عسيرًا وشاقًّا فإن المكافأة سخية والجائزة عظيمة.. بل هي أعظم من أن يتخيلها البشر, أو تخطر علي أذهانهم.. إنها الجنة!! لو أدركتم حقيقتها لذبتم اشتياقًا إليها.. لو أدركتم حقيقتها ما طابت لكم حياة علي الأرض.. لو أدركتم حقيقتها ما خاطرتم بها, ولو كان الثمن خزائن الأرض وكنوز الدنيا بأسرها... ترجمة هذا أنك تجد في نفسك حبًّا فطريًّا, وميلاً غريزيًّا للمال, ثم يطلب الله منك أن تنفقه في سبيله.. هنا لا بد أن تعقد مقارنة سريعة حتمية في داخلك: أيهما تحب أكثر: المال..؟ أم الله؟! نعم يا إخوة, هذه هي الحقيقة بكاملها: المال.. أم الله؟؟! كل إنسان سيقول بلسانه: أختار الله على ما سواه.. لكن لابد أن يصدِّق العمل قول اللسان، وإلا فما معني الاختبار؟!
وترجمة هذا أيضا أنك تجد في نفسك حبًّا فطريا للآباء والأبناء والأزواج والعشيرة, ثم يأتي موقف إما أن تُرضي فيه الأحباب, وإما أن ترضي فيه الله.. وعليك أن تعقد مقارنة سريعة: الأحباب..؟ أم الله؟! وتذكَّر أن الإجابة ستكون بالفعل لا بالقول.. الأمر جدُّ خطير, والقضية مصيرية في حياة الإنسان: "قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره, والله لا يهدي القوم الفاسقين"(سورة التوبة آية 24 ) انظر إلي هذه المقارنة.. الجهاد جزء من حب الله ورسوله لكن لماذا يذكر في هذا المقام؟ حتى يلفت النظر إلي قضية: (الفعل لا القول)؛ فلا يكفي أن تقول: أحب الله أكثر.. ولكن لابد من الجهاد في سبيله, وبذل هذه الأشياء الثمانية المذكورة في الآية..
ولكن.. ماذا لو لم تفعل؟ "..فتربصوا حتى يأتي الله بأمره, والله لا يهدي القوم الفاسقين".
أنا أريد أن أحفزكم إلى معاكسة فطرتكم, ومخالفة ميلكم, ومقاومة غريزتكم.. وهو أمر من الصعوبة بمكان - كما ترون - ولأني أعلم أني أضعف من أن أحفزكم بقولي, فقد آثرت أن أحفزكم بقول العليم ببواطنكم.. الخبير بخفايا نفوسكم.. القدير علي تصريف قلوبكم... سأذكر لكم طريقة الله عز وجل في التحفيز على الإنفاق, وهي طريقة عجيبة فريدة معجزة, جديرة بأن تدرس بعمق, وتُفهَمَ بعناية, وهي طريقة تختلف كثيراً عن طريقته سبحانه وتعالى في التحفيز علي أمور الخير الأخرى.. طريقة تشعرك فعلا أن قضية إنفاق المال قضية محورية في مسألة الابتلاء و الاختبار, بل هي قضية محورية في إثبات صدق إيمان العبد.. ولكونه يعلم سبحانه أن إخراج المال شاق وعسير, فقد نوَّع في طريقته, وعلَّم رسوله الكريم صلي الله عليه وسلم وسائل فريدة لتحفيز المسلمين نحو حب الإنفاق, والوقاية من شح النفوس..
هذه الوسائل.. هي موضوع الصفحات التالية.


كيف تحب الإنفاق في سبيل الله؟

أولاً: والثمن.. الجنة!
جعل الله سبحانه وتعالى الجنة نتيجة مباشرة لإنفاق المال.. فعلى سبيل المثال يقول سبحانه وتعالى: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم, وجنة عرضها السموات والأرض.. أعدت للمتقين؛ الذين ينفقون في السراء والضراء, والكاظمين الغيظ, والعافين عن الناس, والله يحب المحسنين" (سورة آل عمران آية 133) فأول صفة تُذكر للمتقين: أنهم ينفقون في السراء والضراء! يقول ابن كثير رحمه الله: "أي: في الشدة والرخاء, والمنشط والمكره, والصحة والمرض... وفي جميع الأحوال".
ويتضح بالفعل أننا نعاني من قصورٍ شديدٍ في فهم حقيقة الجنة.. فالجنة كلمة كان لها فعل عجيب في نفوس الصحابة؛ فكانوا يستعذبون الآلام في سبيلها, ويستمتعون بالموت من أجلها!!
"الجنة".. كثيراً ما تتردد علي أسماعنا؛ فلا تُحدث في قلوبنا ما كانت تحدثه في قلوب الصحابة, ولابد أن نقف مع أنفسنا لحظات؛ فنسألها: لماذا؟! لقد سمع هذه الآية السابقة ذاتها عمير بن الحمام (رضي الله عنه وأرضاه) في غزوة بدر, فماذا فعلت فيه؟؟
روى الإمام مسلم رحمه الله, عن أنس بن مالك رضي الله عنه, أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال يوم بدر: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض" يقول عمير بن الحمام الأنصاري رضي الله عنه: يا رسول الله, جنة عرضها السموات والأرض؟؟! أصابت الكلمة قلبه لا أذنه!!.. قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "نعم".. قال عمير: بخٍ بخٍ!! فقال رسول الله صلي الله عليه سلم: "ما يحملك علي قولك بخٍ بخٍ؟!".. قال: لا والله يا رسول الله.. إلا رجاء أن أكون من أهلها.. قال: "فإنك من أهلها!" بشرى من الصادق المصدوق صلي الله عليه وسلم.. فأخرج تمرات من قرنه, فجعل يأكل منهن ليتقوى علي المعركة, ثم قال: لإن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه.. إنها لحياة طويلة!! حياة طويلة تفصله عن الجنة!! قال أنس بن مالك: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتل.. موعده الجنة؛ فكيف يصبر علي الحياة؟!!
بل ارجع إلى بيعة العقبة الثانية, وتأمل ذلك الموقف الرائع! فقد روى الإمام أحمد رحمه الله عن جابر رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله, علام نبايعك؟ قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "على السمع والطاعة في النشاط والكسل, وعلى النفقة في العسر واليسر, وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وعلى أن تقوموا في الله.. لا تأخذكم في الله لومة لائم, وعلي أن تنصروني إذا قدمت إليكم, وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم.." شروط قاسية وخطيرة, وعهد غليظ ومؤكد..
هنا.. وقبل أن يبايعوا - كما في رواية ابن إسحاق - يقول العباس بن عبادة بن نضلة (رضي الله عنه وأرضاه) لقومه ينبّههم إلي خطورة البيعة: "هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم!.. قال: إنكم تبايعونه علي حرب الأحمر والأسود من الناس؛ فإن كنتم ترون أنكم إذا نُهِكَتْ أموالُكُم مصيبةً, وأشرافُكُم قَتلاً أسلَمْتُمُوه.. فمن الآن؛ فهو والله - إن فعلتم - خزي الدنيا والآخرة, وإن كنتم ترون أنكم وافُون له بما دعوتموه إليه علي نهكة الأموال وقتل الأشراف, فخذوه؛ فهو – والله - خير الدنيا والآخرة.. قالوا: "فإنا نأخذه علي نَهَكَةِ الأموال وقَتْلِ الاشراف!!" قالوا: فما لنا بذلك يا رسول الله.. إن نحن وفينا بذلك؟ (ما هو الثمن لكل هذه التضحيات النادرة, والأحمال الثقيلة, والتبعات العظيمة؟؟) قال صلى الله عليه وسلم: "الجنة..!!" والجنة فقط!! قالوا: ابسط يدك.. فبسط يده, فبايعوه!.. لقد باع الأنصار كل شيء يملكونه من نفس ومال وراحة وأمن وأهل وديار... باعوا كل شيء, واشتروا شيئًا واحدًا: "الجنة.." ونزلت الكلمة بردًا وسلامًا على الأنصار, فاطمأنت القلوب, وخشعت الأبصار, وسكنت الجوارح..

وكانت الهجرة بعد هذه البيعة الغالية بقليل.. وكلنا يعلم كم ضحى المهاجرون ليلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولكني – هنا – أذكركم فقط بموقف صهيب رضي الله عنه أثناء هجرته.. أورد ابن عبد البر القصة عن سعيد بن المسيب رحمه الله قال: خرج صهيب مهاجرًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فاتبعه نفر من المشركين, فانتثر ما في كنانته (أي أخرج ما في كنانته من سهام) وقال لهم: يا معشر قريش, قد تعلمون أني من أرماكم (أحسنكم رميًا بالسهام), ووالله لا تصلون إلي حتى أرميكم بكل سهم معي, ثم أضربكم بسيفي ما بقي منه في يدي شيء.. فإن كنتم تريدون مالي دللتكم عليه.. قالوا: فدلنا على مالك ونخلي عنك. فتعاهدوا على ذلك, فدلهَّم, ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم.. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ربح البيع أبا يحيى!!". فأنزل الله تعالى فيه: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله.. والله رءوف بالعباد"..
أرأيتم؟! "ربح البيع..!" وكيف لا يربح وقد اشترى الجنة (سلعة الله الغالية) بما كان يملك من مال؟!.. والجنة باقية (خالدين فيها..), والمال عَرَض زائل!!
كيف لا يربح وقد قال الله تعالى: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم.. بأن لهم (الجنة!)... ثم يقول بعد قليل في نفس الآية: "فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به.. وذلك هو الفوز العظيم!!"





 
 توقيع :


رد مع اقتباس