عرض مشاركة واحدة
قديم 03-13-2012   #11


الصورة الرمزية الغزال الشمالي
الغزال الشمالي غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 218
 تاريخ التسجيل :  Apr 2011
 أخر زيارة : 07-10-2013 (07:01 PM)
 المشاركات : 2,111 [ + ]
 التقييم :  119
لوني المفضل : Cadetblue
شكراً: 0
تم شكره 2 مرة في 2 مشاركة
افتراضي



الفصل السابع


بوابة القصر كبيرة تشي بالقوة والمقاومة.. مُزينة بقطعتين من الرخام الأخضر.. ونقوش فارسية جميلة.. وفي مثل هذا الليل كانت البوابة
مغلقة، لم يكن بالخارج أحد من الحرس.تقدم عبد القيوم بثقة في زي الجندي المغولي.. والسيف المعلق بجانبه.. والخيل الأحمر النشيط..
تجعله فارساً مغولياً قدم من البعيد ليستبسل دفاعاً عن مجد التتار.
وكان واضحاً أن فقدان الجنود الستة وخيولهم و الأسيرين دون أثر واضح.. كذلك اختفاء حارس الساحة.. قد أهاج القصر عن بكرة
أبيهم.. فرغم أن الوقت كان منتصف الليل إلا أن الاقتراب من القصر يعطي انطباعاً تامّاً بالتحفز واليقظة.
ومن أعلى القصر خاطب عبد القيوم صوت شرس بلغة المغول:
- قف يا هذا.. من أنت.. ماذا تريد؟
مرت بعبد القيوم ارتعاشة واجلة، قهرها بأن جذب نفساً عميقاً ثم أجاب بنفس اللغة:
- اسمي "طبوتي" وأنا من مغول الشمال و أريد مقابلة رئيس الحرس.
- انصرف الآن.. وتعال غداً.
- لا بد من أن أراه حالاً.
- لقد أمر أن لا يفتح الباب ليلاً!
- الأمر لا يحتمل التأجيل..
انضم إلى الحارس حارس آخر وتشاورا قليلاً.. ثم أنزلا دلواً من أعلى السور يربطه حبل غليظ..
ويمثل مصعداً يغني عن فتح البوابة. وخاطبه الحارس:
- اربط حصانك.. واصعد.
وفعل عبد القيوم ما طلب منه.. وهو يعجب لهذه الطريقة المبتكرة في الدخول.
وما أن استقر في الأعلى حتى أحاط به الحارسان وواحد آخر.. وجرّدوه من سيفه.. واقتادوه إلى الأسفل عبر درج طويل.. وذهبوا
به إلى غرفة مضاءة وكان هناك شخص رابع يتناول طعاماً وقد رحب به الرجل وسأله:
- ما حاجتك يا شمالي؟
أجاب عبد القيوم:
- أريد مقابلة الأمير شيوم أو رئيس الحرس.
- ولماذا؟
- لأمر هام.. أريد أن يسمعه أحدهما مني.
- الجميع ينام الآن يا هذا.. ليس هناك سوى بعض الحرس.
وفرح عبد القيوم فـ "بعض" تعني "القليل" وكان هذا أول مكاسب مغامرته. وسأل الرجل:
من أين قدمت؟
- من الشمال.. لقد سلخت أياماً طويلة في السفر ولم أتوقف إلا الآن!
- ستتناول طعاماً الآن وتنام وغداً ستقابل رئيس الحرس.
واقتادوه ثانية إلى غرفة أخرى ولم يعطوه سيفه بل أغلقوا عليه الغرفة بالقفل بعدما وضعوا عنده بعض الطعام الذي لم يتناول
منه عبد القيوم شيئاً. بل نام نوماً جعله التحفز والتوجس متقطعاً قلقاً.
وفي الضحى.. أخذه أحد الجنود لمقابلة رئيس الحرس.
كان رئيس الحرس ضخماً مخيفاً.. وكان يصلح نشاباً بين يديه عندما أدخله الجندي عليه قائلاً:
- سيدي "لاتو" لقد جاء هذا الفارس البارحة ونام هنا.. وهو يريد مقابلتك.
تكلم "لاتو" بفظاظة:
- ألم أقل لكم ألا يدخل أحد القصر ليلاً؟
ثم نظر إلى عبد القيوم متفرساً وسأله:
- من أنت وماذا تريد؟
قال عبد القيوم:
- اسمي "طبوتي" وأنا مقاتل جيد ويهمني شرف المغول وقد سمعت بمداهمة قام بها بعض الأشقياء لقصر سيدي شيوم.. وأن الأمير طلب
زيادة حامية القصر.. وأنا أريد أن أتطوع للحراسة عنا والدفاع عن مقام الأمير.
فقال رئيس الحرس بخشونة:
- كلكم بهذا الشكل.. تأتون متطوعين للذود عن حمى المغول وبعد شهرين تطالبون بالأجر وتلحفون بالسؤال.
وصمت قليلاً ثم أضاف:
- لقد زاد الأمير في عدد الجند.. وأمر ألا نأتي بالمزيد.. ولكن لا بأس.. فنحن بحاجة إلى خدم فقد خاف كثير من الخدم الرعاع بعد
مهاجمة القصر وتركوا العمل هنا.. وقد.. ما هذه الدماء التي في ثيابك؟!
وقف شعر عبد القيوم مخافة أن يكون رئيس الحرس قد اكتشفه فقد نسي أن يغسل بقعة الدم الكبيرة التي في ثياب الجندي التي
يرتديها والناتجة عن مقتله ليلة البارحة، لكنه اعتذر على الفور:
- لقد سقطت ليلة البارحة من على الخيل ولم أجد فرصة لتنظيف ثيابي يا سيدي.
- ماذا تجيد من الأعمال يا فتى؟
- سأعمل أي شيء تطلبه مني..
أعاد رئيس الحرس تأمله من قدميه إلى رأسه ثم قال له:
- أنت تبدو فارساً فكيف ترضى أن تعمل عمل الخدم؟!
- أنا لا عمل لدي.. وأحتاج مأوى وطعام.. وإذا كان العمل في سبيل العساكر المغولية.. فلا أبالي أيَّ شيء كان في العمل.
من حسن حظك أنك مغولي فالأمير طرد من كان يعمل هنا من غير المغول منذ زمن.. لكن من أي القبائل أنت؟
- أنا من قبائل "اليوتا" في الشمال الشرقي من بلاد المغول!
اخترع عبد القيوم اسم القبيلة من ذهنه.. ولم يتوقع أن هناك قبيلة تحمل هذا الاسم.. إلا عندما كشر "لاتو" عن أضراسه وهتف بامتعاض:
- تباً لذلك اليوم الذي حاربنا فيه قبيلة "اليوتا" لقد قتل ابن عمي في تلك المعركة.. وبما أنك من هؤلاء الأقزام فستعمل
على تنظيف الحشوش و المراحيض.. وإذا لم يعجبك هذا العمل فاغرب عن وجهي حالاً!!
شعر عبد القيوم بالمرارة لهذا العمل المهين.. لكنه سرعان ما اغتبط به.! فهو يتيح له أن يتسكع في كل ممرات القصر وردهاته.. وأن يرسم
خريطة شبيهة بخريطة المنذر بن سعد. ووافق فوراً على عرض رئيس الحرس مع أنه تمنى لو يطيح برأسه في الحال.
ومنذ تلك الساعة خصصت له حجرة ليعيش فيها غاية في الضيق والقذارة.
وفي أقل من أربعة أيام أبان رئيس الحرس إلى أي حد يحتقر قبيلة "اليوتا" التي جنت على عبد القيوم.. فمع المعاملة الخشنة.. و إلى جانب تنظيف
المراحيض كان هناك بعض الأعمال الحقيرة التي لم يتعود عليها كالكنس وتنظيف الإسطبل، وكان يغتاظ أحياناً.. لكنه إذا تذكر أن كل
ذلك في سبيل الله هانت عنده نفسه ورضي! وتيسر له التجوال في ردهات القصر الخارجية..
لكنه لم يلتق بالأمير شيوم.. ولم يعرف مقرّه ولا حجرة نومه.. وكم كان في لهفة إلى ذلك.
و على مدى الأيام السابقة.. كان يستيقظ صباحاً.. ثم يقوم لجمع روث الخيول وينشره في الشمس لييبس ثم يسلمه إلى الطباخ ليستخدمه
في إشعال النار و الطبخ. ثم يبادر إلى المهمة التي تجلب الورم إلى كبده وهي تنظيف الحشوش من مخلفات الآدميين.
وقد كانت الحشوش والمراحيض منتشرة في كافة أرجاء القصر.. وكان الحش يتكون من غريفة صغيرة.. رفيعة السقف مزودة بالماء.. وفي وسطها
ثقب صغير تجلس فوقه. وتحتها حجرة ثانية عرضها وطولها ثلاثة أذراع وارتفاعها كذلك ولها بويب صغير..
وكان ما يمر مع الثقب يصير إلى الحجرة السفلى.. وعندما تجتمع القاذورات فيها.. يأتي منظف الحشوش ويفتح البويب
الصغير ويكنس تلك القاذورات ويجمعها في عربة يجرها بنفسه.. ويخرج بها خارج القصر.. ثم يلقيها بعيداً.

وقد حمد عبد القيوم ربه على هذا العمل، فمع إتاحته له بالتنقل داخل الحديقة
والقصر بحرية.. كانت فرصة الهروب متوفرة وبشكل آمن ومستمر!
وكان عبد القيوم جادّاً في إنجاز ما جاء من أجله وهما مطلبان.. الأول رؤية شيوم، والثاني
رسم مخطط للقصر ومعرفة مقصورة شيوم التي ينام بها ليلاً.
وقد حدث ما حقق له المطلب الأول وجعل الجنود يغيّرون نظرتهم إليه.!
فذات نهار كان يتجه إلى الحديقة لكنس الأوراق.. وهناك شاهد جندياً ضخماً يستند إلى جذع شجرة
وقد تلوث حذاؤه بالوحل.. وما إن رآه الجندي حتى ناداه:
- تعال هنا يا خادم.
واقترب عبد القيوم فأضاف الجندي:
- نظف حذائي من الوحل.
نسي عبد القيوم الحذر فقال باستعلاء:
- ليس من عملي أن أنظف أحذية الجنود.!
فقال الجندي بشراسة:
- أنت خادم.. وستفعل كل ما يطلب منك..
وجرى بينهما جدال. حتى قال الجندي في غضب:
- ستنظف الحذاء ولو لعقاً بلسانك.. فلا أحد هنا يعصي "أوسطاي" .
واجتمع عليهما بعض الجنود.. وأرادوا أن يتسلّوا بإشعال الخصام فقال أحدهم:
- لا تغضب "طبوتي" يا "أوسطاي" فربما أرغمك على تنظيف الحشوش بدلاً منه!
فقال أوسطاي:
- اخرس يا "سوجي" وإلا نظفت أنت الحذاء!
- بل اخرس أنت يا كلب..
- هل تريد أن تنضم إلى هذا الذليل ضدي!؟
- أنت تحسب أنك ترهب الجميع.. وأنت لا تخيف فأرة..!
وانتقل الخصام إلى "سوجي" و "أوسطاي" بدلاً من عبد القيوم وقال "أوسطاي" وهو يصر على أسنانه:
- بما أنك تدخلت فيما لا يعنيك فخذ هذه..
وسدّد إلى فك "سوجي" ثلاث لكمات عنيفة جعلته أخراهن يتطوح بعيداً. وضحك الجنود فأضاف أوسطاي:
- سينظف هذا الحذاء وأنتم تنظرون..
كان مغتاظاً.. فقد ساءه أن يتكابر عليه خادم ذليل.. لذا قبض على غارب عبد القيوم وحناه تجاه قدميه حتى أجلسه وقال:
- تباً لك.. لقد جعلتهم يسخرون مني.. فالعق الحذاء يا حقير.!
ودفع حذاءه إلى فم عبد القيوم.. حتى التصقت به شفتاه.. وتزايد ضحك الجنود وسروهم بنجاح الخصومة. ولم يعد عبد القيوم يملك
السيطرة على نفسه.. ولم يتذكر سوى أنه مسلم.. وأن هؤلاء مشركون..
وأنه يعتز بإسلامه. فقذف الحذاء بعيداً.. وهتف بأوسطاي:
- ستندم أيّها الثور الهائج.!
واستقام واقفاً، والتفت إلى خصمه وصفعه صفعة مدوية وقبل أن يستفيق صفعه أخرى حتى استدار.. ثم نزع خوذته وركلها بقدمه..
وجذبه من ناصية شعره إلى الأرض بقوة حتى انكب على وجهه في حوض الشجرة الملئ بالوحل و الطين.
وتصايح الجنود سروراً.. وهتف أحدهم:
- أنت قوي يا منظف المراحيض.. أنت الوحيد الذي هزم أوسطاي!
واستقام أوسطاي من سقطته صائحاً:
- أنا لم أهزم بعد يا أوغاد.!
وكان "سوجي" قد استفاق من أثر اللكمات العنيفة، وهتف:
- بل سترى كيف هزمت..
وضرب ظهر أوسطاي بغصن اقتطعه من الشجرة مما جعله يصرخ ألماً ويلتفت
إليه نازعاً الغصن من يده ومنهالاً على وجهه ورأسه بالضرب.
وجعل "سوجي" يتراجع تحت ألم الضرب، وهنا تدخل عبد القيوم وساعد "سوجي" بخنق أوسطاي بذراعه من الخلف وسحبه إلى حوض الشجرة
ثانية وحاول إسقاطه فعجز عنه لضخامته.. فما كان من أوسطاي إلا أن احتمله فوق يديه تمهيداً لقذفه على الأرض.
وازداد هتاف الجنود لما أصبح العراك أكثر إثارة ومتعة.. وكان بعضهم يطل من أعلى السور مستمتعين بالمشاهدة.. وقبل أن يقذف
أوسطاي بعبد القيوم إلى الأرض.. تعلق عبد القيوم بغصن الشجرة.. والتفت أوسطاي مدهوشاً من الحمل الذي فر من يديه..
فركله عبد القيوم برجله في جبينه.. فتراجع لتستقبله قبضات سوجي الغاضب الذي
سدّد إليه ضربة جعلته يتهاوى إلى الوحل ثانية، وهتف سوجي:
- أحسنت يا طبوتي.. لقد أدبته جيداً.. ولن يتكابر بعد اليوم!
وهنا جاء من خلفهم صوت آمر ينهاهم:
- ما هذا الضجيج.. من بدأ العراك أيها الأوغاد؟!
ونزل عبد القيوم ملتفتاً إلى صاحب الصوت.. فشاهد شاباً طويلاً متين العضلات.. وحشي الملامح.. يرتدي سروالاً فضفاضاً..
وحذاءين يصلان إلى منتصف ساقه.. وقميصاً موشى بالحرير.. وكان حليق الرأس يتدلى من أذنيه قرطان كبيران..
ومظهره يبعث على المهابة.. ويوحي بالسطوة والقسوة!!
وهتف أحد الجنود:
- كفّوا يا سفلة.. الأمير شيوم!
وجمد عبد القيوم لحظات و حدّق فيه بعينيه.. الأمير شيوم.. مرعب الآفاق.. وحاكم قانين السفاح.. الذي قطع الرجال المسافات..
واقتحموا المخاطر لاجتثاث عنقه.. والظّفر برأسه.. مظهره المترف القاسي.. يصادق على
كل ما يشاع عنه من أخبار.. ويؤكد أن رأسه ليس سهل المنال.!
ووجد عبد القيوم شفتيه تتحركان بلا صوت:
- (واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون)
وعندما توقف شيوم وضع يده على خصره صامتاً.. فانسحب الجنود كالفئران المذعورة.
ولم يبقَ سوى عبد القيوم و سوجي و أوسطاي.. وقال شيوم لسوجي:
- اذهب وأحضر بساطاً وأريكة.
فقال سوجي في وجل:
- و أين أضعها؟
- تحت هذه الشجرة.
- أمرك سيدي شيوم.
- أسرع.. واعلم أنك ستنال العقاب على هذه المشاجرة.
ثم التفت إلى أوسطاي معنفاً:
- لماذا تتقاتلون؟! لا شك أنك من ابتدأ العراك.. أنت تثير المشاكل والضجيج دائماً.!
فقال أوسطاي:
- إنه خادم متمرد يا سيدي.
وانبرى عبد القيوم يقول:
- لقد حاول إهانتي.. وقسري على لعق حذائه لأنني رفضت تنظيفه من الوحل!
فقال أوسطاي:
- كاذب.. إنه كاذب يا سيدي الأمير.
ودافع عبد القيوم عن نفسه:
- لقد اضطررت للدفاع عن نفسي.. والجنود الذي كانوا هنا يشهدون بذلك..
وهتف بعض الجنود الذين كانوا يطلّون من الأعلى:
- إن أوسطاي هو الكاذب يا سيدي.. لقد اعتدى عليه وعلى سوجي..
فصاح بهم شيوم:
- اخرسوا.. ألم تجدوا وقتاً تتشاجرون فيه غير هذا الوقت.. يا حمقى ألا ترون أن شرّاً يختطف الجنود فيختفون لا أثر..
وأنتم تتهارشون هنا كالكلاب!! هيا انصرفوا.
وانصرف الجنود.. فالتقط شيوم الغصن الذي اقتطعه سوجي وأهوى به على أوسطاي..
وجعل يضربه في كل مكان بقسوة أرعبت عبد القيوم وهو يقول:
- أنت لا تعجبني أيها الضخم.!
- وعندما أفرغ فيه غضبه.. ركله برجله حتى سقط وقال له:
- لا تحدث شغباً مرة أخرى.
فقام أوسطاي ذليلاً والتقط يد شيوم وقبلها وسارع بالفرار.
وعندما رأى عبد القيوم ذلك تيقن أن كل ما يروى عن شيوم لم يكن مبالغاً فيه.
وآثر الانسحاب قبل أن يعمل شيوم شيئاً.. وكاد ينسل صامتاً حتى ناداه شيوم:
- أنت.. تعال إلى هنا.
واقترب عبد القيوم متظاهراً بالمسكنة و الانصياع، فسأله شيوم:
- من أنت.. وما اسمك؟
أجاب عبد القيوم عابساً:
- خادمك "طبوتي" يا مولاي.
- كيف دخلت إلى هنا؟
- لقد جعلني رئيس الحرس خادماً.
- كيف يكون ذلك.. كان عليك أن تقابلني.. لقد أعلمته ألا يدخل أحداً إلا بعلمي!؟
- لعل ذلك هفوة منه إذْ لم يعلمك.!
- لا لم يقل لي شيئاً عنك.!
- لقد قدمت ليلاً و معي سيفي وجوادي وقد نذرت نفسي للدفاع عنكم يا مولاي و عن القصر.. فقد غاظتني تلك الشرذمة
التي تجرأت على مقامكم بحقارة.. وأدركت أنه لا بد من تعزيز حماية القصر.. وبما أنه لا عمل لي فقد عرضت نفسي
على الرئيس لاتو.. لكنه احتقرني لأني من قبيلة "اليوتا" التي يكرهها.. وجعلني خادماً
على تنظيف الحشوش والمراحيض وكنس الحديقة كما ترى يا مولاي!
وسكت عبد القيوم عندما لاحظ أن الأمير شيوم شغل عن حديثه بتأمل جسمه وتقاطيع وجهه.!
ثم أطرق إلى الأرض سارحاً.. ومضت فترة قصيرة قبل أن يرفع إلى عبد القيوم عينيه القاسيتين ويقول:
- هذه شهامة منك يا فتى.. أن تعرض نفسك للدفاع عنا.. وسآمر لاتو أن يجعلك في عداد الجند في الأيام القادمة.
- الشكر لك أيها الأمير..
- أما المشاجرة التي أحدثتها.. فسأعدُّك ضيفاً و أعفو عنك لكن ليس دائماً.. وإنما لأنك تطوعت لحماية القصر..
والآن انصرف ولا تعد لمثل الذي فعلت فأنا لا أحب المشاكل.
انصرف عبد القيوم وهو يقاوم إغراءً عنيفاً في أن يحطِّم رأس شيوم بمجرفته ويضح حداً لشروره! وساءته تلك الترقية المفاجئة
فهي ستحد من حركاته داخل القصر وتجعله ملازماً للجنود الذين ربما استجروه بالحديث فعرفوا من لكنة لسانه أو لهجته أيَّ عدو هو!!
ولكنه عزى نفسه بأنه لم يبق سوى يومين أو ثلاثة ويتصل برفاقه بطريقة ما وتبدأ المهاجمة وبعدها يتمشى على حوائط القصر
منصوراً أو يسحب معفراً مقتولاً.. شهيداً في سبيل الله.. وقد زاده طمأنينة وارتياحاً كسبه ولاء "سوجي" وصداقته..
فتعاونهما ضد البغيض المشرك أوسطاي جعلهما أكثر تفاهماً وتقارباً.. وكان سوجي من ابتدأ إنشاء هذه العلاقة
حين التقى عبد القيوم بعد ساعة من العراك في أحد الممرات وألقى إليه التحية مبتسماً وقال:
- ربما نصبح أصدقاء يا طبوتي.. تستطيع زيارتي عند مرفع الدلو الذي صعدت إليه عندما جئت. وستجدني هناك فأنا آمر ذلك المصعد..
وثق أنني لن أنسى أنك ساعدتني على ذلك القذر.. و إلا كنت محط سخرية الجنود.
وزاره عبد القيوم في موقعه وتحادثا.. وفهم عبد القيوم أنه يَنْقِمُ على شيوم لأنه جلده عقاباً على المشاجرة جلداً يفوق ذلك
الذي ناله أوسطاي. وكانت زيارة عبد القيوم تلك مفتاح نفع كبير له ومصدر رخاء لسوجي فيما بعد.!
وبما أنه رأى وجه شيوم وعرف فقد بقي عليه إنجاز مطلبه الثاني وهو تعيين مقصورته التي ينام فيها.. وتحديد أقصر الطرق إليها..
وكان يهم بإعداد رسومات توضح ذلك لولا أن حدث ما وفر عليه الجهد واختصر عليه الوقت..
فقد لاحظ في ضحى اليوم الذي تلا تلك المشاجرة أن ثمة مرحاضين قرب المطبخ لم يكنسهما منذ مجيئه. فقام بجر عربته وأوقفها
قرب المرحاضين.. ونظف أولهما متأذياً كعادته.. ثم شرع في الثاني فاتحاً بويبه السفلي..
فإذا بمحمود بن حبيب.. الرجل المفقود من رجال يوسف بن محمد.. قبالته!!
لبرهة ألجمته الدهشة وهو يتأمله.. كان ذابل العينين من طوال احتجابه عن الشمس عليلاً.. أصفر.. كالميت المبعوث.. كان عاجزاً عن الكلام..
لكن عبد القيوم فهم كل شيء فأشار إليه إشارة ثم أغلق البويب.. وأسعفه عقله.. فخطّط بسرعة.. وشرع في تنفيذ خطته..
فأفرغ العربة من محتوياتها القذرة في المرحاض الأول، ثم تلفت، فلما أمن أن لا أحداً يراقبه.. فتح البويب وجر محموداً
الذي لم يعترض ولم يسأل ونقله إلى العربة وأغلق عليه غطاءها ومضى به إلى حجرته وأغلق الباب عليهما وأحكم إغلاقه..
وابتدر ضيفه الصامت الذي كان يستجيب له فيما يفعل ويتطوح بين يديه كطفل.. فخلع ملابسه المنتنة وغسله.. ثم
ألبسه ملابس جديدة عنده.. وقدم له طعاماً خفيفاً وماءً.. فبدأت الحياة تدب فيه وشكر عبد القيوم متلعثماً بصوت
كالفحيح.. فسجَّاه عبد القيوم على الفراش وهمس في أذنه:
- لا تحدث صوتاً فأنت في حجر الضبعة! وإذا اكتشفوك قتلوك وقتلوني معك..
ولم يحدث محمود بن حبيب صوتاً بل نام ملء جفونه بعدما امتلأ بطنه الخاوي. وخرج عبد القيوم إلى أعماله مقرراً أن يزور
سوجي ليفيد منه في معرفة مقصورة شيوم فلم يجده هناك ووجد شخصاً آخر قال له:
- لا ينزل المصعد إلا في الليل.. لذا فإن سوجي قد خرج إلى أسواق المدينة لبعض شأنه مثل معظم الجنود.
لم يشأ عبد القيوم تفويت الفرصة فسأل على الفور:
- وهل يخرج معظم الجنود من القصر طوال النهار؟
- ليس كلهم.. النصف تقريباً.. وفي وقت الضحى و شيئاً من الظهيرة فقط.
- عندما أصبح مقاتلاً وجندياً مثلكم سأتمتع بالخروج والتجوال.. فلاتو يعاملني كخادم ولا يدعني أخرج إلا لألقي القاذورات خارجاً وأعود!
- أنت مقاتل جيد يا طبوتي لقد لقنت المتغطرس أوسطاي درساً لا مثيل له!!
شرح له عبد القيوم كيف أنه فعلاً كيف أنه فعلاً كان مرهوب الجانب في قريته التي جاء منها و أنه كان يقود الخصومات دائماً..
وبعد حديث قصير انصرف عنه وهو يضحك في قرارة نفسه لعلمه أنه لم يتشاجر مع أحد منذ افترق عن جابر وهو صبي..
لأن جابراً هو الذي كان يقوده إلى المشاجرات والمشاكسات زمن صباهما.
وعند الظهيرة عاد إلى حجرته فدخل وأغلق الباب جيداً.. وهناك كانت الحياة قد عادت تماماً إلى الميت الأصفر..
و أشرق وجهه بنصف العافية.. وتحدث عبد القيوم:
- لقد ظننتك تعاني سكرات الموت.. فقل لي بالله هل كنت تختبئ في هذا المرحاض طوال الأيام الماضية؟!!
أجاب محمود بن حبيب بصوت أسيف وهو يسند ظهره للجدار ويغطي رجليه الممدودتين بالفراش:
- وبلا طعام ولا شراب.. قبح الله يوسف.. إنه سبب ما حصل لي وللبقية.. إن تهوره أدى إلى هزيمتنا.. فقد أمرنا باقتحام البوابة لما رأى
الحرس عندها قليلاً.. وقد صاولناهم بالسيوف و نحن نتجه إلى مقصورة شيوم.. لكنهم تكاثروا علينا ولما رأيت يوسف
يتعثر ويسقط.. ورأيت السيوف تخترط الرجال.. لذت بالفرار إلى بطن القصر.. وكانت معجزة لا أكاد أصدق أن أحداً
لم يلحظني و أنا أندس في هذا الحش الذي وجدتني فيه.. ويبدو أن الحرس الذين في أعلى الأسوار قد هبوا
إلى البوابة.. ومن ذلك اليوم و أنا مختبئ، ومن رحمة الله أن الحش لا يستعمل.
قال عبد القيوم:
- لا تلق باللائمة كلها على يوسف.. إنه لم يجلدك بسوطه حتى تنضم إليه!
فأطرق محمود بخجل وقال:
- أنا نادم بشدة على انضمامي إلى هذا المجنون.
- إن انشقاقكم عنا شتت أمرنا و أضعف قوتنا.. لاسيما عندما استولى يوسف
على خارطة القصر وعرضني أنا و جابراً للهلاك.. لولا أن نجانا الله!
الخارطة.. ليتنا لم نحصل على الخارطة.. لقد خدعنا يوسف بالمكاسب ووعدنا بالأموال إذ نحن سكتنا وانضممنا إليه.. متى استولى على الخارطة..
وقد دبر خديعة الصيد و الوعل في الجبل.. ودحرجة الصخور.. واستدراجكما إلى الجبل لتنفيذ خطته، ثم أدخل يده في جيبه وهو يقول:
- هذه هي الخارطة.. تباً لها من شؤم!
وقذف إليه بالرقعة التي رسمها المنذر بن سعد ودهش عبد القيوم لوجودها معه فسأل:
- ألم تكن مع غالب بن عبد الرحمن؟
- كانت مع يوسف فانقطع حزامه فدفعها إلى غالب ودفعها غالب إليَّ لأتأملها ونسيت معي.. لكن أريد أن أعرف شيئاً كثيراً
كيف عرفت أنها مع غالب وكيف تتجول هنا بحرية.. وأين بقية الرجال؟!
حدثه عبد القيوم بكل ما حدث منذ البداية.. منتهياً باختطاف يوسف ورفيقه وأنهم آخر من بقي حيّاً..
وبتنكره في القصر لإيجاد فرصة للدخول. وعلق محمود قائلاً:
- ليتكم تركتم يوسف للقتل!
- لن ندعه يشارك في اقتحام القصر ثانية.. سنقتاده مكبلاً إلى الخليفة.
- ومتى ستهاجمون؟
- إن الجميع على أتم الاستعداد وهم بانتظار إشارة مني لوقت الهجوم ومكانه وقد كنت بصدد دراسة الطريق إلى مقصورة شيوم..
ولكن وجود الرقعة الآن قد كفاني مؤنة ذلك.. سأذهب بعد تأملها لأدرس الممرات التي حول غرفة شيوم حتى نتمكن من الوصول إليه
وإنجاز أمرنا ثم نتراجع بدون أن تكون أظهرنا في متناول سيوف الجنود.. هذا كله يحتاج إلى شيء من الدقة والحذر!
- منذ متى وأنت هنا؟
- منذ أيام.
- ألم تستدل على جناح شيوم الذي يقيم به إلى الآن؟!
- لم أشأ أن أثير حول نفسي العيون حتى يطمئنوا إليَّ.. فهم لم يألفوني بعد وأنا هنا لا أعدو أن أكون خادم حشوش
بالإضافة إلى أن رئيس الجنود يحتقرني لأني من قبيلة "اليوتا".
- "اليوتا"؟
- قبيلة اخترعتها ونسبت نفسي إليها ولم أدر أن هناك قبيلة بهذا الاسم يكرهها رئيس الجنود!
ورغم الخطر لم يمنع عبد القيوم ومحمود نفسيها من الابتسامة.. وجعل عبد القيوم يتأمل الرقعة وصمت، حتى قاطعه محمود متكدراً:
- وأنا؟
رفع عبد القيوم عينيه خاليتين من أية معنى وقال ببراءة:
- ماذا بك؟
- ماذا تنوي أن تصنع بي؟
- لا أنوي أن أصنع شيئاً!!
- وخيانتي وخروجي على جابر واتباع هذا المأفون؟!
- الأمر موكول إلى جابر فهو أمير الرحلة.. وهو تسامح وقد كف عن إيذاء يوسف ولابد أن يعاملك مثل معاملته.
- أشك في ذلك..!
- لماذا؟
- لأن يوسف ابن أخت الوالي وله مكانته.. أما أنا فلا شيء.
- أنت ما زلت أخاً لنا رغم ما فعلت.. وما دمت معك فلا تخش شيئاً.
- إذاً فأنت قد عفوت عني.؟
- عفوت عنك من قبلي.. وسأشفع لك عند جابر.. وما عدا ذلك مما في بغداد فلا أعدك بشيء.
ثم أضاف:
- قلت لك ما زلت أخاً.. وسأنصرك وأنقذك من هنا إن شاء الله بشرط.. بلهفة قال محمود:
- موافق عليه.
- أن تعاهدني بعدم مساعدة يوسف والخروج على جابر مرة ثانية.
أساعده!! لو أستطيع إذا لصفعته وبصقت في وجهه.!
عاود عبد القيوم تأمل رقعة المنذر بن سعد التي طال الصراع عليها.. وكان متأكدًا أنّ المزيدَ من التأخر في الاتصال بجابر ورفاقه
سيجعلهم يهاجمون غير عابئين بأيّ خطر.. وفكّر في الخطوة التي لا بدّ أنْ يبدأ بها.. ورأى أنّ ذلك هو أنْ يصلّي
صلاة الظّهر هو ومحمود ويدعو الله أنْ يدلَّه على طريق الخلاص والنّصر.
وعندما فرغا من صلاتهما.. دسَّ عبد القيّوم الرّقعةَ في ثيابه وخرج ومعه كيس ومجرفة وجعل يتظاهر بالتقاط الأوراق التي يسوقها
الهواء من الحديقة إلى الممرّات والرّدهات، فإذا غاب عن الجنود أسرع الخُطى، فإذا سمع صوتًا تباطأ مصطنعًا الإغراق في عملِه..
كان يسير على هدى الرّقعة التي معه، وأفضى به التّطواف إلى فناءٍ جانبيٍّ جميل.. لم يكن واسعًا، لكنّه كان عامرًا بالورود
والرّياحين ولم يشك أنّ هذا هو مكان شيّوم؛ فهو أجمل ما في القصر.. وبكلِّ جرأة صعد عبد القيّوم ذلك الدّرج ليجد أنّ السّطح
المعدّ بعنايةٍ فائقة لليالي الصّيف الحارّة كان واسعًا قصيرَ الحواجز، فيه مثل تلك الرّياحين التي في الفناء.. ولاحظ عبد القيّوم
أنّه كان معزولًا عن بقيّة سطوح القصر.. وقد جلب له ذلك شيئًا من الضّجر؛ فعند الاقتحام لا بدّ من النّزول إلى بطن القصر
للوصول إلى المقصورة إذ لا يمكن ذلك عن طريق السّطوح التي سيكون الدّخول عن طريقها وهذا سيعرّض
الرّفاق لمزيدٍ من الجنود؛ لأنّ حامية الأسوار والسّطوح أقلّ ممّن يقطنون في الغرف السّفلى!
ونزل عبد القيّوم وانصرف من الجناح مسرعًا متّجهًا إلى ممرٍّ حدّده ليكون طريقَ الانسحاب بعد الإجهاز
على شيّوم.. وقبل أنْ يغادر المكان فوجئ بأوسطاي يعترض طريقَه!
وتظاهر عبد القيّوم بالتقاط الأوراق غير مبالٍ به.. وكان أوسطاي يفترسُه بنظراتٍ غريبة عامرةٍ بالحقد، وقد قال له مستوقفًا:
- ماذا تفعل هنا؟
ردّ عبد القيّوم باحتقار:
- أنتَ ترى بعينيك ماذا أفعل!
- أنتَ تنظِّفُ الحشوش.. ولا شأنَ لكَ بمقصورة الأمير وما حولَها!
ابتهج عبد القيّوم وكاد ينسى شرور أوسطاي الضّخم لأنّه تأكّد فعلًا أنّ ما اجتالَه كان جناح شيّوم.. وتابع أوسطاي:
- هناك خدمٌ اختارَهم الأميرُ للعنايةِ بالمقصورة ونباتِها.. فلماذا جئتَ بمجرفتِك إلى هنا؟
- أنا لا أحبُّ أنْ أتلقّى الأسئلةَ منك..
- إذًا فأنتَ تختار الأعمالَ التي تروق لك، وتدعُ الأعمالَ التي..
- كفى! أنتَ تخطّطُ لمشاجرةٍ أخرى.. وحتمًا ستكون المهزومَ فيها!
- بما أنّك ذكرتَ هذا الموضوع فثقْ أنّني لنْ أنسى ما حدث!
- هذا أمرٌ يهمُّكَ وحدَك، وأنا لا أعبأُ بك!
- أنتَ وسوجي ستدفعان الثّمن.. وستكونان موضعَ انتقامي.
- لقد أخفتني يا هذا.. سأهرب..
ومضى عبد القيّوم بكيسه ومجرفتِه وهو يحسّ بلسع نظرات أوسطاي على ظهرِه.
وفي حجرتِه.. كان متحفّزًا وهو يقول لمحمود:
- اسمع يا محمود.. لقد حزمتُ أمري ولا داعي لمزيدٍ من التّأخّر وسأرسلُك إلى الرّفاق فقل لهم إنّني سأنتظرُهم بعد الفجر فوق الجزء المنخفض
في السُّور فهذا الوقت هو أنسبُ الأوقات لمداهمة القصر حيث يكون معظم الحرس في فُرُشِهم لأنّهم لا يستيقظون إلّا
مع شروق الشّمس.. والقليل منهم هم مَن يكون في الحراسة، كما أنّ هذا القليل موزّعٌ على السّطوح وعلى بقيّة
القصر وعند البوّابة.. والجزء المنخفض من السّور ليس عندَه سوى ثلاثةٍ من الحرس.. فإذا رأوا إشارتي فليتقدّموا
إلى السّور وليقذفوا المخالب الحديديّة وسلالم الحبال وسننطلق إلى مقصورة شيّوم.. فإذا هلك سيتبعثر جنودُه
ويتشتّتُ أمرُهم.. وقد أخذتُ الممرَّ الذي سنتراجع معه وظهورُنا في حمايةٍ منهم.
فقال محمود:
- وكيف ستخرجني من هنا؟
- كما نقلتُكَ في الصّباح.. سأخفيك داخل العربة، وأخرج بك إلى موضع النّفايات والكناسة.. وعليكَ أنْ تهدأ حتّى أنصرف.. ثمّ تنطلق
حيث التّلال العالية بعيدًا غرب المدينة، إنّهم يقيمون هناك في مكانٍ لا يكاد يُرى، فإذا لاحظتَ ألّا أحدَ قريب منك فصح بأعلى
صوتِك، ونادِ جابرًا وسيخرجُ إليكَ بعضُهم في الحال.
- أنا لم أبرأ مِن شكّي.. أخشى أنْ يقتُلَني جابر!
- لو كان سيقتُلُك لقتلَ رفيقَ يوسف.
- وأنت هل تظنُّ أنّ باستطاعتك مقاتلةَ ثلاثة جنودٍ وحدَك؟
سكت عبد القيّوم في حيرة، فأضافَ محمود:
- لنْ تستطيعَ أبدًا.. فقل لي هل يسمحونَ لكَ بالخروج لرمي النّفاياتِ ليلًا؟
- لا..
- وقبيل الغروب؟
- ما دام الوقتُ نهارًا فلا بأس.. لكن البوّابةُ تُغلقُ مع الغروب.. لماذا تسأل؟
- سنخرج الآن كما تقول.. وإذا جاء قبيل الغروب سأكون قد بلغتُ الرّجال وأعلمتُهم بموعدك ورجعتُ إلى حيث
موضع الكناسة وأجلس حتّى تأتيني لأدخلَ القصرَ ثانيةً وأحارب معك.
- إنّه رأيٌ جيّد.. لكنّك مُتعَبٌ وعليل!
- لا.. لقد عادت إليَّ عافيتي.
- إذا كان لا بدَّ من ذلك فليكن بعض الرّجال ولتَبقَ أنتَ حتّى تستريح.
- بل أنا مَن سيساعدك.. وسترى كيفَ ذلك!
- ندمُكَ على ما بدرَ منك لا يعني أنْ تقذفَ بنفسك إلى الهلاك!
- أريدُ أنْ أقاتل حتّى أعذرَ أمام الله وأمامَ النّاس.
أدنى عبد القيّوم العربةَ من بابِ حجرتِه.. ولمّا اطمأنَّ إلى عدمِ وجود أحد همسَ لمحمود الذي قفزَ إلى داخل العربة وأغلقَ عبد القيّوم الغطاء
عليه ثمَّ أغلقَ بابَ حجرتِهِ ومضى وهو يدعو الله ألّا يكتشفَهُ أحد.. واقتربَ مِنَ البوّابة وكان هناك بعضُ الجنود الذين
لم يعيروهُ التفاتًا وعندما جاوزَها حمدَ الله مِن كلِّ قلبِه.. وسار حتّى موضع الكناسة ثمّ فتحَ الغطاءَ قائلًا:
- اخرُج؛ لقد وصلنا.
وخرجَ محمود.. وما أنْ صادفَهُ الهواءُ حتّى هتف:
- ربّاه! ما هذه الرّائحة؟
فقال عبد القيّوم:
- أنتَ في كناسة ولستَ في حديقة!
رجع عبد القيّوم إلى حجرتِه ونام استعدادًا للعمل.. وكان مرهقًا فطالَ نومُه وعندما استيقظَ وصلّى، خرج ليفاجأ أنّه نامَ معظمَ العصر..
فحمل مجرفتَه وسارعَ يجرُّ العربة حتّى يتمكّن مِن إحضارِ محمود قبلَ إغلاقِ البوّابة..
وعندما مرَّ مِن عند الحرّاس قال لهُ أحدُهم:
- هذه هيَ المرّةُ الثّانية التي تخرجُ فيها لرمي القاذورات يا طبوتي!
وَجَفَ قلبُ عبد القيّوم وقبل أنْ يقول شيئًا.. ردَّ صوتٌ مِن خلفِه:
- لقد أصبحَ طبوتي صديقي فلا تعترضوه.. وإلّا منعتُكم مِن ركوبِ الدّلو!
كان ذلك سوجي، وكان يضحك وهو يمازحُ زملاءَه، وقد أضاف:
- ما دامت أمعاؤكم تنتجُ بهذا الشّكل فسيخرجُ طبوتي المسكين إلى الكناسة خمسَ مرّاتٍ في اليوم!
وضحكَ الجميع، فقال الحارس:
- عُد بسرعةٍ يا طبوتي.. وإذا تأخّرت فستصعدُ في دلو سوجي وتظلُّ العربةُ خارجًا حتّى أفتحَ البوّابةَ في الصّباح!
وأسرعَ عبد القيّوم؛ فقد كان هذا هو ما يخشاه.. وعندما وصل.. وجدَ محمودًا بانتظارِهِ قلِقًا وقد صاحَ به:
- أينَ كنت؟!
ردَّ عبد القيّوم لاهثًا:
اصعَدْ.. لا وقتَ للأسئلة!
وأدخل محمود سيفين ونشابين وأسهُمًا ثمّ قفزَ إلى جوف العربة، ومضى عبد القيّوم. وخاطبَهُ محمود من داخل العربة:
- لقد ذهبتُ راكضًا، وعدتُ راكضًا.. وقد وجدتُ تسامحًا من جابر وبقيّةِ الرّجال.
فقال عبد القيّوم:
- إنَّ ما تفعلُه الآن تضحيةٌ وشجاعةٌ يا محمود.. أرجو أنْ تُثابَ عليها..
- لقد هنّأني بعضُهم بسلامتي، وبشّرتُهم بسلامتِك.. وحاولَ جابر أنْ يمنعني ويُرسلَ أحدَهم عوضًا عنّي لكنّي رفضت.
- كيفَ وجدتَ الرّجال؟
- كانوا في مللٍ عظيم.. وشوقٍ إلى عملِ أيِّ شيء!
- غدًا صباحًا سيجدون الكثير ممّا يمكن عملُه..!

تتبع




 
 توقيع :
قال تعالى {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }النجم28

دائما النية الطيبة لاتجلب معها إلا المفاجآت الجميلة
لاتغيروا أساليبكم فقط غيروا نياتكم فعلى نياتكم ترزقون



رد مع اقتباس