عرض مشاركة واحدة
قديم 02-05-2024   #7


الصورة الرمزية عبد العزيز
عبد العزيز غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 4049
 تاريخ التسجيل :  Oct 2022
 أخر زيارة : منذ 3 يوم (07:26 PM)
 المشاركات : 16,445 [ + ]
 التقييم :  11208
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Cadetblue
شكراً: 8
تم شكره 207 مرة في 125 مشاركة

اوسمتي

افتراضي السر (الفصل الأول 2) :




تبسَّم وهو يتذكَّر ذلك اليوم الربيعي ، عندما كانا يتحدثان في باحة القصر حيناً ، وحيناً يصعد الشجرة الضخمة فتطلب منه النزول كي لا يسقط ، ولكي لا يوبخه والدها إن رآه ، وحيناً يعدوان بجانب الورود ، وحيناً يرميان الأحجار في النبع ، أو يرميان الطيور التي ترتاد الشجرة .
ثم قهقه عندما تذكر إصرار الصبية على أن يتناولا الطعام في حقل الورود بسبب أنه قطف وردة وأعطاها إياها ولم تُفِدْ محاولات والديها بثنيها فانصاعا لرغبتها وتركاهما يتناولان الطعام في الحقل .
أفاق من شروده على وقع أقدام تصعد الدرج فنهض وفتح لينزل فرأى درلفر أمامه فقالتْ له : لقد أعددتُ الشاي والكعك فهلم معي لنتناوله .
سألها قائلاً : كيف أنتِ الآن ؟ هل زال العارض الذي ألم بكِ ؟ ماذا قالتْ لكِ ميريرا وأوصتكِ به ؟
ردتْ عليه قائلة : لقد طمأنتني إلى أن صحتي جيدةٌ وأن ما أصابني إرهاقٌ بسبب كثرة العمل وعلي الراحة لمدة أسبوعٍ كامل .
تنفس الصعداء وقال : عليكِ الالتزام بما أوصتكِ به ميريرا .
قالتْ : نعم ، لك ذلك فاطمئن .
ثم ابتسمتْ وقالتْ في سرها : (إن كيدَ النساءِ عظيمٌ وما هذه إلا حيلةٌ يا زوجي العزيز لأعرف سرَّ شُرودك) .
أوصد الباب خلفه ونزل معها واتجها إلى الباحة أمام المنزل وبدآ تناول الشاي والكعك وفجأة أشار إلى جهة الشمال وقال : هناك يا درلفر كنتُ ألعب مع أترابي و...
وقبل أن يكمل حديثه قاطعته قائلة : من هم أترابك ؟ وأين مكان لعبك ؟
وقع في فخها فقال : كنتُ ألعب مع بارتل ، ورافيل ، وماردل ، ولكن أجمل ساعات لعبي ولهوي هي عند شجرة الزان في الجهة الشمالية بجانب القصر الأفيح فهناك ...
ثم صمت فجأة وشعر أنه تمادى في حديثه فشجعته على الحديث قائلة : إن حديثكَ هذا شيِّقٌ فماذا يوجد عند شجرة الزان ؟ ومع من كنتَ تلعب ؟ وبمن كنت تلتقي ؟ هيا أكمل حديثك فكلي آذانٌ صاغيةٌ لهذا الحديث الممتع .
اضطر للكذب كي لا يفضح سره : هناك أرى النساء يستعذبن الماء لبيوتهن ، وأرى الرجال في حقولهم يكدون ويكدحون .
قالتْ درلفر في نفسها : لقد أمسكتُ بأول الخيط وسأعرف سرَّكَ قريباً وسأريحُ هذا القلب الذي لم يُبارحه القلق لحظة .
تغير برلنور مذْ ذلك اليوم فبدأ يُكْثِرُ من الجلوس في الحقل دون عملٍ ، وينكتُ الأرض بعودٍ بيده ، وأحياناً يُطيلُ النظر إلى أشجار الحقل والطيور التي ترتادها ، وأحياناً ينظرُ إلى جهة الشرق ثم يُكفكفُ دموعاً أبتْ إلا الانهمار .
كانت درلفر تراقبه ويعتصرها الألم للتغير الذي طرأ عليه وفكرتْ وأطالت التفكير ولم تعرف السبب لهذا التغير المفاجئ .
عاودت التفكير وأخيراً اهتدتْ إلى حلٍّ فالتغير المفاجئ ستجده حتماً في القصاصات في درج المنضدة في العلية ، ثم ابتسمتْ بعد هذا الحل الذي ستعرف به سر زوجها ، ولكنها تذكرتْ فجأة أنه يكثر من الذهاب لجهة الشمال وربما أنه يذهب إلى شجرة الزان عند القصر الأفيح التي حدثها عنها فلماذا لا تذهب إلى هناك وتُباغته كي لا يجد مناصاً من الاعتراف لها بما يُخفيه عنها .
ابتسمتْ بعدما اهتدتْ لهذا الحل وأخلدتْ للمبيت وما أطول ليل المنتظر .
لم تنمْ إلا لماماً فلما ظهرتْ تباشير الفجر الأولى هبتْ من رقادها واتجهتْ إلى المطبخ وبدأت إعداد الفطور ثم ذهبتْ إلى الغرفة وأيقظتْ زوجها وبعد تناولهما الفطور ذهبتْ إلى الزريبة وأخذتْ ما وجدته من بيض وحلبت الماعز ثم قفلتْ إلى المنزل وعند الباب وافقها وهو يستعد للخروج فأنبها وأمرها ألا تبرحَ فراشها إلا بعد أسبوعٍ كاملٍ كما أوصتها ميريرا فاعتذرتْ ووعدته أن تفعل ذلك وبعد خروجه تابعته من بعيد فوجدته يتجه إلى الحقل ، ثم يأخذ يمنةً عنه ، ثم يمشي مئات الأمتار حتى يَصِلَ إلى رابيةٍ مرتفعةٍ ، ثم يأخذ شرقاً عنها ويمشي قرابة الثلاثمائة مترٍ حيث يوجد هناك شجرةُ زانٍ ضخمةٍ عند قصرٍ مهجورٍ فجلس عندها قليلاً وبدأ يَتنهَّدُ ويَتمرَّغُ على الرَّملِ وكأن سم الأفاعي يجري في جسده بدل الدم .
كانتْ درلفر خلف إحدى الأشجار ترقب ما يحدث فلما كان بعد ساعة نهض ومضى فأتتْ مسرعة لتستطلع الأمر وتستجلي ما استبهم عليها فلم تر غير شجرة الزان وبقايا قصرٍ مهجورٍ ولما جلستْ عندها رأتْ منحوتاً عليها (قد صبا إليكِ قلبي مذْ رأيتكِ أول مرة ولن يبرحَ هواكِ قلبي ما دام بجسدي عرقٌ ينبضُ ، ونفسٌ يتردَّدُ ، فإن ضاقتْ بكِ السُّبُلُ فلكِ بقلبي قصرٌ أفيحُ أنتِ ملكته وسيدته ، وإن أرمضكِ الشجى فألقيه على عاتقي ، وعيشي هانئةً سعيدةً ، فلأجلكِ تلين قناتي ، وتَسْهُل خليقتي ، وتَضْعُف شكيمتي ، وتَخْضَع عزتي ، وينحني كبريائي) .
تبسمتْ ثم قالتْ : ويح الرجال هكذا هم يبذلون قلوبهم ومُهَجَ أفئدتهم لأي شيء يَعزُّ عليهم نيله وإذا نالوه قلبوا له ظهر المجن .
ثم نظرتْ إلى الكتابة المنحوتة مرة أخرى وقالتْ : لو قُيِّضَ لهذا الرجل لقاء من كتب فيها هذه لسئمها واجتواها ولكن للحرمان فضل في إيقاظِ الحنين ، وإضرامِ جمره ، وإيقادِ نار أتونه .
ثم اتكأتْ على جذع شجرة الزان ورفعتْ رأسها إلى السماء وقالتْ : لقد امتدتْ جذوري عبر شطِّ هذا النهر ، وتمايلتْ أوراقي مع هبات نسيمه ، وكم كنتُ بلهاء عندما اعتقدتُ أن هذا النهر هو المناسب ، ولكن حظي السيئ رماني على شطه فوارحمتاه لي على ما دهاني .
لم تبرحْ مكانها حتى مالت الشمسُ للمغيب وهي تُفكِّر بهذه الكتابة وتتساءل هل هي من كتابة زوجها أم لا ؟ وإن كان هو الذي كتبها فمتى حدث هذا ؟ وهل ما زال يهوى من كتب بها هذه أم لا ؟
لم تَصْحُ من أفكارها إلا على طيفٍ يلوح من البعد فأحدَّت النظر إليه فلم تعرفه حتى إذا اقترب تبيَّنته فإذا به زوجها وعندما وصل إليها بادرها قائلاً : أين أنتِ ؟ لقد بحثتُ عنكِ في كلِّ مكانٍ ولم أجدكِ ؟ ثم لماذا خرجتِ ؟ ألم أطلب منكِ ألا تبرحي الفراش ؟ لماذا خالفتِ ما أُمرتِ به ؟ وأيضاً ما الذي أتى بكِ إلى هذا المكانِ المنعزلِ المهجور ؟
قالتْ : شعرتُ باختناقٍ وضيقٍ في الصَّدر فخرجتُ لأستنشق الهواءَ النقيَّ وكنتُ أجول بين الحقول ولم أشعرْ بنفسي إلا وأنا في هذا المكان الجميل الهادئ .
سرح بفكره بعيداً وأشاح بنظره إلى شجرة الزان وقال في سره : كنتُ ألتقي بالصبية هنا ، وألعب معها ونلهو ونضحك على الرجال الذين يعملون في حقولهم ، والذين يرعون أغنامهم ، ونتندَّر بالنساء اللاتي يحملن القرب المليئة بالماء ، وتلك العجوز الغريبة الشكل ، الشمطاء الشعر ، المحدودبة الظهر ، المتجعدة الوجه ، التي تأتي على حمار كل أصيل ما شأنها يا ترى ؟ وما شأن حضورها هنا ؟
نعم ، نعم ، إنها عجوزٌ تَجْلبُ الزِّينة للنساء من الكحل ، والأسورة ، والقلائد الفضية ، والأقراط الذهبية ، ولكن يندر من يشتري منها .
ثم قال بصوتٍ مسموعٍ : كم أحنُّ لتلك الأيام التي نلهو بها ، بل كم أَحِنُّ لمرأى تلك العجوز التي تأتي إلى هنا لبيع ما معها وتهبنا في أحايين قليلة بعض الحلوى .
ثم نظر إلى درلفر وابتسم ثم قال : هذا تأويلُ الحلم الذي تكرَّرَ فلا داعي للتفكير وإفساح مجال للوساوس .
ثم أمسك بيدها وقفلا عائدين إلى المنزل وعندما وصلا ودخلا اتجهتْ درلفر للمخدع واتجه برلنور إلى العلية في الطابق العلوي وأشعل المصباح واتجه إلى منضدةٍ عتيقةٍ وفتح أحد أدراجها وأخرج بعض قصاصات الورق كعادته كل ليلة ليكتب على ضوء المصباح بعضاً مما يختلج بقلبه .
أمسك بالقلم وكتب : كم كنتُ ...
ثم سرح بفكره بعيداً عن الكتابة وبدأ يُحدِّثُ نفسه بصوتٍ مسموعٍ لماذا يحدث لي هذا ؟ فمنْذُ عدة ليالٍ وهذا الأمر يوافيني كلَّ ليلةٍ فلم يا ترى ؟
ثم أخرج عدة قصاصاتٍ عتيقةٍ وبدأ يقرؤها فإحداها مكتوبٌ فيها : عندما صبوتُ إليكِ في عهد الصِّبا جعلتُ الوصل سفتجة إلى الشباب وها أنذا أوشكتُ على طيِّه فهل أَمُدُّ في أَمَدِ السُّفْتَجَة إلى الشيخوخة أم يحولُ الأجل دون تقاضيها .
وفي أخرى مكتوبٌ : مذْ صبوتُ إليكِ في عهد الصِّبا لم أَحُلْ عن هواكِ قط وها هي الأيامُ تمضي ، والأعوامُ تنقضي ، وأنا أنتظر ولن أملَّ ، ولن أَكِلَّ من الانتظار حتى تملَّ الشمسُ من الشروق ، والقمرُ من البزوغ ، والبدرُ من الاكتمال ، والنجومُ من اللمعان ، والمطرُ من الهطلان ،والدمعُ من الوكفان ، والقلوبُ من الخفقان ، والفراقُ من تبديدِ الشَّمْلِ ، والحبُّ من غزو القلوب ، والهجرُ من حرق الأفئدة .
وتوقف عند التي تليهما وقرأها عدة مراتٍ ولم يرفعْ بصره عنها وهي : ظلموكِ والرب حين شبهوكِ بالوردةِ ، والنَّرجسِ ، والشادن ، والجؤذر ، والشمس ، والقمر ، والليلِ الأسحمِ ، والنهارِ الوضَّاءِ ، وخاتم سليمان ، وخوط البان ، وحُقَّ العاج ، والبلَّور ، وغيرها من الأوصاف ، وكان الأجدر بهم لو شبهوها بكِ ، فمثلكِ يضرب بها المثلُ ، ولا تشبَّه بالأشياء ، بل تشبَّه الأشياء بها ، وإنه لينتابني العي، وتكتنفني الحيرة حينما أريد أن أبعث لكِ سلامي وحنيني فهل أبعثهما مع القمر وأنتِ نوره ؟ أم مع الورد وأنتِ شذاه ؟ أم مع الهواء وأنتِ نسيمه ؟ أم مع الصباح وأنتِ نداه وضياه ؟ أم مع ماذا ؟ فإني ما ذهبتُ إلى شيءٍ إلا ووجدتُ فيكِ أجمل صفاته وأرقها وليس فيه من صفاتك شيء فهن إما جمادات ، أو عجماوات .
وضعها على المنضدة وأسند رأسه إلى الخلف وأغمض عينيه ليستعيد ماضٍ عفا عليه الزمن ودفنته سافيات تقادم العهد .

يتبع ...




 
 توقيع :


جزيل الشكر ووافر الامتنان لأخي العزيز مصمم الوهج المتفرد أحمد الحلو على التصميم البديع .


رد مع اقتباس