عرض مشاركة واحدة
قديم 05-30-2015   #7


خال العرب غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 895
 تاريخ التسجيل :  Jul 2012
 أخر زيارة : 06-13-2019 (12:34 AM)
 المشاركات : 2,109 [ + ]
 التقييم :  19088
لوني المفضل : Cadetblue
شكراً: 0
تم شكره 60 مرة في 47 مشاركة
افتراضي



هنا أرض الخلافة! حسين المعاضيدي


الحلقة الرابعة

لأكثر من ساعتين وأنا أجلس خلف مقود سيارة الشرطة التابعة للدولة الإسلامية في ذلك التقاطع، الذي تنير بعض من جوانبه بقايا المحال التجارية، التي ما تزال مُشرعة الأبواب بوجه زبائنها، وأبرزها تلك المطاعم المتجاورة، والتي تستعين بمولدات كهربائية للحصول على إنارتها، إذ لا يزال التيار الكهربائي منقطعاً عن المنطقة بأسرها..!
لم أكن اشأ الخروج من السيارة التي تمنيت لو إنها كانت قبراً لي يضمني إلى آخر يوم تقوم فيه الساعة، فما أجمل أن يكون قبرك في سيارة تحمل تلك الراية التي لطالما حلمنا بأن تعلو فوق هاماتنا، وترفرف خفاقة على كل رابية، ويزين بها كل ملبس، ويزدان بها كل مكتب، ويزهو بها كل دار، راية الحق، راية لا إله إلا الله، التي ومن فرط حبي لها قبّلتُها وهي على سيارة الدولة الإسلامية مرات ومرات!
طال إنتظاري، ولم يصلني أحد من المجاهدين ليصطحبني إلى مكان آخر، مع إنني تمنيت أن لا أغادر هذا المكان ولا أبرحه، فأي عزّ ذاك أن تكون رجل أمن (حقيقي)، تسهر على حماية أمن رعايا الخلافة، وتحفظ مصالحهم، وتكون خادماً لأصغر طفل رضيع فيهم، وترعى أمورهم وشؤونهم، إنها تالله لغاية كل مجاهد، وهي لعمري الهدف لكل من حمل السلاح مجاهداً في سبيل الله، إقامة شرع الله، وحفظ مصالح العباد..!
علمت أن التأخير إنما كان بدافع شدة المعارك التي يخوضها رجال الخلافة على أكثر من جبهة وقاطع، وفي الحرب، وحينما يحمى الوطيس، فلا لوم على من نسي، أو إنشغل، أو تأخر، ولا أشد من وطيسها اليوم، ورجال الدولة الإسلامية يخوضون حرباً هي الأعنف على مرّ العصور، فحتى الحربين العالميتين الأولى والثانية التي كانت الأشد ضراوة على مرّ التاريخ كان فيها معسكرين شبه متساويين، وكان لكل منهما، سواء معسكر الحلفاء، أو معسكر المحور، ملايين الجنود، وترسانة ضخمة من الأسلحة بمختلف أنواعها وأحجامها، وآليات مدرعة وطائرات وغواصات وبارجات، ولكل طرف ماكينته الإعلامية الدعائية الضخمة، وموارده الإقتصادية التي لا حدود لها، ولم يكن هناك توقع لهوية المنتصر فيها حتى اللحظات الأخيرة، في حين أن دولة الخلافة الإسلامية اليوم يخوض العالم كله ضدها حرباً ظالمة شعواء شرسة، لا عدل فيها ولا إنصاف، خندق باطل يملك العالم بأسره، بإعلامه، وبأمواله، وبإقتصادياته، وببتروله، وبأسلحته (المحللة) منها و(المحرمة)، وبآلاف القنوات والإذاعات والصحف والمجلات والمؤسسات الإعلامية التي لو وجهت نحو اعتى إمبراطورية على وجه الكون لأنهارت في يومها وليلتها، بلا إطلاق رصاصة واحدة نحوها، خندق تمترس فيه أقوى جيوش الكون وحشية ضد دولة وليدة، دولة لو لم يكن الله معها لما بقيت يوماً واحداً قبالة هذا الكم الهائل من الحشد الشيعي الرافضي، والكردي القومي، والسُني المرتد، والليبرالي الملحد، والشيوعي الحاقد، والصليبي الغازي، واليهودي المحتل، والعربي الغاشم، وغيرهم من حثالات الأرض ولملومها.. وأمام كل هذا، كيف لا اُعطيهم العذر إن نسوا الحضور إليّ، أو خانتهم ظروف المعارك..!
لكن ما قفز إلى ذهني شيء واحد، كيف يتركوا سيارة النجدة التابعة للشرطة الإسلامية ويغادروا هكذا، دون أن يبقى فيها ولو عنصراً واحداً ليحميها، بل ويتم ترك مفتاحها فيها، أهو الأهمال، أم إنه منطق (عدلت فآمنت فنمت)، مع إنهم لا يعرفون للنوم طعماً!؟
كان هذا التساؤل هو نقطة التحول في رحلتي تلك، والتي لم اُخطط أين ستكون نهايتها بدقة، بل تركت الحبل على غاربه، وتركت الله يُقّدر لي ما يشاء في رحلة أردت من خلالها إستكشافاً لداخل دولة اشغلت العالم بأسره، رعباً وخوفاً لمن حاربها وعاداها، وحباً وطمعاً لمن رغب في الهجرة إليها والعيش في كنفها!
لا أعلم لماذا كل ما خزنته من أفكار، وكل ما خططت له وأنا ادخل اراضي الدولة الإسلامية قد تغير، ليس في ليلة وضحاها، بل في دقيقة وثوانيها، فهذا المشهد الذي مرّ بي، من طريقة إستقبال رجال الدولة الإسلامية لي، ثم تركهم لي لوحدي في سيارة شرطة النجدة، وثقتهم بي لهذه الدرجة، حتى وأن عرفوا إنني صاحب القلم الذي لم يخذلهم يوماً، ولم يتقاعس عن نصرتهم أينما كان على سطح هذه البسيطة، بفضل الله تعالى، فالمتصيدين في الماء العكر كُثر، ومن أرتموا في أحضان مخابرات الشرق والغرب اغلبهم من الصحفيين، أبناء مهنتي، وأنا ابن هذه المهنة التي أعرف كل طرقها الملتوية، وأساليبها المنحرفة، ودسائسها الخبيثة، وكواليسها المهلكة، حتى بات البحث عن قلم حر شريف ينطق بالحق، كالباحث عن إبرة في كومة قش، أو كمن يطلب من حفاة جمع دقيق فوق شوك يوم ريح تم نثره، بعدما بات الإعلام، هذا الذي ما وجد إلا لخدمة الإنسانية، هو عصب الحرب اللا إخلاقية، ووسيلتها القذرة، وسلاحها الخسيس الفتاك لمحاربة كل قيم الإنسانية، حتى إنني، وفي كثير من الأحيان، أشعر بالخجل، وبالعار، وبالدونية، لإن هناك من يطلق عليّ لقب صحافي وإعلامي، لإن الاسم يشعرني بالإرتزاق عبر النخاسة، أياً كانت تقواي، وبالعهر، مهما امتلكت من الشرف، وبالخسة، بغض النظر عن صدق إيماني بقضيتي، لكني، وأعترف على الملأ إنني اليوم استخدم سلاحي (القلم) كسوط أجلد به نفسي أولاً، لتقصيري الكبير في دعم كل مجاهد على سطح هذه الأرض، رفع السلاح رداً ودفعاً للظلم، ودفاعاً عن النفس وعن الأرض والعرض، وقبل هذا وذاك دفاعاً عن الدين، وبعد جلد النفس أقوم بجلد زملائي ورفاق مهنتي، ممن تخاذلوا عن نصرة الحق، وانحازوا إلى الباطل من أجل حفنة بخيسة من الدولارات والدراهم والدنانير والتومانات الملطخة بدماء كل من سُفك دمه ظلماً وعدواناً على ظهر هذه الأرض التي نعيش عليها، وأبرزها أرض الرافدين والشام التي (أبدع) زملاء مهنتي من الصحافيين والإعلاميين في دعم خندق الإجرام فيها، خندق (إيران وأميركا)، وبكل ما أتوا من بلاغة شيطانية، وحبر رخيص، وأقلام مأجورة، وكاميرات تبصر بعين أعور دجال، فتجعل من أميركا، وحليفتها القديمة الجديدة إيران، معسكراً للخير والطهر والعفاف والنقاء، وتشيطن خندق الحق وتهجوه وتطعنه وتصفه بالنفاق والرياء والبغاء، فما أخس مهنتي، بعدما اصبحت مرتعاً للمتعطشين للسحت الحرام، ووملاذاً للناعقين في كل محفل بلا عقل ولا فؤاد، وبؤرة للمنبطحين المتعطشين للذل والخنوع وذل السؤال، ووكراً للكاذبين بلا رقيب أو سلطان، والحق أقول إنني يوماً وحينما مُنعت من قبل حكومة العراق من الكتابة والتطرق إلى أمور السياسة وشؤون الناس قبل سنوات الاحتلال، إضطررت لدخول عالم الصحافة الفنية والرياضية، فوجدت في عالم الفن ما يشيب له الطفل الرضيع من العهر، والفجور، والوضاعة، والنذالة، وقلة الحياء، وإنعدام الأخلاق، حتى كانوا كرافضة اليوم، لا يعرف أحدهم أمه من أباه، لكني وحينما أقارن عالم الفن هذا بعالم الإعلام، أجده لا يمثل شيئاً بالمطلق أمام قذارة الصحافة وسخف الإعلام الذي عملت ولا أزال أعمل في وسطه اليوم، وأهل الفن على رخص كثير منهم، إلا إنهم كحجر الماس أمام أكبر صحفي وإعلامي من أبناء مهنتي ممن نذر نفسه للشيطان!
اشغلني موضوع الأهمال، أو الثقة الزائدة من قبل المجاهدين بالشارع وما يحويه، حينما تركوا دورية النجدة هكذا بلا حارس أمن، فهناك شيء لا أفهمه، ويجب عليّ الوقوف عليه.. آنذاك كان طيران الحلف (الغربي – العربي - الإيراني) يحوم في سماء الموصل، حتى إنني شعرت إنني في حضرة مطار المقبور (أتاتورك)، من غزارة الطائرات التي لا أراها في سماء مدلهمة غادرها البدر، والتي يهرب كثير منها بعدما تتعرض لنيران المضادات الأرضية، التي لا أعرف من أين تنطلق بإتجاه السماء، فسرعان ما تتلاشى وتهرب تلك الغربان، كما تفر الشياطين بحضور الملائكة، الملائكة التي والله أراها تقاتل مع ثلة قليلة العدد ليس لها أن تنتصر، لولا وجود جيش رباني ملائكي يقاتل إلى جانبها، وإلا كيف لمائة مقاتل ونيف أن يحرروا مدينة عظيمة المساحة، كان الوجود الشيعي والكردي فيها، عسكرياً ومليشياوياً، على أشده، كالموصل الحدباء، لولا عناية الرحمن وقتال ملائكته إلى جانب جنده.. وكيف لثلة صابرة، مؤمنة، لا تتعدى عشرات المجاهدين، أن تسطر أروع الملاحم في تأريخ الحروب في تكريت أمام عشرات الألوف، فتقهر جيش الحشد الشيعي (جحش) ومن خلفه جيوش من المرتزقة، فلا يكون دخولهم إلى جزء من تكريت إلا بمعونة طيران (شيطانهم الأكبر)، الذي بات اليوم (ربهم الأعرى) من دون الله سبحانه وتعالى..!
وبين التردد في البقاء في دورية الشرطة وبين الذهاب لمكان آخر، في ليل كاد ان ينقضي نصفه الأول، قررت التوجه إلى المطعم الذي كان على مقربة من المكان، خصوصاً بعدما تغيرت بوصلة توجهي بعد ذاك الموقف، الذي رسم الكثير من الإستفهامات في ذهني حول شدة (الأهمال)، أو (الأمان) الذي إختلط عليّ أمر حابلهما بنابلهما في تلك اللحظة، ورأيت أنه لابد أن أبدأ رحلتي من الوقوف على أول (عثرة) أتعثر بها، أو (حسنة) أتفاخر بها في أرض الخلافة، والمتمثلة بترك سيارة في وسط الطريق، ومفاتيحها فيها، وصحفي بالكاد يعرفوه من كتابات مناصرة هنا وهناك، فالوقوف على دلالات هذا الموقف قد يرسم لي ملامح هذه الدولة ومدى جديتها في البقاء، ومدى حرصها على أموال المسلمين، خصوصاً أن مؤسسات الدولة الإسلامية كثيراً ما تردد هذه العبارة (أموال المسلمين) ويقيناً أن السيارة هذه، المرمية على قارعة الطريق، هي من أموال المسلمين، فكيف يستقيم حال المحافظة على (أموال المسلمين) وهي بلا راعٍ يرعاها، ولا عناصر أمن يحافظون على أمن ومصالح العباد فيها، حتى وإن كانت المعركة هي السبب في هذا الأهمال، إن كان إهمالاً بالفعل، فجبهة الداخل ليس بأقل أهمية من جبهات حدود دولة الخلافة الإسلامية، فالمحافظة على مصالح الناس ورعاية أمورهم، حتى بإحتدام القتال على الجبهات، هو من يزرع الثقة بين رعايا الخلافة وبين دولتهم، بل وبين رعايا الدولة وبين خليفتهم نفسه!
حملت حقيبتي على ظهري ثانية، وبيدي جهاز اللابتوب وكاميرتي، فضلاً عن طعام فطوري الذي احضره لي رجال الشرطة الإسلامية قبل ذهابهم إلى المعركة التي تسابقوا على الإلتحاق بها واتجهت نحو المطعم..
استئذنت منهم أولاً الجلوس في المطعم لتناول طعامي الذي كان بيدي، مؤكداً لهم أن مطعمهم هو مصدر طعامي تفادياً للأحراج، كوني لم اشترِ منهم الطعام بنفسي، فرد عليّ من كان يجلس خلف طاولة الحساب:
حتى وإن لم يكن الطعام من مطعمنا فمرحباً بك يا أخي، وأن لم تكفك الأرض وضعناك على رؤوسنا، فشكرت له عظيم كرمه، وهو ليس بغريب على أبناء نينوى!
وضعت حقيبتي بجانب إحدى الطاولات، وكان عدد الزبائن لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، فالوقت بات متاخراً، وطيران العدو يحوم كخفافيش الليل ووطاويطها في سماء المدينة، والكل يخشى القصف والإستهداف لطائرات لا تفرق بين المدنيين والمجاهدين، فهي تنظر إلى كل من سكن الموصل إنما هو عدواً لها ومستباح الدم، تماماً كما ينظرون إليه إنه مستباح العرض والمال!
سألتهم عن أماكن المغاسل، حيث رغبت في غسل يداي ووجهي، فهناك الكثير من التعب على محياي، والذي نسيته، أو تناسيته في زحمة الأحداث المبهجة والمفرحة، والغريبة التي مررت بها حتى تلكم اللحظة، أشاروا لي إلى زاوية المغاسل، ذهبت إليها، فتحت ماء الحنفية، وبدأت أغسل في يداي، رفعت عيناي إلى المرآة، وجدتهما كقطعتي لحم نيئة من شدة إحمرارهما، تذكرت عدم سيطرتي على دموع عيناي في مواطن كثيرة من شدة تأثري بالمواقف، وقبل أن أغسل وجهي ومعه عيناي شرد ذهني وأخذت أفكر في شريط من الأحداث، فشعرت كإنني في حلم، وإنني ما أن أضع الماء على وجهي سأستفيق، فأجد نفسي في فراشي بأقصى شمال الكرة الأرضية حيث كنت، حينها ترددت من غسل وجهي خشية أن أستفيق من ذلك الحلم الوردي، حلم الخلافة، الذي لطالما عشته خيالاً ووهماً في ليالي لم أذق فيها طعم النوم، نعم هكذا كانت أحلامي، تأتيني وتراودني في صحوي قبل منامي..!
وأنا غارق في أفكاري تلك، مرّ بجانبي فتىً، يحمل مكنسة ينظف فيها أرض المغاسل، إلتفت إليّ مستغرباً سكوني وصمتي وتجهم وجهي في المرآة، فسارعت لسؤاله:
أين انا؟!
رد عليّ، وإبتسامة إستغراب تعلو وجهه الصغير:
بالموصل أنت عمي!
فضاعفت السؤال إلى سؤالين:
وفي أي منطقة من الموصل؟!
فأجابني وهو يمسح الأرض وعيونه صوبي:
هاي منطقة النبي يونس!
قلت لنفسي، وعيوني بإتجاه المرآة، وموجهة نحو ذلك الصبي الذي كان على مقربة مني:
نعم إنها الموصل، وكيف لا تكون الموصل، وكيف لا تكون منطقة النبي يونس وأنا الذي زرتها مراراً وتكراراً.. ثم بدأت في غسل وجهي، حيث تبدد الخوف كله بعد أول رشقة ماء خشيت للحظة أن اقضي بها على حلمي، فأستفيق على الثلوج وغابات أوربا من حولي!
عدت إلى طاولتي ففوجئت بإنها قد فُرشت بالكثير من المقبلات، وقناني الماء، مع إنني لم اطلب شيئاً، وكيف لي أن أطلب وفي الكيس الذي معي فطور يكفي لأشخاص، وليس لشخص واحد، فأشرت إلى الرجل الذي يجلس خلف طاولة الحساب لأبلغه بسوء الفهم الذي حصل، لكنه وكما يبدو عليه، قد قرأ افكاري، وفسر نظراتي، قبل أن ينطق لساني، قائلاً لي:
تناول طعامك حجي، بالعافية، وهذه المقبلات على حساب المطعم!
ما أكرمكم يا ابناء الموصل، وددت لحظتها أن اُنظّم قصيدة هجاء بحق كل من يتهمكم بالحرص أو بالبخل، فوالله إني لم أجد اكرم، ولم أرَ من هم أكثر طيباً منكم يا أبناء نينوى الأبية..!
شكرت له كرمه، وطيبه الذي ليس بغريب على أهل مدينة عانت كثيراً من حكم الشيعة والأكراد، حتى ظن جمعٌ من الناس أن الخير والبركة والطيب والكرم قد غادر هذه المدينة خضوعاً لواقع أليم مرير كانت تعيشه في ظل حكم شيعة الجنوب وأكراد الشمال، لكن، وكما يقول المثل العراقي (اللي بالجلد ما يغيرة إلا القبر) طيب أصل، وكرم أهل الموصل،هو لبٌ وليس قشر، لهذا لا يزيله حال شاذ، أو يسقطه عدو لئيم!
تناولت طعامي بهدوء وسط صخب عمال المطعم، الذين كانوا يتمازحون في آخر ساعات عملهم، غير مبالين بالعدد القليل من الزبائن، الذين كان بعضهم يتجاوب مع مزح العمال، فيضيف لجوهم ذاك نكهة بطعم الكباب الموصلّي الذي كنت اتذوقه في لحظتي تلك!
أنهيت طعامي، وطلبت قنينة ماء إضافية وحبة أسبرين لصداع أحسست إنه بدأ يهاجمني شيئاً فشيئاً، من شدة التعب الذي أنا فيه، فسارع الرجل الثلاثيني الذي كان يجلس خلف طاولة الحساب إلى إخراج شريط من حبوب الصداع وناولني إياه، اخبرته امتلاكي لعلاج خاص بصداع الرأس، لكني اضعه في مكان اجهله بحقيبتي، فرد عليّ، بعدما أحضرها بنفسه إليّ، إنه يمكنني الإحتفاظ بها، و(زيادة الخير خيرين) كما قال، فضحكت، وضحك لضحكتي، ورفض ثانية إستلام قيمة قنينة الماء الإضافية!
تركت المطعم وأنا اشعر إنني كنت ضيفاً على بدويٍ نحرَ على عتبة داره، وتحت قدمي، خروفاً، كتحية لي، فعجز لساني عن الشكر، فاكتفيت بالدعاء له ولمطعمه بالخير، جزاء كرمه وإحسانه!
وقفت أمام المطعم، بعدما سألتهم عن أقرب فندق يمكنني قضاء ليلتي فيه، فاشاروا لي بفندق يسمى (جوهرة الخليج) على ما أظن، فعزمت التوكل على الله والتوجه إليه، فأخذت أترقب سيارة إجرة للوصول إليه..
مرت دقائق وأنا اقف في مكاني، دون أن تقف سيارة لي، فكثير منها تكون مستأجرة حين مرورها، فالتفتُ إلى أحد عمال المطعم، كان متوقفاً أمام باحة مطعمهم، وسألته عن المسافة التي تفصلني عن الفندق، لأنني فكرت في السير إليه مشياً على الأقدام، فأكد لي إنها ليست ببعيدة، وبإمكاني السير على قدمي، حتى تلحق بي تكسي، لكنه أشار عليّ بأمر، تردد صداه على مسامعي، فأمسيت بين مصدق ومكذب، أهي مبالغة، أم سخرية يا ترى، وهو يقول لي:
إن مرت دورية لـ(الإخوة)، على حد وصفه، فأوقفهم، واطلب منهم أن يوصولك إلى حيث تريد.. ويقصد بـ(الإخوة)، المجاهدون!
فقلت له مستغرباً، وإبتسامة نصر ترتسم على وجهي :
(ماكو مشكلة يعني إن استعنت بهم للوصول إلى أي مكان)؟!
فرد عليّ مؤكداً إنه وحينما لا تتوفر السيارات، أو عند ندرتها، فإن الناس تلجأ إلى دوريات الدولة الإسلامية لتقوم بإيصالهم إلى وجهاتهم!!
شعرت بإبتسامة نصر، لأن هذه الإجابة كانت أولى الأجوبة التي جاءت كرد على أولى إستفهاماتي التي وضعتها، بعدما تغيرت خطتي بالكامل، والتي قررت على إثرها تغير وجهتي الإستكشافية داخل دولة الخلافة الإسلامية، حينما قررت سلك الطريق الذي يوصلني إلى (عدلت فآمنت فنمت)، فجلّ خوفي أن يكون (اهملت فتخبطت فخسرت)، فحينها لا مكان لي في هذه الدولة، بل وسأكون أول المحاربين لها، والداعين إلى زوالها، كما قال المتحدث باسمها الشيخ أبو محمد العدناني، يوم قال عنها وداعياً عليها: (إن كانت كانت هذه دولة خوارج، كما يصفونها، فاقصم اللهم ظهرها، ولا تقم لها قائمة)، وأما إن كانت كما عهدتها، فسأكون لها، كما كنت سابقاً، مناصراً، ومسانداً بقلمي، وبروحي وبدمي لو تطلب الأمر، حتى يظهر الله الحق، أو نهلك دونه!
وأنا أهم بالمسير نحو الفندق على اقدامي، سألت عامل المطعم نفسه عن قيمة الإجرة التي يتقاضاها سائق التاكسي إلى الفندق، فقد خشيت أن يستغلني أحدهم، كما تجري عليه العادة في كثير من بلداننا، التي تقوم على مبدأ إستغلال الظروف للحصول على القوت، فأجابني أن الأجرة ليلاً ونهاراً لا تزيد على الأربعة إلى الخمسة آلاف دينار عراقي، وقبل أن اتحرك بإتجاه الفندق توقفت على مقربة مني سيارة تاكسي، لينزل منها أحد الركاب، فسارعت للذهاب نحوها، فسألت سائقها إن كان يستطيع إيصالي إلى الفندق المقصود، فوافق دون تردد، وحينما سألته عن الإجرة مقدماً، ترك لي حرية تحديد المبلغ، ولأن هذه الكلمة مطاطية، وكثير منا يخشاها، حتى لا تصبح في نهاية المطاف أمام الأمر الواقع، فتدفع ما يريده السائق، شئت أم ابيت، لهذا فقد طلبت منه تحديد الإجرة قبل الذهاب معه، فقال لي:
ثلاثة آلاف دينار، وإن كنت أرى المبلغ كبيراً فسيقلني بلا مقابل، وأقسم على ذلك، فشكرته ووضعت حقيبتي على المقعد الخلفي وجلست بجانبه، وتحرك مباشرة بعدما قال لي:
مساك الله بالخير!
سِرنا نحو الفندق، وكان السائق يُكثر من الحديث عن كثافة الطيران هذه الليلة، ويخرج رأسه أحياناً من نافذة سيارته لينظر إلى السماء، رغم يقيني بإنه لا ولن يرى شيئاً، بعدما جاورت تلك الطائرات النجوم والقمر من شدة خوفها ورعبها من مضادات الطائرات التي تمتلكها الدولة الإسلامية، والتي اثبتت نجاعتها وفاعليتها، خصوصاً مع الطيران الشيعي والإيراني والعربي، فيما يطير بحذر الطيران الغربي وبإرتفاعات شاهقة، لأنه أكثر من يدرك معنى الوقوع بيد الدولة الإسلامية، فسقوط طيار واحد، كسقوط معاذ الكساسبة في يد الدولة الإسلامية، ويتم إحراقه بذات الطريقة، كفيل بأن يزيل عروش حكومات الغرب ويهدُّ أركان دولهم، لكن ما عسانا نقول لعروش عربية لا يهزها ولا يزلزلها إحراق جنودها وطياريها الذين ترسلهم لقصف المسلمين ولإحراق أطفالهم، فإن كان حرق جنود الحكومات العربية وطياريها لا يمنعها ولا يثنيها عن مواصلة استهداف أبناء جلدتهم من أهل السُنّة والجماعة، فحينها ليس للمسلمين الذين يُحرقون بصواريخ وطائرات الحكومات العميلة، وليس لجنود الإسلام الذين يسيرون على شرع الله، إلا أن يحرروا تلك البلدان من حكومات الرذيلة تلك، وإلا فلن يستقيم شرع الله بوجود هؤلاء الطواغيت، وما القادم من الإيام إلا سيراً على هذا النهج، بإذن الله تعالى، وتصميم على ما عزم عليه الرجال الرجال!
كان السائق يقول لي، وهو ينظر إلى السماء من شباك سيارته:
اليوم الجماعة (ماخوذين)!
أي إنهم كالكلب، حينما تدوس على ذنبه، بحسب هوى تفسيري للمفردة!
قلت له:
ولمَ.. ما السبب يا ترى!؟
رد عليّ:
حينما تراهم يملئون السماء فأعلم إنهم (ينسحلون) على الأرض!
إكتفيت بالقول:
بإذن الله، في حين كانت عيني تراقب وتستطلع الطريق من جانبيه.. كم تمنيت أن يكون سيري في الموصل نهاراً، فلكم اشتقت إلى كل ركن وزاوية فيها، ومع إن الإسوداد كان يحيط بكثير من زوايا الطريق، إلا إنني كنت أتلمس جمالها حتى عبر الظلام..!
وصلنا إلى أحد الجسور، فدخل سائق التاكسي بصورة معاكسة، فهذا الجسر للأياب وليس للذهاب، وما كنت اُميز ذلك لولا أن السائق نفسه أخبرني بذلك، فقلت له ألا تخشى أن يستوقفك أحد، فرد عليّ:
لا زالت هناك بعض المخالفات التي ما زلنا متمسكين بها.. يعني تستطيع القول (شوي شوي نتغير)، أي خطوة خطوة، وبالتدريج، ثم اعقبها بضحكة قائلاً:
تعرفُ طبع العراقيين!
ولأنني أعرف طبع قومي فما وجدت ذلك غريباً، لكني قلت له:
وماذا لو إستوقفك أحد رجال الشرطة الإسلامية، فرد عليّ ممازحاً بالقول:
سأقول لهم: أخوكم كردي.. ثم اعقبها هذه المرة بضحكة طويلة!
وهذا الرد هو في سياق النكت الساخرة بين العرب والأكراد، التي تعايشنا معها منذ صغرنا، فأهلنا الأكراد يمطرون إخوتهم العرب بكتب من النكات والدعابات الساخرة، فيرد لهم العرب الصاع صاعين من النكات، فيقلب الأكراد على العرب الطاولة بنكات أخرى مستحدثة، وحرب الدعابات والنكات هذه لا تنتهي لإنها من الموروث عند الطرفين، والذي لا يمكن الإستغناء عنه، إلا في حال تخلى الكرد عن كرديتهم، أو تخلى العرب عن عروبتهم، وهو ما لن يكون!
على الجسر أبصرت بناية كبيرة، تنتصب على حافة دجلة، نورها يشد الأبصار من بعيد، وكإنها فنار تهتدي به السفن، فسألت السائق عن هوية هذا البناء، فقال لي إنه بناية الفندق الذي اقصده.. شعرت حينها بنوع من الإرتياح، وبنفس الوقت من الخوف، فلربما يكون المبيت في هذا الفندق فوق طاقتي المادية، فكما ما يبدو عليه إنه فخم، وغالي الثمن، ولا أدري ما يخبئه لي الزمن إن صرفت ما بجيبي من أول لحظة وصولي إلى هذه المدينة، التي لا يزال الغموض يكتنف كثيراً من أركانها في ظل الخلافة نتيجة تعتيم الإعلام المعادي!
ما هي سوى دقائق حتى وصلت إلى الفندق، ودلني السائق على الباب، وقال لي:
إن كان الباب مغلقاً فهناك جرس بجوار الباب أضغط عليه وسيفتحون لك الباب حالاً..!
شكرته على كلماته، التي شاركته في كثير منها الضحك، واستغربت لهذه الروح الخفيفة التي يمتلكها، والتي بددت ما اشاعه الإعلام المعادي والمضلل من أن أبناء الموصل يعيشون في كمدٍ وخوفٍ ورعبٍ وحزنٍ لا يعرف به إلا الله والراسخون في العلم، وأن الفرح قد غادرهم والإبتسامة فارقت مضاربهم منذ أن حررت الدولة الإسلامية أرض الموصل من الاحتلال الشيعي والكردي لها، وكأن الشيعة الرافضة وعلمانيي الكُرد هم من كانوا يزرعون البسمة على شفاه الأطفال، وليسوا السالبين!!
المارة والسابلة في الشارع يكاد ينعدم وجودهم في هذه الساعة المتأخرة من الليل، وحركة السيارات في الشوارع باتت ضعيفة، بل وضعيفة جداً، والهدوء يخيم على المكان ولا يقطع سكونه إلا صوت مولد كهربائي ضخم بجوار بناية الفندق، فضلاً عن أصوات الطائرات التي لا تغادر أبداً سماء الموصل!
امسكت الباب بيدي فوجدته مفتوحاً، فدخلت، واجهني سلم دائري أخذت درجاته بخطوات، واحدة أثقل من الأخرى، بعدما خاب أملي في قضاء ليلتي الأولى مع المجاهدين، فما أجمل لو إنني قضيت ليلة رأس السنة هذه بصحبتهم!
إنتهى السلم عند قاعة تتوسطها دعامة، وبجوار الدعامة حائط مستدير من الرخام ليشكل طاولة على شكل نصف دائرة، يضم جزء منها أجهزة كومبيوتر، وجهاز استنساخ..!
القيت على موظف الأستقبال السلام، ثم بادرت إلى وضع حقائبي على كنبة تقابل طاولة الإستقبال من زاوية أخرى..
كنت اتأوه وأنا أضع الحقيبة من شدة التعب والنصب الذي اصابني، فأسمعني موظف الإستقبال رده على السلام، ثم حمد الله على سلامتي!
وقفت أمامه، وضعت يداي على الحائط المرتفع، رميت بحمل جسدي على يداي اللتين أثنيتهما على طاولة الرخام!
كان موظف الشاب العشريني أو الثلاثيني، أو بين هذا العقد وذاك، أنيقاً، يضع نظارات، هي ربما للقراءة، أو لمشاهدة التلفزيون، كان يستكمل الحديث مع أحد الأشخاص ممن كانوا على حافة الطاولة بعيداً عن الطرف الذي كنت أقف بجواره، ولم تمضِ سوى بضعة ثوان حتى تفرغ لي، فقال لي مرحباً تفضل:
قلت: هل لديك غرفة فارغة؟!
فرد بالإيجاب.. لكنه أضاف بعد ذلك أن هناك مشكلة في هذا الأمر!
سألته عن المشكلة، فقال لي:
أن التعليمات تفرض عليه عدم إستقبال الزبائن العراقيين بعد الساعة العاشرة مساءً، وأن الساعة الآن شارفت على الثانية عشر!
فقلت له، وأين المشكلة في ذلك؟! أنت تتحدث عن العراقيين وانا لست عراقي!!
فضحك ضحكة بارزة، فلهجتي التي هي أقرب للبدوية، كما يصفها البعض من زملائي وأصدقائي، لا توحي على الإطلاق إنني أجنبياً، بل عراقي (خط ونخلة وفسفورة)، كما يقول أبناء العراق، و(خط ونخلة وفسفورة) كنا نطلقها على الأموال غير المزورة في زمن قبل الاحتلال، ثم انسحبت هذه التسمية من الأموال إلى كل ماهو (أصلي) بعدما أصبح ما حولنا كله مطلياً ومزوراً، حتى النخوة العربية التي كان يعوّل عليها البعض بوقوف العرب إلى جانبنا في حرب أميركا ضدنا، إذ أصبحت نخوة الحكومات العربية هي أبرز الأسلحة التي استخدمتها اميركا لحرقنا وإبادتنا، بالتعاون مع النخوة الشيعية المجوسية، والكردية المشهورة بعدائها للعرب، وسط لا حول ولا قوة للشعوب العربية والإسلامية المقهورة!
استخرجت جواز سفري الأجنبي ووضعته على الطاولة أمام موظف الأستقبال، وحينما تناوله بيده وفتحه قال لي:
(والله ظننتك تتشاقى)، أي ظننتك تمزح معي حينما قلت إنك أجنبي!
لم أرد عليه، بل تركته يقوم بإجراءات الحجز، فرغم أن الجواز قد حل لي مشكلتي، إلا إنني لا زلت انظر إليه على إنه لا يخصني ولا يمثلني، بعدما شعرت بفقدانه لقيمته ما أن وطئت قدمي أرض الخلافة!
أنتهى موظف الأستقبال من أجراءات حجز الغرفة، وسألته بعد أن انتهى من إستنساخ جواز سفري، وتثبيت الاسم في سجلات الفندق، عن سعر الليلة الواحدة في الفندق، كي أدفع له المال، فأعطاني وصل الحجز وقد كتب فيه خمس وثلاثون ألف دينار فقط، وهو ما يعادل تقريباً خمس وعشرين بالعملة الأوربية اليورو، وهو ما لم اتوقعه، فقد ظننت أن يكون سعر الليلة الواحدة في مثل هذا الفندق ما يقرب المائة يورو، لكنها الموصل، التي يتبدد فيها الوهم ويصبح حقيقة ما أن تلامس قدمك أرض مدينتها الحدباء، ذات الربيعين!
أعطيته المبلغ الذي كنت أراه زهيداً جداً مقارنة بما أراه، على الأقل من بناية وإنارة ونظافة، حتى خشيت أنه أعطاني سريراً في غرفة مشتركة مع آخرين، وهو ما لا أريده، ما جعلني استفسر عن هذا الأمر، إن كانت غرفة مستقلة، أم سرير بغرفة مشتركة، فابتسم لي وقال لي، بل غرفة يا اُستاذ، ثم نادى على شاب، لم يبلغ العشرين من العمر بعد، ليحمل أغراضي نيابة عني، فاكتفيت بالطلب منه حمل الحقيبة فقط، و(ستاند) الكاميرا الذي كان مربوطاً بالحقيبة من الخلف، فيما حملت اللابتوب والكاميرا بنفسي، وقبل أن نتجه إلى المصعد وأغادر قاعة الأستقبال خاطبني موظف الأستقبال بالقول:
اُستاذ، إن لم تعجبك الغرفة نستطيع أن نغيرها لك!
شكرته، ثم استقليت، مع الشاب، المصعد حتى الطابق الرابع، حيث فُتح باب المصعد على ممر ليس بالضيق، وليس بالواسع، وقبل نهايته من جهة اليمين كانت هناك غرفة، فتحها الشاب ودخل قبلي، ثم تبعته!
كانت الغرفة مفاجئة بالنسبة لي، فهي، وكما يصف والدي مثل هذه الحالات (تطارد فيها الخيل)، كناية إلى مساحتها الكبيرة، فقد كانت عبارة عن صالة واسعة مجهزة بتلفزيون يحوي جميع القنوات، بينها الرياضية المشفرة، ومن الصالة يتم الدخول إلى غرفة نوم مستقلة، تحوي ثلاثة أسرّة، مجهزة بفرش جميل، مع خزانة ملابس خشبية كبيرة، إلى جانب عدة حلاقة لمن يرغب، وفرشاة أسنان ومعجونها، وكل ما يتطلبه حال المسافر وعابر السبيل.. وإلى جوار الصالة كان هناك حمام مستقل، تم بناؤه على الطريقة الموصلّية، من الرخام، ومجهزاً بالمناشف الناصعة البياض، والدخول إليه يكون بعد إنتعال ما نسميه بـ(القبقاب)، وهو الحذاء الخشبي الذي يستخدم في الحمامات الموصلية العامة التي تنتشر في أحياء الموصل!
شكرت الشاب الصغير، ومنحته بقشيشاً، ولا أعرف إن كانت هذه العادة سارية هنا أم لا، خصوصاً إنه لم يطلب مني ذلك، لكني بادرت لذلك بحكم معرفتي بطبيعة العمل في الفنادق العراقية خصوصاً، والعربية منها بشكل عام، ولأنني صراحة أردت اكرامه، كعرفاناً ورداً للجميل، لما اكرمني به (المصالوة)، كما نسميهم في لهجتنا العراقية!
قبل أي شيء سارعت إلى فتح الشباك لعلني احظى بمنظر يشرف على مدينة الجهاد، الموصل الحدباء، خصوصاً إنني الآن في أعلى نقطة يمكن لي من خلالها إستشكاف المدينة!
كان الهدوء يخيم على كل شيء، ولم أكن أرى من ذلك المرتفع، (الطابق الرابع)، سوى مصابيح هنا، وأخرى هناك على مدّ البصر، بعدما توقفت المولدات الأهلية عن تزويد الناس بالكهرباء كوننا كنا في ساعة متأخرة، ومن عادة المولدات الكهربائية تجهيز المواطنين بالكهرباء لغاية الساعة الثانية عشر مساء، أو قبل ذلك بساعة في بعض المناطق، بحسب إتفاق أصحاب المولدات مع أهالي تلك المناطق، تحت إشراف مباشر من الدولة الإسلامية، التي هي من تتكفل بالمحافظة على ثبات الأسعار المعقولة، وعدد ساعات تجهيز الكهرباء، فضلاً عن التكفل بتأمين الوقود للمولدات..
عدت وأغلقت الشباك، على أمل أن استمتع بالمناظر في صباح اليوم التالي، فيما سارعت، بعد حمام سريع، إلى إداء صلاة المغرب والعشاء جمعاً وقصراً، كوني على سفر، انهيتهما بحمد الله وشكره على ما انعم به عليّ، وقرّ عيني بالوصول إلى أرض الخلافة، والسير على ثراها الطاهر، ثم جلست بعد ذاك اُشاهد القنوات التلفزيونية، وما يجري في ليلة آخر السنة، فوجدت أن جميع القنوات قد إنقسم حالها بين أمرين لا ثالث لهما:
القسم الأول من القنوات يغطي إحتفالات رأس السنة في مختلف انحاء العالم، وتتسابق هذه القنوات أيهما يغطي بشكل أسرع وأشمل تلك الاحتفالات، فلاحظت أن العرب كانوا أكثر إهتماماً بها من النصارى أنفسهم!
أما القسم الثاني، وتتزعمهم قناة (العربية) وقناة (الحدث) السعوديتان، فضلاً عن القنوات الشيعية الرافضية، والتي يتجاوز عددها المائة ويزيد، فقد خصصت سهرتها في ليلة رأس السنة للطعن بالمجاهدين والنيل من الدولة الإسلامية، والتغني بإنتصارات بني مجوس الوهمية في سوح الجهاد العراقية والشامية، ومن بينها الحديث عن معارك (تحرير) مدينة الگيارة والسيطرة على جسرها الرئيس، الگيارة التي مررت بها قبيل سويعات فوجدت فرسانها رجال الدولة الإسلامية يحكمون السيطرة عليها بقبضة جهادية حديدية، فأدركت حجم الإنحلال الإخلاقي لإعلام اليوم وبؤسه، وعلى رأسهم قناة (العربية)، التي توهمنا بإنها من تعرف أكثر، وهي لا تعرف شيئاً على الإطلاق، أو أنها تعرف، لكنها تحاول خداعنا، مع إنني اُرجح الثانية، فهذه النبتة الخبيثة، التي ولدت من نطفة حرام بعد الاحتلال الأميركي للعراق، إنما هي حصيلة زواج متعة أب خليجي (معس)، من أم شيعية مجوسية (إيران)، قبل أن تنجب للمتعوسين أخيراً قناة (الحدث)، التي فاقت في العهر اُمها، مثلما فاقت في الدياثة أباها!
أغلقت التلفاز، لإن صدمة كبرى تلك التي يكتشفها من رأى الحق بعينيه ثم يجد أبناء مهنته من الإعلاميين يزوّرون كل شيء، حتى الحقيقة التي لا يمكن تزويرها، وكنت أتساءل، ألا يعلم هؤلاء أن هناك اُناس يعلمون الحق ممن يسكنون ويقطنون في تلك المدن التي يصرّون على إنها اُستردت من قبضة الدولة الإسلامية، وأنها اليوم بيد هذا الطرف الشيعي الزنديق، أو ذاك الطرف الكردي الخسيس، في حين أن تلك المدن لا تزال تحت سيطرة رجال الخلافة الإسلامية، تساءلت، ترى كيف لهم أن يكذبوا لهذه الدرجة القبيحة التي لا يمكن فيها الكذب وإخفاء الحقائق، ألا يعرفوا أن الناس يعلمون بكذبهم، لكنها يا سادة نقطة الحياء التي سقطت من جبين حتى الطير الذي يمر من فوق مباني مثل هذه القنوات المريضة الموبوءة بكل ما هو دنيء ووضيع!
لجأت إلى الفراش واستلقيت على السرير، فيما كانت عيناي تتجول ما بين السقف والمراوح والجدران، وكإنني غير مصدق إنني في الموصل التي يقال عنها أنها مدينة الخراب والدمار، ثم أطوف بنظري إلى جهاز التدفئة الـ(سبلت) وهو يضطرني للنوم بلا غطاء في ليلة رأس السنة الباردة، وأقول لنفسي:
كيف يقولون عن مدينة حية هكذا إنها في عداد الأموات!؟
غلبني النعاس من شدة ما مررت به من أحداث لا تتكرر في حياتي بتلك السهولة، فأن تجد نفسك في أرض الخلافة، بعد هجرة إليها من مسافة آلاف الكيلومترات، أمتدت لليال وأيام طوال، ومعاناة تكاد تصل لدرجة القتل غيلاً، أو الإعتقال لأيام أطول من تلك التي إعتقلت فيها على الطريق والحدود، ثم ينتهي بك الحال في أرض الأحلام التي قصدتها، فإن ذلك والله لفي قاموسي حلم بعيد المنال، لكنه هاهنا الآن يتحقق ليصبح واقع ملموس، بعدما وصلت إلى أرض الجهاد، وأي أرض، أرض الموصل الحدباء التي لقنت المجوس درساً لن ينسوه على مرّ العصور، بل ومنحت كل مدارس العسكر والأركان مناهج جديدة ستظل تُدرّس في أكاديمياتها حتى يرث الله الأرض ومن عليها..!
ومن وسط نوم عميق استفقت لأجد نفسي وسط ظلام لم أرَ اشد منه عتمة في حياتي، فلا كهرباء، ولا نور، ولا أي شيء يشعرك بأنك حي، غير أنفاسي التي أخذت تعلو بعدما شعرت برعب كبير..!
لم أكن اخشى الظلام من قبل، ولم اخشاه يوماً، بل إني كنت ولا زلت اعدّه لي رفيقاً، بل وعالماً مستقلاً خاب وخسر من لا يستأنس برفقته، لكن ما ارعبني حد الجنون أن يأتي النور فجأة، أو احصل على الضياء، فأكتشف إنني في غرفتي في أقصى شمال أوربا، وأن كل ما مررت به ليس سوى طيف مرّ بي، أو حلم جميل..!
يا الله، أيعقل أن يكون ما أنا فيه الآن ليس سوى كابوساً، كيف..!! إني أتذكر إنني سرت في طريق، بل طرقات، وركبت طائرات، وقطعت مسافة أيام بالسيارات، واحتضنت المجاهدين واحتضنوني، وقبّلت رؤوسهم وقبّلوني، وتناولت طعامهم، نعم تناولت طعامهم، وكان كباباً موصلياً، وهاهو طعمه لا يزال في أنفاسي قبل فمي، ووصلت إلى فندق وو..!!
يا الله أيعقل أن كل هذا كان حلماً لا غير، وماذا افعل أن تبين أن كل ما مررت به ليس سوى وهم.. قفزت كالمجنون، ابحث عن الشباك لأتأكد، ولأثبت لنفسي إنني هنا، هنا في الموصل، وليس في بيتي بأوربا، قفزت مذعوراً نحو جهة الشباك، سقطت بين سريرين، نهضت، ثم قفزت ثانية فسقطت على حافة السرير الثالث، لم أكن أدري أين كنت أنام بالضبط، فأصبح حالي ككرة تتقاذفها الأقدام، يتلقفني سرير هنا، ويردني سرير هناك، ودارت بي الأرض ولم أعد أدري أين الشباك من الباب، وكنت كلما ظننت إنني وصلت إلى نافذة الشباك اكتشف ضعف ذاكرتي بعدما اُمسك بشيء آخر!
وبعد دقائق طويلة، رأيتها كشوطي مباراة نهائية في دوري عالمي ينال فيه السرير الفائز جائزة كبرى لما يحدثه بي من أضرار وكدمات وجروح، فلم اشعر إلا ويدي تقع على الشباك، فحمدت الله، لكني وما أن فتحت الشباك حتى وجدت أن الظلام قد إزداد، فاكفهر وجهي الذي يغشيه السواد، إذ تبين لاحقاً أن هذه ليست سوى النافذة التي كانت تفصل غرفة النوم عن الصالة الرئيسية.. حاولت إمساك الجدار والسير معه، فظهر لي إنني امسكت، في نهاية مطاف سيري، بخزانة الملابس الخشبية، التي تقع تماماً في الجهة الأخرى من غرفة النوم، والمقابلة لنافذة كنت أحاول الأمساك بها بطريقة إمساك الماء بغربال..!
عدت ادراجي وقصدت الجهة الأخرى حتى يسر الله لي، بعد عثرة هنا، ودحرجة هناك من الوصول إلى النافذة، التي ولولا دخول تيار هوائي بارد منها بعد فتحها، لما عرفت إنني اُطل على مدينة الموصل، بعدما انطفأت حتى المصابيح التي كانت متناثرة هنا وهناك خارج الفندق، والتي ابصرتها آخر الليل.. تذكرت حينها هاتفي، فوجدت فيه حبل النجاة للتأكد من إنني هنا، وليس في مكان آخر، وبعد جولة بحث امتدت لقرابة الربع ساعة تمكنت من العثور على هاتفي الذي لم استخدمه لإنارة المكان، بل للتيقن من إنني في فندق في الموصل، وإنني لم أكن في حلم ووهم وخيال!
كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة صباحاً بقليل حينما استيقظت لأعيش كابوس الوهم هذا، وبعد الإنتهاء منه، وتأكدي إنني هنا بالفعل في أرض الخلافة، حاولت العودة إلى النوم ولكن دون جدوى، فما أشد رعب أن افقد ما أنا فيه، حتى ولو عبر حلم ووهم وكابوس، فكيف لمن يسر الله له دخول الجنان أن يفكر بالعودة إلى النيران، فحياتي خارج أرض الخلافة، مهما بلغ عظيم شأنها، ورغد عيشها، وطيب ثراها لا تعدل عندي لحظة واحدة أقضيها فوق أرض، وتحت سماء يحكمها شرع الله حقاً، وحراس حدودها وعقيدتها اُسود جهاد، وخليفتها، إن رأيناه قد حاد عن الدين، لا سمح الله، خرجنا عليه بالسيوف وقوّمناه!
أقبل الفجر، وغزل الصباح من خيوطه سجادة موصلّية، وكبّر المنادي أن الصلاة خير من النوم، فوددت الرد عليه من نافذتي لأقول له: ومن أين لي النوم وأنا اترقب أول صباح لي في أرض الخلافة، فلبيت النداء، وصليت، ثم تجهزت لمنظر شروق الشمس، فخذلتني الشمس مجبرة، بعدما غطتها سحب الغيوم، التي شكلت عازلاً بين جنود الرحمن وبين طائرات الحلف (الغربي – العربي – الإيراني)، التي حيدتها ملائكة السماء، كيف لا، ولله جنود لا نراها، تقاتل مع خندق الحق ضد جمع الأحزاب..!
تسمّرت عند نافذتي وأنا أرى أولى ملامح الحياة تدب بعد ليل طويل، لم أذق من ساعات نومه إلا النزر اليسير، حيث بدأت جموع الناس تملئ الشوارع والأزقة والطرق الخلفية والحارات، أصحاب المحال فتحوا ابوابهم، أصحاب (الچنابر) و(البسطيات) إفترشوا الأرض، والمتبضعين شكلوا كتلاً بشرية تزدحم في هذا الشارع وذاك، والسيارات من ضخامة اعدادها ما عادت تتسع لها الشوارع، وتبدل هدوء الموصل إلى ضجيج يصمُّ الآذان، فهذا ينادي على خضرته، وذاك يمازح صاحبه، وثالث يبيع حلوياته، وآخر يُبشر بمستقبل من تذوق مشروباته الغازية، وموقف السيارات الذي قبالة الفندق أصوات سائقي سيارات إجرته يهز صداها أرجاء المكان، وكل واحد منهم ينادي باسماء المناطق التي يعملون على خطوطها!
نعم، هذه هي الموصل التي أعرف، مدينة حية، لا تعرف الموت، ولا تعرف الهدوء، ولا تعرف الخمول، الموصل التي هي عصب إقتصاد العراق كله، فمنها تتغذى بغداد، وعبرها بضاعة العراق كله تتوزع، واليوم تمارس ذات الدور بسيطرتها على مفاصل إقتصاد دولة الخلافة الإسلامية، وها هي أسواقها، رغم الحصار (الشيعي - الكردي)، غارقة بمختلف أنواع البضائع والمنتوجات والخضار والفاكهة!
سارعت إلى إرتداء ملابسي، وحملت حقيبتي ،وبقية أغراضي، واتجهت إلى صالة الإستقبال في الفندق، وقبل أن اُسلّم المفتاح سألت موظف الإستقبال عن مكان اُصرّف فيه العملة، فما معي من العملة العراقية يكاد ينفذ، وليس معي سوى عملة اليورو، فخشيت أن لا أجد من يتعامل بها في دولة يحاصرها الغرب والشرق، فضحك موظف الأستقبال وقال لي:
هنا كل شيء موجود، ليس اليورو فقط، بل أي عملة ترغب في تغيرها فستجد بباب فندقنا فقط، وبجواره عشرات مكاتب الصيرفة، التي ترحب بك!
سرّني كلام موظف الأستقبال لإنني اُدرك أن الإقتصاد يرتكز عموده على العملة الصعبة لأي بلد، وهي مقياس التضخم في هذا العالم الرأسمالي الذي يحكمنا ظلماً وعنوة!
سلمت مفتاح الغرفة إلى موظف إدارة الفندق، ولم أبلغه حتى سبب عدم تنبيهي إلى قطع التيار الكهربائي وإطفاء المولد ليلاً، فقد كنت في عجلة من أمري لأقوم بجولة في أسواق (حبيبتي) التي مزّقني الشوق إلى شوارعها المفعمة بالحياة، فغادرته بعد السلام، وما هي سوى دُريجات سلم حتى وجدت نفسي في قلب الزحام، أمام باب الفندق، فأخذت أسير وأتلفت شمالاً ويميناً، وقطرات خفيفة من أمطار الخير تنهال من السماء لتزيد من جمال جو الموصل الآخاذ جمالاً، وتزيده سحراً!
كنت جائعاً وأرغب في تناول فطور الصباح، أو كما نسميه بالعراقي (الريوگ)، لكنني ومن شدة فرحي بهذه المناظر، وهذه الحركة الكثيفة للناس قد شبعت، وكنت اتساءل مع نفسي، كيف يقول هؤلاء الأفاكين أن الموصل قد فرغت من سكانها!!
الآن قد فهمت المعادلة، فعلى ما يبدو أن من غادر الموصل وتركها إنما هو من أجرم بحق أهلها، وخشيّ على نفسه من العاقبة بعد التحرير من الشيعة والكرد، ويقيناً أن هؤلاء الفارين كانوا من الخونة والمرتدين والعملاء والأذناب..
أو أنه ممن رفض العيش تحت ظلال دولة العدل الألهي، وبدستور الإسلام الذي كفل لكل من عاش تحت كنفه حقه في العيش والحياة من الديانات الأخرى، وما الوثيقة العمرية إلا خير شاهد على عدالة الإسلام التي لا يريد أن يخضع لبنودها ألد الخصام..!
فيما ينفطر قلبي على من غادر مدينته الجميلة طوعاً تحت ضغط الإعلام الشيعي – الرافضي – الإيراني – الكردي – الخليجي، الذي يهدد ويتوعد بإبادة وتطهير الموصل من أهلها، أبناء السُنّة والجماعة، ولكن خاب وخسيء فأل من هدد وتوعد، فما رأيته في الحدباء يجعلني على يقين وثقة بالله أن الموصل أبداً لن تعود لأحضان رافضية أو سلطة كردية!
فجأة، وبدون مقدمات قررت إنهاء جولتي في السوق، فما رأيته في دقائق أثلج صدري وأجاب على كل إستفهاماتي وزادني إطمئناناً على الجانب الإقتصادي للدولة الإسلامية، فحينما تكون الموصل عامرة هكذا بسكانها وبأسواقها فبقية مدن الخلافة لن تكون إلا بخير، فحينما يكون القلب سليماً فأعلم أن الجسد معافى، مهما كثرت الميكروبات والجراثيم من حوله..!
قررت المضي قُدماً في البحث عن إجابة لذاك السؤال، الذي بقي عالقاً في ذهني، راسخاً في عقلي، والذي عززه الآن هذه الكثافة البشرية التي تملئ أسواق وطرقات الموصل، فكيف يترك رجال الشرطة الإسلامية سيارتهم على قارعة الطريق ومفتاحها فيها، لتكون محل سيلان لعاب أي سارق عليها، فإن كان إهمالاً فسأجد إجابته عند القضاء، وإن كان أماناً فساجد إجابته عند القضاء كذلك، من هنا كان قراري في أن تكون وجهتي التالية هي دار القضاء، فإن صلح العدل والقضاء ساد الأمن والرخاء، وأن فسد القضاء تفشى المرض والوباء والأهمال، نعم، فعند القضاء الخبر اليقين، فهو من سيجعلني اُكمل رحلتي في دولة العدل لأعيش في ظلال رحابها وأخدمها، وأفديها بروحي، أو أهرب مد البصر من ظلمها وجورها وفسادها!
وقفت على ناصية الطريق، لأستأجر سيارة، وقبل أن اُلوح بيدي، انتظرت قليلاً، فلا أريد أن استقل سيارة حديثة، بل كنت أبحث عن سيارة، ليست تكسي أولاً، بل خصوصي، وتكون قديمة ثانية، لأن مثل هؤلاء يصعب عليهم منافسة التكسيات الحديثة التي كانت تملء الشوارع، وبعد دقائق إنتظار، أنار لي أحد أصحاب السيارات الخصوصي مصابيحه الأمامية، كدلالة عندنا من السائق في العراق ليقول إنني أعمل تاكسي، وإن لم يكن تاكسي، وكانت سيارته قديمة الطراز، لم اُركز على نوعها، لكني أظنها (سبعينية) أو (ثمانينية) الموديل، أشرت لصاحبها الخمسيني العمر، فتوقف..
سلمت عليه أولاً.. فأجابني بالرد العراقي الشهير:
عليكم السلام أغاتي..
سألته أن ياخذني للمحكمة، فرد على سؤالي بسؤال:
أي محكمة عيني..؟!
حينها رفعت رأسي قليلاً لأفكر، قبل أن أعود وأخفضه من زجاج السيارة ثانية، لأسمعه ويسمعني، من شدة الضوضاء التي تجعلنا نتحدث بصوت عالٍ:
لا أدري، أريد أكبر محكمة في الموصل.. هكذا اجبته، إذ لم أكن ابحث عن محكمة بعينها، لكني أبحث عن دار القضاء، وكنت لا أعرف أي تسمية يطلق أبناء الموصل على قضائهم الجديد، فأجابني واعداً إياي بإيصالي لمبتغاي:
ماشي، سأوصلك للمحكمة الكبرى!
احسست إن هذا ما كنت ابحث عنه فقلت له:
وهو المطلوب..!
صعدت مباشرة معه، دون أن اسأله كم سيتقاضى مني، إذ لم يعد يهمني حينها ما سيطلبه مني، فقد أصبحتُ، أريد، وبأي ثمن، الحصول على إجابة لتساؤلاتي!
إنطلق سائق التاكسي وسط زحام شديد، وراح يراوغ بين السيارات، ليثبت لي ربما، إنني لن اندم على إستئجاري سيارة قديمة، فطلبت منه التروي قليلاً، إذ ابلغته إنني لست في عجلة من أمري، ربما لإني أريد أن أتامل الطرقات، وما نمر به بسيارتنا، ذات الموديل النادر من فرط قدمها، فراح السائق يؤكد لي أن هذه محاولات للتخلص من الزحام ليس إلا!
ركزت على الطريق،* بالفعل كان الزحام على أشده، خصوصاً على الجسر الذي قطعناه، وأعداد السيارات لا توحي لك على الإطلاق أن هناك أزمة في الوقود، كما هو حال باقي مدن العراق، التي لم تتمدد إليها الدولة الإسلامية بعد، وهذا كان مدخل أول أسئلتي للسائق، حيث سألته عن حال وأسعار وقود السيارات، فأكد لي أن ثمنه مناسب، مقارنة بمحافظات أخرى، وهو ما دفعني لتوجيه السؤال الثاني، والذي جعلته في ذات السياق، من أين مصادر الوقود، ولماذا هي مناسبة مقارنة بغيرها من مدن العراق، فكشف لي أن المصافي البدائية التي لجأت إليها دولة الخلافة حلت جزءاً كبيراً من الأزمة، سواء بالنسبة للنفط، أو البنزين، أو الكاز، حيث باتت هذه المنتجات الثلاثة متوفرة بكثافة نتيجة عمل (الفرازات)، كما يطلق عليها، والمنتشرة في مختلف انحاء الموصل، بالإعتماد على النفط الخام الذي توفره الدولة الإسلامية لتلك المصافي البدائية، سواء التابعة للدولة الإسلامية، أو الأهلية منها، إلى جانب تأكيد السائق على عمليات إستيراد من ولايات أخرى من الشام، أو من خارج حدود دولة الخلافة لبنزين محسن بأسعار أعلى قليلاً!
وقبل أن أواصل اسألتي بادرني السائق بالقول:
يبدو أنك (خطار) على الموصل، أي ضيفاً عليها.. ثم استطرد:
واضح عليك أجنبي، وشكلك لا يوحي بإنك من أهل الموصل!
الحق أقول إنني امتعضت في داخلي حينها من سؤاله، كوني، ورغم سنين الغربة، أحاول أن تبقى هيأتي شرقية، بل وبدوية حد النخاع، وأن لا اتطبّع بمن حولي، ما جعلني اجيبه وداخلي يغلي:
وهل شعري أشقر وعيناي زرقاوان!؟
فرد علي بصيغة الإعتذار:
لا عفواً، ولكن ما أعنيه معك حقائب، واسئلتك لا توحي بأنك من أهل الموصل!
تذكرت حينها إننا، هنا في بلادنا، كثيراً ما نشير إلى الغريب بإنه (أجنبي)، لمجرد كونه من محافظة أو مدينة أخرى، فهدئ روعي قليلاً، قبل أن اُمازحه بإجابتي:
نعم أنا أجنبي من الأنبار!
فضحكنا سوية، وسرعان ما بادرني بسؤال آخر عن سبب مجيئي إلى الموصل، فأبلغته بإنني (صحافي)، واكتفيت بهذه الإجابة المقتضبة، التي جعلته يستدير نحوي لولا المقود والمقعد اللذين يقيدانه، حيث سألني مستغرباً:
وأين تعمل؟!
أجبته بإنني صحافي مستقل، وكنت أعمل يوماً في الموصل كمراسل لعدد من القنوات، وذكّرته بتقارير خاصة بالموصل، كنت قد عرضتها في عدد من القنوات، فتذكر بعض من تلك التقارير، وقبل أن نستكمل حديثنا توقف بجانب إحدى البنايات قائلاً لي:
هذه هي المحكمة الكبرى يا اُستاذ!
سكنتُ للحظات، وبقيت أتأمل في واجهة البناء الذي تعلوه الراية المحمدية.. كُتبَ على الواجهة: (المحكمة الإسلامية).. انقبض صدري، قلبي أخذ ينبض بشدة من شدة الفرحة التي كتمتها بداخلي، فهاهي أولى مؤسسات دولة الخلافة التي أراها، يا لتحقق الحلم، يا لفخامة الإسم، (المحكمة الإسلامية)، ويا لجماله، ويا لبلاغته، لكن بقي شيء واحد يجب أن استشكفه وهو ما أنا هنا لأجله وهو: (يا لعدالته)، فهنا مربط الفرس كما يقال، فعند الإمتحان يُكرم المرء أو يهان، وعند العدالة تنهدم صروح أو تُقام!
وضعت في يد السائق خمسة آلاف دينار، حاول أن يعيد لي منها شيئاً، فرفضت، ثم شكرته وأنا أترجل، وقبل أن يغادرني، وكلمات الدعاء لا تفارق شفتيه، سألني آخر أسئلته:
يا اُستاذ، حينما أعود لعيالي سأقول لهم إنني التقيت بصحافي هذا اليوم وركب معي.. فمن أنت لأخبرهم باسمك!
أجبته بإبتسامة:
حسين المعاضيدي!
غادر السائق، فيما وضعت حقيبتي على ظهري، والتقطت كاميرتي وحاسوبي من على الأرض بعدما أنزلتهم من السيارة فرادى، وحينما التفت إلى جانبي وجدت لوحة عرض إعلاني ضخمة بجواري، طولها يتجاوز الأربعة أمتار، وارتفاعها بحدود الثلاثة أمتار، محمولة على أعمدة حديدية، تحمل صورة لجندي من جيش الخلافة وهو يدوس بقدمه مجموعة كتب، تمثل الدساتير الوضعية، في بلاغ صريح،وفصاحة ما بعدها فصاحة، لا خجل فيها، ولا مداهنة، ولا مواربة، في أن شرع الله هو من يُقام، ولو على الجماجم والأشلاء، وبقوة الحديد والرصاص والنار، فلا حكم يسود غير دستور الله، ولا صوت يعلو فوق صوت الخلافة!
*
حسين المعاضيدي



 
 توقيع :
\\\ جسمي علي البرد لايقوي --- ولا على شدة ألحراره \\\
\\\ فكيف يقوي علي حميم ---- وقودها الناس والحجاره \\\\


رد مع اقتباس