عرض مشاركة واحدة
قديم 05-31-2015   #8


خال العرب غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 895
 تاريخ التسجيل :  Jul 2012
 أخر زيارة : 06-13-2019 (12:34 AM)
 المشاركات : 2,109 [ + ]
 التقييم :  19088
لوني المفضل : Cadetblue
شكراً: 0
تم شكره 60 مرة في 47 مشاركة
افتراضي



هنا أرض الخلافة! حسين المعاضيدي الحلقة الخامسة

الحلقة الخامسة



يظن بعض الإخوة إن التأخير في نشر الحلقات هو لسبب ما يتعلق بضيق الوقت، أو لسبب آخر من منغصات الحياة..
لهذا أقول، كنت أتعمد تأخير كل جزء، ليس إهمالاً، ولا مبالاة مني، أو عدم إكتراث لأهمية ما اكتب حوله، بل لأني أنتظر ردود أفعال القراء حول ما مررت به، فإن وجدت ما أقوم بعرضه يأتي بالسلب من قضيتي، أو منهجي، أو أن يكون خنجراً مسموماً، لا سمح الله، في ظهر المجاهدين لأتوقف عن الكتابة في الحال وأعتذر لتيجان الرؤوس، فما أنا هنا إلا لخدمة المجاهدين ولتبيان الحق، فإن جاءت سهامي في غير موضعها فلا خير بي حينها، ولا بارك الله في قلمي، ولا في مسعاي!
فهيا إحزموا أمتعتكم معي وشاركوني الدخول إلى محكمة ليس من السهل أن تعيشوا أجوائها وتفاصيلها التي ما تزال خافية عن الكثير!
وقفت هناك، عند اعتاب المحكمة الإسلامية في الموصل الحدباء، الموصل التي جعلت العالم يقف على رؤوس أصابع أقدامه منذهلاً، من هول المفاجئة العظمى التي اطاحت بعروش الشيعة، حينما وجدوا انفسهم، ليس بين ليلة وضحاها، بل بين ساعة ودقائقها مشتّتين، مشرّدين، (مسطورين)، كما نقول بالعراقي، من شدة هول الصدمة التي تعرضوا لها على أيدي المجاهدين، بعدما اُصيب جسدهم، السقيم أساساً، بسكتات دماغية وقلبية مزدوجة أتت على ما تبقى من أفئدة خربة معتلة وعقول خاوية جوفاء، لتجسد على أرض الواقع المعنى الحقيقي لمصطلح (الصّدمة والترويع) وبكل أبعاده الزمانية وحيثياته المكانية..!
كنت انظر في كل زاويةٍ وصوب كل إتجاه، اتأمل كل التفاصيل، الصغيرة منها والكبيرة، فاحياناً أجد في ثنايا التفاصيل الصغيرة ما يثير حفيظتي الصحفية أكثر من التفاصيل الكبيرة وتشابكاتها التي تضيع في وسطها وبين خفاياها الجزئيات، والتي أحياناً تكون هي جوهر الأشياء..
هناك، وقفت اتأمل تلك اللوحة الكبيرة التي نُقش عليها (الدساتير الوضعية تحت قدمي) والتي تسطّرت تحت حذاءِ رجل من جنود الخلافة الإسلامية..
تمنيت لو إنني كنت استطيع حمل كاميرتي وإلتقاط صورة لهذه اللوحة، أو لأي مَعلمٍ آخر، لكني حتى تلك اللحظة تجنبت التعامل مع الكاميرا حتى يكون عندي إذن بذلك من جهة مسؤولة، فلا أزال لا أعرف القوانين الداخلية للدولة الإسلامية، ولا اريد لأي شيء أن يعكر صفو رحلتي هذه، رغم أهمية الصور في مثل هذا الأمر، خصوصاً أن رحلتي أردت لها أن تكون توثيقية بالدرجة الأساس..!
إقتربت من باب المحكمة، وقبل أن أهم بالدخول، شدّني منظر حراسها المرابطين في شارع فرعي أمام المحكمة، والذي يجاوره الشارع الرئيس الذي تسلكه السيارات الذاهبة والآيبة من أمام المحكمة..
كانت القطعة الكبيرة التي كُتب عليها اسم المحكمة (المحكمة الإسلامية) تجعلك تشعر إنك في عالم آخر، فهناك استحضرت زماناً غير زماني، وعالماً غير عالمي، واُناساً غير الذين عرفتهم طيلة حياتي السابقة، وقفت قبالة المدخل الأمامي بالضبط، ناظراً تارة بإتجاه القطعة الكبيرة، التي تزيين بناية المحكمة، وتارة اُنظر إلى تلك اللافتة الكبيرة المنتصبة بجانب المحكمة، والتي باتت في زاوية أخرى على يميني، تلك التي تدوس فيها قدم مجاهد كل الدساتير الوضعية، ليخبرا المار من هنا، أو الداخل إلى المحكمة، أن لا حكم بعد اليوم في أرض الإسلام إلا حكم الله، ولا دستور غالب إلا دستور رب الأرض والسماء.. وحينما أشحت بنظري إلى شمالي أبصرت الحراس، وأبصروني، فخاطبني أحدهم قبل أن أخاطبهم:
تفضل يا أخ، هل من خدمة نؤديها لك!؟
أجبته:
أبحث عن المحكمة الإسلامية!
كنت أظن إنهم سيقومون بتفتيشي، وتفتيش محتوى حقيبتي، كوني قد دخلت ربما إلى دائرة أمنية، لكنه رد عليّ، بعدما نظر بعينه إلى القطعة التي تعلو بناية المحكمة وتشير إلى اسمها، فقال متبسماً، وكإنه يقول لي، كل حجم هذا الاسم ولا تراه:
قد وصلت.. ومرحباً بك!
كانت كلماته على قلة عددها وبساطتها، إلا إنها كانت أعقد لي من خارطة سايكس وبيكو لحدودنا، لكني وجدت إجابته الثانية، حول سؤالي عن مكان وجود القاضي، سهلة وغير مركبة، كبساطة إزالة حدود سايكس وبيكو بجرافات الدولة الإسلامية، حيث قال لي:
القاضي في الداخل، تفضل واسأل الإخوة في الداخل، وهم سيرشدونك إلى المكان الذي تريده..
قالها هكذا، وبكل بساطة، فلا شيء مما كنا نسمعه عن إرهاب وخوف يتملّكنا ونحن نقترب من دوائر الدولة الإسلامية ومؤسساتها الوليدة، ولا رعب أو رعشة أو رجفة تمسك بتلابيبنا ونحن نتحدث إلى أحد رجال الدولة الإسلامية..!
أثناء وقوفي وحديثي مع الحراس الأربعة للمحكمة الإسلامية راحت ذاكرتي تستعرض في لحظات كل ذلك الذي الكم الهائل مما يقال عن حجم (إجرام) الدولة الإسلامية، وإبتعادها عن (الإسلام الحقيقي)، وعن دستور الله، سبحانه وتعالى، كما تروّج لذلك أنظمة الحكم العربية والعالمية، التي جعلت من (جون كيري) هو خطيب المنابر في بعض بلداننا الإسلامية، ليعلمنا الإسلام المعتدل، الذي يرضي أميركا والغرب وحكام العرب المعيّنين بقرار (بنتاغوني)، وممهور بختم البيت الأسود الأميركي من خلف سبعة أبحر..
ذاكرتي التي تسرق مني لحظات التركيز باتت تطرح إستفهامات تفقدني فيها التركيز، إذ أخذت تنغز بي كإبرة صينية، وأنا اقف مع الحراس أمام باب المحكمة، متسائلة إن كانت هذه المحكمة ذات عدل إلهي، تحكم، بالفعل، بشرع الله، أم إنها ديكور، ليس إلا، لدولة وليدة ترفع شعار (إن الحكمُ إلا لله)!!
كان حراس المحكمة يقفون ويتحدثون إلى بعضهم البعض حينما قاطعتهم، كانت لهجتهم الموصلّية هي الطاغية في الحديث، فبعض الكلمات والمصطلحات لأبناء هذه المدينة تفرض نفسها وتصل إلى مسامعك من مكان بعيد، تماماً كرائحة الكباب الشهي الذي قدمه لي ذلك المجاهد، في تقاطع النبي يونس، لحظة وصولي إلى أرض نينوى..
أما من تحدثت معه وتحدث إليّ فلم يكن من أبناء الموصل، بل جزّراوي حدّ النخاع، أو هكذا خمّنت، فلم اسأله عن أصله، ولا نقبت عن فصله، لكني شممت فيه عبق ورائحة الجزيرة، وفي عينيه لاح لي بريق الحرمين، وفي لسانه ومخارج ألفاظه وجدت سحر نجد وحايل الحجاز..
كان هناك من يقول لي دائماً، حبذا لو حدثتنا بلهجتك العراقية، ففيها سرٌّ وجمال، لكني كنت أرى لهجتي العراقية، التي هي في عيون البعض معزوفة موسيقية لم يصغها فنان، كنت أراها، ولا زلت، لا تمثل شيئاً أمام سحر وعذوبة لهجة أبناء جزيرة العرب!
بقي جميع الحراس صامتين، حينما اخذت اسأل والمجاهد الحارس يجيب..
لم يكن الحديث طويلاً، فانا، رغم رغبتي في الحديث إلى المجاهدين، إلا إنني كنت متلهفاً لدخول المحكمة، والوقف على أبواب التاريخ الجديد، الذي تكتبه ثلة جهادية جعلت لنا من أرض الخلافة قبلة مكانية، زيارتها والهجرة إليها واجب كل مسلم اليوم، في مشارق الأرض ومغاربها، ولا يغنينا عن زيارتها إلا حج بيت الله الحرام، وأقصانا السليب في قدسنا الأسيرة..!
وأنا أتجه إلى داخل المحكمة، جاءني تساؤل من الخلف، فتوقفت، وكان ذات المجاهد الجزّراوي من سألني، فكلماته لا تكشف عن هويته فقط، بل وتجعلني أتمنى لو اُقبّل الأرض التي تدوسها قدمه، فالعزُّ كل العزّ، أجده في تقبيل الأرض التي تطأها وتدوسها أقدام المجاهدين!
قال لي:
من أين أنت يا أخي!؟
لم يكن السؤال هو من موجبات وأسياسيات عمله، وإلا لكان قد سألني إياه حتى قبل أن يدلني على كيفية الدخول إلى المحكمة والوصول إلى القاضي، فأيقنت أن الإستفهام من باب الفضول وحب معرفة الشيء، تماماً كفضولي الصحفي الذي يطغى على كل أشيائي الأخرى، فضول جعلني اتبع سهام الباطل لأعرف منها أين يوجد الحق، وهو ذات الدافع الذي جاء بي من آخر الأرض إلى أخطر بقعة على ظهر الكرة الأرضية، كما يوصّفها، ليس الإعلام فقط، بل وكل العالم من حولنا:
أجبته، بعدما استدرت إليه بكامل جسدي:
جئت من أوربا!
فأبتسم ضاحكاً ثم أعقبها بالقول:
خمّنت ذلك!
قلت، وبإستفهام صريح، وعقدُ حاجبين، أو هكذا تصورت قسمات وجهي:
كيف عرفت؟!
ردَّ عليّ:
كاميرتك ونوعها تتحدث بالنيابة!
وهنا أخذت انظر إلى كاميرتي، التي كنت أحملها في إحدى يداي، فيما كانت اليد الأخرى تحمل حاسوبي (اللابتوب)، رفعتها بيدي للأعلى قليلاً، وأخذت اتفحص حقيبتها، رغم إنها معي منذ سنين، ضحكت، وقلت له:
أنا صحفي وهي سلاحي، مثلما سلاحك معلقٌ في كتفك، فأخذ ينظر هو بدوره إلى بندقيته، وتبادلنا الضحكات، ثم غادرته، متجهاً إلى داخل المحكمة، شاكراً له ترحيبه الحار حينما اسمعني كلمة ترحيبية في ظهري وهو يقول:
(مرحباً بالإعلاميين)!
إلى بطن المحكمة الإسلامية كانت وجهتي التالية، فتخيلت لوهلةٍ إنني سأكون في قاعة لا يجلس فيها سوى القاضي، وبعض الملتحين من رجال الدولة الإسلامية، و(الفرّاش)، أي عامل التنظيفات المكلف بمسح أرضية المحكمة، وكراسي ومقاعد فارغة لا تزال جديدة، كون لا أ حد يجلس عليها إلا ما ندر، فالمحكمة الإسلامية في نظر كثير منا، نتيجة الكم الهائل من الإعلام المزيف، الذي يضحك على عقولنا نحن السُذج، قد رسم تلك الهالة الضبابية في مخيلة كل منا.. لكني أبصر هنا، وأنا اقف الآن عند مدخل المحكمة، قاعتها وهي تعج بالكثير، نعم لم اُشاهد نساء، لكني وجدت كثير من الناس من غير الملتحين، ووجدت كثير من الشباب المتواجد بداخلها يرتدون البنطال، ويلبسون الجينز والتيشيرتات، فضلاً عن الدشاديش (الجلابيات)، فكيف يقولون إذن أن كل هذه الملابس باتت محرمة في (أرض الإرهاب)، كما يسمونها!! لكن الإستفهامات تتضح حينما تذكرت كيف إنهم يروجون لأكاذيب وإفتراءات حُرمة وضع الطماطم (البندورة) مع الخيار في كيس واحد، كون الطماطم مؤنثة والخيار مذكر، وكيف أن الحلاقة ممنوعة في أعراف وقوانين المجاهدين، والأمر ذاته ينطبق على حُرمة جلوس النساء على الكراسي، كون ذلك لا يتوافق مع الشريعة، بحسب قول الإعلام المسخ، الذي يصور لنا أن المجاهدين لا يجيدون من أمور الحياة غير إستعمال السلاح، وتأبط الأحزمة الناسفة والمتفجرات، ولا شيء غير ذلك من أمور الحياة، مع إنهم يحكمون أرضاً تزيد على المائتين وخمسين ألف متر مربع، أي بما يعادل، أو يزيد بقليل، على مساحة (بريطانيا العظمى)، كما يطلقون عليها، ويقيمون شرع الله في أكثر من إثني عشر مليون مسلم، فضلاً عن أبناء الأقليات والديانات الأخرى التي منحوها الأمن والأمان، ويحمونها من غدر ثعابين الشيعة والصلبان والعربان!
وقفت بباب المحكمة انظر إلى الناس بداخلها، وخطواتهم المتنقلة بين هذا القسم وذاك، كانت حركة مطمئنة، فالناس تسير بخطوات متباينة، فهذا يسير بسرعة، وذاك على مهل، وآخر جالس على كرسي، وآخر يقف مستنداً إلى جدار، وذاك يكلم مجاهداً، وبيده أوراق، وآخر يحمل في يده كيساً أجهل محتواه، والكثير من الوجوه التي لا تعلوها قترة، بل طبيعية كوجه أي إنسان، فلا أرى ملامح خوف، ولا تجليات رهبة، ولا أي من ذلك الجنون الأفاك الذي تلبّس أدمغتنا التي حجّرتها الشائعات والأقاويل وتضليل الإعلام!
بجانب الباب حيث وقفت أراقب كل هذا التشكيل غير المتجانس من الناس، أبصرت مكتباً بقربي يجلس عليه رجل بلباس مجاهد، لم يكن يحمل السلاح، وأمامه مجموعة أوراق، وقلم، وقطعة من المعدن يثقل فيها أوراقه.. إتجهت إليه وسألته بعد السلام:
أين القاضي!؟
قال لي:
لأي شيء تريده!؟
أجبته:
لا أدري!
فكان ردي ربما مضحكاً له، أو لغيره، لكنه لم يضحك، واكتفى بفتح عينيه أوسع مما كانتا عليه، فضلاً عن التركيز أكثر في وجهي!
استدركت.. أريد مقابلته فقط!
فظن، وهذا ما ظننته، أن عندي قضية خاصة، لا أريد أن يطلع عليها أحد سوى القاضي، وهو ما جعله يشير لي برجل كان يقف بوسط القاعة، وحوله مجموعة من الأشخاص، وكان يتحدث إليهم، وحينما سألته، أي واحد من مجموعة الرجال أولئك، قال لي:
إنتظر ساحدثه بشأنك!
ثم إتجه إلى الرجل الذي كان يتحدث لمجموعة أخرى، بينهم من كان يلبس زي الجهاد (القندهاري)، ثم عاد برفقته إليّ..
قبل أن يصلني ظننت أنه القاضي ربما، وأنه يتواجد هنا في وسط الناس لسبب ما، لكنه، وحينما وصل وسألني عن مبتغاي، تبين لي إنه ليس بالقاضي..!
كان الشيخ، الستيني، يرتدي دشداشة (جلابية) ترتفع عن كعبيه قليلاً، لونها يتوزع بين الأسود والرمادي، لحيته تتحدث عن وقاره بالإنابة، وسنه مبتسماً، حتى دون كلام..
رحب بي، وسألني عن قضيتي، فأجبته، بعد رد التحية، أن لا قضية لي، وإنما جئت من أقصى شمال أوربا بحثاً عن الحقيقة، وأريد نقل صورة ما يجري في أرض الخلافة للعالم من حولنا، كنت اتحدث إليه، وكإنه القاضي، مع إنني أعلم إنه لم يكن هو القاضي..
عاد ليرحب بي ثانية بحرارة أعلى، ثم إلتزم الصمت قليلاً، وكأنه يفكر في أمر ما، ثم التفت لأحد الأشخاص، ممن كان يتحدث معهم، وطلب منه أن يصطحبني إلى (الشيخ)، فهو المختص في مثل هذه الأمور، لكنه سرعان ما غير رأيه، وقال لذلك الشخص:
عدّ بارك الله بك، أنا سأتكفل بإيصال الآخ المهاجر إلى الشيخ!
أمسك بكف يدي أول الأمر، وصاحبني في سيره، لكنه سرعان ما انتبه إلى إنني أحمل الكاميرا وحاسوبي الشخصي في يدٍ واحدة، فمدّ يده وتناولهما، رغم رفضي أن يحملهما معي، لكني فشلت أمام إلحاحه وإصراره على حملهما نيابة عني!
إتجه بي إلى باب المحكمة، ذلك الذي دخلت منه، ليخرج بي من هناك إلى حيث (الشيخ)، الذي لم يسمه، فسرت معه، وعيني ترقب تفاصيل المحكمة التي لم تشبع عيني من التلذذ بمناظرها الحية وزواياها وأركانها وشخوصها، بل ولم يتسنَ لي حتى معرفة نوع القضايا التي تتعامل بها، لكني كنت متيقناً أن لقائي بـ(الشيخ) ربما سيكشف لي ما خفي عني، وعن العالم كله، وأن ذلك الشيخ سيضع كل نقاط تساؤلاتي على جميع حروف إستفهاماتي!
إتجهت مع الشيخ إلى يمين المحكمة، سيراً على الأقدام، سرنا قرابة الأربعين متراً، وتماماً في أحد زوايا المحكمة كانت هناك نقطة تفتيش، وحارساً يقف بجانب عارضة حديدية، تسد مدخل طريق، يحمل بندقية بنصف أخمص، كما تسمى..
سأله الشخص الذي كان يرافقني إن كان (الشيخ) متواجداً، دون أن يسميه، فاكد له وجوده، فطلب منه الإتصال به وإبلاغه بإن هناك صحفياً ومراسلاً إعلامياً يريد مقابلته، وهنا تحول نظر الحارس إليّ، بعدما كان جُلّ تركيزه نحو جهة الشيخ، فرحب بي أولاً، ثم أمسك بجهاز اللاسلكي الذي كان معلقاً على صدره، وأخذ يتحدث مع أحدهم طالباً منه إيصاله بالشيخ، فجاء صوت الشيخ يعلن ترحيبه على مسمعٍ منا!
طلب مني الحرس ترك حقيبتي وكاميرتي وحاسوبي في كابينة بجانبه، تشبه إلى حد كببير مكاناً للهاتف العمومي، لحين عودتنا، طالباً أخذ ما أحتاجه منها في مقابلتي، فتركت كل أغراضي، دون آخذ منها شيئاً، بإستثناء محفظة جيب، تحوي مجموعة من هوياتي التعريفية وهاتفي الجوال، الذي لم يكن يعمل نتيجة توقف شبكات الهاتف المحمول في عموم الموصل، ما خلا بعض المناطق المرتفعة التي قيل أنه بالإمكان الحصول على شارة ضعيفة للإتصال من فوقها!
سرت برفقة ذلك الرجل الستيني في طريق أمتد لمسافة تقرب من المائة وخمسين متراً.. كانت هناك بنايات حديثة هنا وهناك على إمتداد ذلك الطريق، بعضها لم يكتمل بنائه بعد، وبعضها إكتمل مع عدم إكتمال دواخل البناء، وهذا ملاحظ من مناظر الشبابيك والأبواب، في حين أن هناك بعض الأبنية قد تم الإنتهاء من إنجازها، كالبناية التي دخلناها، والتي يقع فيها مكتب (الشيخ)، حيث مقصدي!
كانت القطعة التي هي في واجهة البناية التي دخلناها تحمل اسم (المحكمة الإسلامية) كذلك، ولم أعرف حينها إن كانت تلك فرعاً للمحكمة الرئيسية، التي دخلتها أول وصولي، أم أنها محكمة أخرى بإختصاص ثانٍ، أم أن الأمر كله عبارة عن مجمع محاكم الدولة الإسلامية!
حينما دخلنا لتلك البناية إستقبلنا مجموعة حراس، كانوا يتأبطون مسدسات فقط، بعضهم من التركمان، حيث لاحظت حديث بعض الحراس باللغة التركمانية، القريبة من اللغة التركية..
بعد السلام، والمصافحة، سارَ أحد الحراس برفقتنا إلى حيث غرفة (الشيخ) الذي كان بإنتظارنا، حتى دخلنا عليه، فخرج من خلف الطاولة التي كان يجلس عليها ورحب بي، اولاً ثم تفرغ للترحاب بالرجل الذي كان برفقتي، والذي عانقه بحرارة، وكلمات العتب لا تفارق محياه، كونه لم يره منذ أيام، ثم التفت إليّ شاكراً لي، كوني السبب في رؤيته لذلك الرجل، ثم ضحكنا ثلاثتنا للموقف..
طلب منا الجلوس، وقبل ان يلتفت إليّ، راح يحدث الشخص، الذي جاء بي، عن سر إنقطاعه لأيام، فأكد له بإن كثرة الأعمال والمسؤوليات والمشاغل هي السبب، وهو ما يجعله يستعجل الذهاب، بعد تسليمه الأمانة، مشيراً إليّ، فقد كنت أنا أمانته التي أوصلها للشيخ، فرحب بي الشيخ ثانية، واعداً بحل قضيتي أياً كان شكلها!
قال الرجل الستيني الذي أتى بي إليه:
الأخ صحفي، وجاء من أوربا إلى أرض الخلافة، وفي جعبته الكثير مما يريد، واتركه لك، فأنا لا أصلح لهذا الأمر، قالها ثم اعقبها بضحكة، ردها له الشيخ بإبتسلمة عريضة، وزادها بقول:
أنت الخير والبركة يا حاج!
بعدها إلتفت إلي (الحاج) الذي لم اسأله عن اسمه، ولا عن عمله، واستئذن مني بالعودة إلى عمله، وقبل ذلك كان قد استئذن من الشيخ، تاركاً إياي لأستكشف بنفسي وعلى طريقتي ما جئت من أجله!
سألني (الشيخ) بعد عودته إلى الغرفة، إذ كان قد رافق صاحبي إلى باب البناية:
كيف تمكنت من الوصول إلى هنا..؟!
سألته إن كان يقصد الموصل، أم أرض الخلافة، فرد عليّ:
الإثنتان، مع إبتسامة على محياه..!
حدثته عن رحلتي، وما تعرضت إليه فيها من صعاب، ومضايقات، وإعتقال، وعما جرى معي حتى وصلت إلى حدود أرض الخلافة، والذي لم أتحدث عن وقائعه وأحداثه في سلسلة حلقاتي هذه لأسباب، مؤجلاً إياه لزمن لاحق، بإذن الله تعالى..
ثم اعقبها الشيخ بالسؤال عن الهدف والغاية التي جئت من أجلها..
صمتُّ لبرهة، فما أكثر تعدد أهدافي وتنوع غاياتي، لكنني سأذكر هنا بعضٍ منها، وليس كلها، فبعضها يجب تسليط الضوء عليه، وبعضه الآخر أريده مؤونة لي مع ربي..
طالت لحظات صمتي، حتى قال لي:
هل نسيت، وتحاول التذكر ، أم ماذا؟!
فتبسّمتُ أنا هذه المرة، وأخذت اسرد له ما في جعبتي..
ركزت على أهم ما في جعبتي هذه، ألا وهو القضاء، والحُكم، والسجون، وطبيعة المعتقلين وإتهاماتهم..
فقال لي:
لديك الكثير مما تريد معرفته..!!
قاطعته، بل هو قليل من كثير، فالعالم لديه تصور آخر عن عدالة الدولة الإسلامية..
قال لي:
رغم أهمية توافد المقاتلين والجنود إلى أرض الخلافة للإنضمام إليها، إلا إننا بحاجة أيضاً إلى الإعلاميين الصادقين، ليجهروا بالحق، وليكشفوا عن حقيقة ما يجري، سواء في المعارك، أو في ولايات الدولة الإسلامية..
قلت له:
ولهذا انا هنا، ولا يزال غيري الكثير، ممن يخشون المجيء، ولابد من وضعهم، وبقية العالم في حقيقة الوضع..
قال لي:
مرحباً بك، وإن شئت ارسلناك إلى قواطع العمليات، لتطّلع بنفسك على المعارك مع بقية الكوادر الإعلامية..
أسعدني كثيراً بكلامه ذاك، لكنه اعتدل في جلسته، قبل أن يضيف:
لكن هناك أموراً لابد من أخذها بنظر الإعتبار!
وكنت متكئاً على الكرسي، الذي كنت أجلس عليه، فانحيت قليلاً إلى الأمام، وشبكت يداي، ثم سألته:
ضعني في الصورة..
وقبل إجابته اعترفت له إنني حاذرت من إلتقاط الصور طيلة الوقت منذ وصولي إلى مشارف الدولة الإسلامية، ولغاية تلك اللحظة، بإستثناء صور ألتقطتها لحركة الناس في الأسواق من نافذة الفندق الذي قضيت فيه ليلتي، تلك الليلة التي لن أنسى أحداثها، وما جرى لي فيها.. ثم واصلت:
اُريد خارطة طريق، لكن قبل المعارك وقواطع العمليات لي مطلب!
وكنت أريد أن اُحدثه بأمر المحكمة وزيارة السجون ولقاء المعتقلين والقضاة إن أمكن، لكنه قاطعني، قبل أن اُكمل ما أردت الحديث عنه، قائلاً لي:
أخينا الكريم:
قبل كل هذا وذاك عليك بمقابلة القاضي، فلا نستطيع القيام بأي أمر، سواء التحاقك بقواطع العمليات، أو بحرية التجوال في ولايات أرض الخلافة، دون أمر من القاضي، والأمر يقتضي مقابلتك له، ولو كنت مسلماً عادياً، جاءنا مهاجراً يريد الإقامة في أرض الخلافة الإسلامية، لأمّنا لك كل مستلزمات حياتك من هذه اللحظة، ولو كنت مسلماً جاءنا مهاجراً للإلتحاق بسوح الجهاد لقلنا لك إذهب إلى معسكرات الإخوة المنتشرة في كل مكان والتحق بها، وهم سيتولون جمع المعلومات عنك، فضلاً عن إستعانتك بمن يزكيك من المجاهدين، ليكون حالك حال بقية المهاجرين الذين يلتحقون كل يوم بدولة الخلافة وبمعسكراتها، لكن كونك إعلامياً وصحفياً، ووصلت من الخارج، فلا نستطيع البت بهذا الأمر دون أمر وقرار من القاضي، خصوصاً إن لديك قائمة طلبات.. قالها بطريقة المزح ثم أخذ يضحك بهدوء، فما كان مني إلا أن شاركته الضحك، لكن ضحكي كان لأمر آخر، وهو إنه تحدث عما أريده أنا بالضبط، وأبحث عنه، والذي كنت أنوي مفاتحته به، ثم قلت له:
سبحان الله، وهذا ما أريده أنا، مقابلة القاضي..!
فقال لي:
لكن الأمر قد يطول..!
كم يعني؟
ربما هذا المساء، وربما يوم غد، فهناك الكثير من القضايا والقاضي وقته ضيق..
قلت:
وهل سابقى انتظر هنا؟!
فأجابني:
هل لديك مكان تقيم فيه؟!
وأجبته بدوري:
كلا، فليس لي سوى الله، من بعدكم..!
فطلب مني الإنتظار قليلاً ليجري بعض الإتصالات، وهنا قطع حديثنا أحد الحراس، الذي أخبره أن شخصاً يريد مقابلته، ثم ذكر له اسماً، فأمر بإدخاله، فدخل عليه، فسلّم وأعطاه يده مرحباً به، ثم أخذ الرجل يهمس مع (الشيخ)، الذي أخذ يتمتم بـ (لا حول ولا قوة إلا بالله) ويُكثر منها..!
وهنا إلتفت إليّ (الشيخ) وطلب مني الإنتظار قليلاً في الإستعلامات، لإنه كما قال لي سيكون مضطراً لإجراء محادثة عبر اللاسلكي، فهمت من خلاها إنه لا يريد لأحد الإستماع لتفاصيلها..
بعدها بدقيقتين تقريباً، أو ما يزيد عليها بقليل، خرج (الشيخ) ذو الطول الفارع، واللحية الكثة، والبشرة المائلة للإسمرار، وهو الذي إقترب عمره من الخمسين عاماً، إن لم يكن قد بلغها بالفعل، وهو يحمل جهاز اللاسلكي الذي نادى عبره..
وما هي سوى لحظات حتى كان هناك جندي، بلباس (خاكي) اللون، على طريقة البزة القندهارية، مع كامل سلاحه، فقال له الشيخ:
تذهب الآن، ومعك مجموعة من الإخوة، وتمرون بطريقكم على الشيخ، ويقصد به القاضي، حسبما فهمت لاحقاً، وتأخذون منه أمر إلقاء القبض الذي استصدره الآن، وتصطحبون معكم أربعة شهود على الأقل، وترافقون الأخ الذي سيبين لكم العنوان، وكان يشير إلى الرجل الذي كان يتحدث إليه همساً..
ثم ختمها بقوله:
توكلوا على الله، وإن شاء الله لن تجدوا شيئاً!
لم يكن الأمر ليحتاج إلى متخصص ليعلم إنه إنما كان يتحدث عن التبليغ عن جريمة زنا..
وبعد الإنتهاء من أمر هذا الرجل، إلتفت إليّ الشيخ، ثم ابتسم قائلاً:
يا مرحباً بك..
ثم طلب مني مرافقته إلى غرفته ثانية..
سار أمامي، فانتبهت إلى إنه كان ينتعل حذاءاً خفيفاً، وكانت قدمه اليسرى مربوطة بلفاف أبيض، ربما نتيجة إصابة ما، لكنه كان يسير عليها بشكل شبه طبيعي، وقبل أن يجلس نادى على أحد الحراس، ثم جلس وراح يكتب على قصاصة، صفراء اللون، ثم أعطاها للحارس، وقال لي:
إخينا الكريم، بخصوص ما طلبته منا، فللأسف ليس لدينا صلاحية في مثل هذه الأمور، لهذا سيتم إرسالك إلى القاضي، وهو من سيبت في الأمر ويحدد ماهو ممكن..
ثم قال للحارس تأخذ أخينا الصحفي إلى المحكمة لمقابلة الشيخ..
سألته:
ومن هو الشيخ؟!
فرد عليّ:
القاضي..
ثم أضاف مبتسماً:
ألم تُرد مقابلته؟!
فأجبته، بعدما بادلته الإبتسامة:
بالتأكيد!
سألني إن كان معي شيء، فاخبرته بأمر الحقيبة والكاميرا واللابتوب اللواتي تركتهن في غرفة الإستعلامات عند بوابة الدائرة، فأمر بإحضارها على الفور، وما هي إلا دقائق حتى كانت عندي..
ودعته مصافحاً إياه، ثم غادرت غرفته برفقة الحارس، الذي حمل الكاميرا واللابتوب، في حين حملت الحقيبة بيدي هذه المرة، ولم أضعها على ظهري، خصوصاً إنه قال لي إننا سنتركها في الأمانات حالياً، لحين عودتي من المحكمة، بعد مقابلتي القاضي..
خرجنا من عند (الشيخ)، الذي كان اسمه إما (أبو بلال)، أو (أبو أحمد)، حيث تداول الحراس بكثرة هذين الاسمين، ولا أدري بالضبط أيهما يعود له، وسرنا بإتجاه باب البناية، ثم استدرنا من زاوية الباب مباشرة، لنسلك طريق يسمى في العراق بـ (الممشى)، الذي يتم عمله بجانب جدران البيت من الخارج ليكون أشبه ما يكون بالطريق حول الدار كلها، وعادة ما يحوي باطنه أنابيب المياه الموصلة للدار، أو أنابيب المجاري، أو غيرها، حيث يتم تبليطه بعد ذاك ليكون أشبه بطريق يحيط بالبيت كالسوار..
أثناء سيرنا، قال لي الحارس، الذي كان يكثر من النظر إلى وجهي:
سمعت بإنك الصحفي حسين المعاضيدي.. فهل هذا صحيح؟!
قلت له، متسائلاً:
وهل تعرفني؟!
ردَ عليّ بحماس:
بالطبع، فأنا كنت من أشد المتابعين للمنتديات الجهادية، وقد قرأت لك الكثير من المقالات في منتديات الفلوجة، ولكن ذلك قبل سنين، لكني اسمع إنك لا زلت تكتب عنا..
حين قال (عنا) لم أكن أعلم إن كان يعني عموم المجاهدين، أم الدولة الإسلامية تحديداً، ولإنني كنت، ولا أزال مناصراً وداعماً للإثنين، فما هؤلاء إلا جزء من أولئك، لهذا أجبته:
وكيف لا اكتب عنكم وأنتم تاج الرأس!
ثم ختم وصولنا لمكان آخر بقوله:
يسلم رأسك!
حينما وصلنا إلى غرفة أخرى، تحوي جهاز كمبيوتر وكان يجلس فيها أحد المجاهدين، قال له:
أحضرت لك حسين المعاضيدي لتصوره..
ثم التفت إليّ قائلاً:
سابقاً كنت أنت من يصور، والآن نحن سنصورك، ثم أخذ يضحك، فضحكت لضحكته التي كنت أشعر إنها تصدر من قلبه لا من فمه!
رحب بي الشخص الذي كان يجلس خلف جهاز الكمبيوتر الضخم، الذي كان يجلس خلفه.. ثم طلب مني الجلوس على سرير كان بجانبه، فيما بقي الحارس الذي كان برفقتي يحمل كاميرتي واللابتوب..
أخذ جندي الدولة الإسلامية، الذي كان يجلس خلف الكمبيوتر، يكتب قليلاً على جهازه، ثم أخرج كاميرا فوتوغرافية صغيره من درج المكتب، ثم طلب مني الجلوس قبالته على كرسي ليلتقط لي صورة فوتوغرافية، قائلاً لي:
هذه من الإجراءات التي تسبق العرض على القاضي، فلم اُمانع، ولم أكن أعرف حقيقة هل أن ممانعتي ستكون مقبولة أم لا، في حال حدثت أم لا، لكن وبكل الأحوال، فلم يكن عندي مانع من هذا الإجراء، فأنا اُدرك إنني دخلت دولةً، يُعدُّ الجانب الأمني والإستخباراتي فيها هو أحد ركائزها الأساسية..
مسؤول وحدة التصوير، كما فهمت من وصف الحارس الذي كان يرافقني، إنتهى من إلتقاط الصورة لي، ثم شكرني، وأبلغ الحارس الإنتهاء من الأمر.. ثم طلب مني الحارس مرافقته، ولم أزد على ذلك المكان سوى بضعة خطوات من بابه، حتى وقفت مع مجموعة من المجاهدين، كانوا يقفون على شكل دائرة وهم يتحدثون، وكان بعضهم يضع ما تسمى في بلاد الرافدين بـ (الكلِيتةَ)، وهي غطاء الوجه، الذي لا يكشف سوى عن العينين، فيما كان قسم آخر حاسر الرأس، ولا يضع لثاماً، وكان بجانبهم خمسة أشخاص، قد رصفوا بجانب جدار قاعة ذات باب واسع وكبير، وموضوع فيه مجموعة من الأقفال، وعليه قطعة مكتوب عليها:
يمنع الحديث مع النزلاء!
علمت حينها إنني بجانب قاعة تحوي سجناء، وهو ما أكده وجود الأشخاص الخمسة الجالسين بجانب جدار القاعة، والذين تم عصب أعينهم، وحلاقة شعر رؤوسهم بالكامل، ولاحظت أن بعض الشعر لا يزال على ملابسهم ما يعني إنه قد تمت حلاقتهم قبل لحظات..
قدمني الحارس إلى بقية زملائه، قائلاً لهم:
سيرافقكم الأخ الصحفي حسين المعاضيدي إلى المحكمة..
فقال أحدهم:
وما هي جريمته؟!
فقلت، وقبل أن يرد الحارس بالنيابة عني:
معاذ الله أن أرتكب جريمة.. أنا هنا من أجل (قضية)!
فرد عليّ:
كل من يأتي إلى هنا لديه قضية، ويقصد بقية السجناء!
فقلت له:
هل تُجزم أن كل من يأتي إلى هنا مذنب!؟
كان ذلك إختباراً مني، وهو أول مراحل البحث عن إستفهاماتي، فلقد بدأت الآن مرحلة الجد على ما أظن، فطريقة التعامل مع المتهمين هي أولى لبنات العدل، أو الظلم!
فرد عليّ، وكإنه أدرك المغزى من سؤالي:
اعتذر لا أقصد ما فهمته مني، لكني أقصد إن كل شخص جاء إلى هنا لديه قضية، لكن من يُحدد الجرم، أو الذنب، هو القاضي، وهو من يمنح البراءة! قالها وكإنه فهم من سؤال الذي ارفقته بنظرات إستغراب وتعجب من كلامه مدى فداحة ما قاله أول الامر، أو ما فهمته منه على الأقل!
وهنا تدخل الحارس الذي كان برفقتي قائلاً:
اُستاذ حسين، أنت علم، وتاج على الرأس!
ثم تساءل حارس آخر:
والأخ الصحفي من أين؟!
فلم يمنحني الحارس، الذي كان لا يزال يحمل كاميرتي وحاسوبي مجالاً للرد، حيث رد بنفسه:
أخينا الصحفي حسين المعاضيدي جاء من أوربا إلى أرض الخلافة..
قالها بسعادة غامرة، وكإنه هو من دخل أرض الخلافة الآن، ولست أنا!
كان يقف قبالتي شخص له لحية طويلة، غزاها الشيب، حتى نافس بياضه سوادها، ضخم الجسد، متوسطة الطول، عمره شارف على الستين.. قال لي:
يكفيك يا (أبو علي) إنك من عشيرة المعاضيد، التي تميزت عن سائر العشائر بإنها أول من بايعت دولة الخلافة الإسلامية، وهي أولى القبائل التي ناصرت عن بكرة أبيها، وأنت هنا بين أهلك وإخوانك، وإن شاء الله بعد عودتك من عند القاضي ستلتحق بسوح القتال ليكون قلمك وكاميرتك هناك مع الرصاص!



ومع إنني أعلم علم اليقين أن هناك من عشيرتي من لا يزال أعمى البصر والبصيرة، ولا يزال بعض منهم منضوين في خندق الشيعة وأميركا، كحال كثير من عشائر أهل السنة والجماعة، إلا أن حديثه عن دور القلم والكاميرا في هذه الحرب، ومقارنتها بالرصاص، هو ما شد إنتباهي، بل وجعلني اُدرك أن أي جندي من جنود دولة الخلافة الإسلامية يدرك أهمية القلم والكاميرا في هذه الحرب الكونية، التي يشكل فيها الإعلام عمودها الفقري، تماماً مثلما يشكل الرصاص قلبها النابض!



طلب أحد الحراس مني خلع معطفي، (القمصلة) كما نُسميها بالعراقي، التي كنت أرتديها حتى لا يعلقُ فيها الشعر!
سألته أي شعر تقصد!؟
فقال:لأحلق لك رأسك!
قلت له:
لن أقبل أن تحلق رأسي، ولن يكون ذلك، فلست مُتهماً.. قلتها بعصبية بوجهه!
فقال الحارس الذي كان برفقتي:
إنتظر إنتظر..
ثم وضع كاميرتي وحاسوبي على الأرض وغادر مسرعاً، من الجهة التي أتينا منها..
وما هي سوى لحظات حتى عاد، وهو يقول:
لا، لا، الأخ حسين غير مشمول بهذا، والشيخ يقول يُعامل معاملة خاصة..!
فهمت، على إثر ذلك، أن الحارس عاد إلى (الشيخ)، واستوضح منه هذه التفاصيل، حيث تبين أن الأوامر تقضي بحلاقة (نِمرة زيرو) رأس كل من تكون له تهمة هنا، فحمدت الله على مثل هذا الإستثناء، فأنا لم أحلق شعري يوماً، وحتى حينما كنت في العسكرية، في فترة ما قبل الاحتلال الأميركي، فلقد رفضت حلاقة شعري، بفضل علاقتي مع الضباط، كوني صحفياً، بل إن أحد الضباط، وكان برتبة مقدم، أمرني أن أحلق ذقني يوماً، فرفضتُ الأوامر بدوري، وتعالت الأصوات بيننا، حتى كاد أن ينتهي بالإشتباك بالأيدي، لكنه، عوضاً عن ذلك، إنتهى بمعاقبة ذلك الضابط من خلال نقله إلى خارج بغداد، بعدما هددتُ كبار الضباط بالكتابة عنهم في صحيفة (بابل)، خصوصاً بعدما تطاول ذلك الضابط على جموع الصحفيين، الذين انتسب إليهم، وهو ما أرعب الضباط حينها، كون نقيب الصحفيين كان وقتها (عدي)، النجل الأكبر لصدام حسين، وبذات الوقت كوني كنت اكتب في الصحيفة الأولى في العراق (بابل) والتي كان يشرف عليها بشكل مباشر (عدي) نفسه!
حلاقة شعري، لو حدثت، كانت ستترك لي لربما جرحاً، لكني كنت سأعتبرها وقتذاك أول ثمن أدفعه في طريق البحث عن إجابات لأسئلتي، بل لأسئلة العالم من حولنا، عن الوضع القضائي والحقيقة الخافية، أو (المُغيّبة)، أياً كان شكلها، أو لونها، أو طعمها في أرض الخلافة..
أخذ الحراس بعدما تبين لهم الأمر، ومن أنا، ومن أين جئت، يسألوني عن بعض تفاصيل رحلتي، وعن حياتي في أوربا..
حدثتهم عن كتابي الذي طبعته بلغة أجنبية الخاص بمذكراتي في سجون المحتلين الأميركان، والذي اسميته (361 يوم في الجحيم)، وحدثتهم كذلك عن سرعة إنتشار الإسلام في الغرب، حدثتهم عن وجود أرض خصبة لإعتناق الإسلام في المجتمعات الأوربية، لو وُجد هناك من يقوم بالدعوة، وهنا تدخل أحد الحراس وكإنه اكتشف شيئاً ما فجأة:
تذكرت، لقد كنت اُتابعك على الفيس بوك قبل فترة طويلة، وأتذكر إنني قرأت منشوراً لك يوماً تقول فيه أن هناك من إعتنق الإسلام على يديك.. اليس كذلك؟!
فأجبته:
هذا من فضل الله..
فرد مجاهد آخر:
يعني انت صحفي وداعية...؟!
قلت له:
صحفي نعم، وقد أقمت معارض فوتوغراقية، وعملت ندوات، ومحاضرات، كنت أتحدث فيها عما يجري لنا على أيدي المحتل الأميركي والإيراني..
أما أن أكون داعية فلا، فلست أهلاً لذلك، لكني سعيت لنشر ديني قدر إستطاعتي، وقد وفقني الله في تأسيس مسجد صغير للمسلمين في المدينة التي كنت أقيم فيها، وحينما لم أجد خطيباً أو إماماً قمت بالدور بنفسي، رغم عدم تخصصي في مجال الدعوة، بل ولست حتى طالب علم، لكن كنت أحاول، جهد إستطاعتي، سد الفراغ وخدمة المسلمين، الذين كانوا يفتقدون لرجال دين متخصصين في علوم الشريعة..

https://youtu.be/sGt05KlGy5c

https://youtu.be/NLwXqb7hmqM


بعد الإنتهاء من هذه المحادثة المطولة مع مجموعة الحراس، الذين توافد قسم آخر منهم ليستمع إلى حديثنا، طلب مني الحراس، بعد تلقيهم نداءاً عبر جهاز اللاسلكي، الإستعداد للتوجه إلى المحكمة، وقبل ذلك إفراغ جيوبي، وكل ما هو بحوزتي،فيما سارع أحدهم لإحضار كيسٍ من القماش، فوضع فيه كل حاجياتي التي كانت بجيوبي، ومنها الهاتف، وحزام السروال (البنطلون)، والمحفظة، فيما تولى إثنان من الحراس عدّ كمية النقود الموجودة في محفظتي، وكان هناك من يسجل كل ما يتم وضعه في الكيس، وأمام عيني، ثم تم تدوين الكاميرا، وحاسوبي الشخصي (اللابتوب)، وحقيبة الظهر..!
إستفسرت منهم عن السبب، فأكدوا لي إنها ستكون في قسم الأمانات حتى أعود من المحكمة، فهذه إجراءات روتينية متبعة، فلم اُمانع ذلك، لكني طلبت منهم الإحتفاظ بالعوينات (النظارة الطبية) والتي احتاجها لعيني المتعبة، من كثرة الكتابة وإستخدام الأجهزة، وخصوصاً الكمبيوتر، فلم يمانعوا..
قال لي الشيخ الكبير في السن الذي كان بينهم، والذي أكثر من الثناء على قبيلتي:
يا أخ حسين، الذهاب للمحكمة يتطلب تغطية العين، لهذا سنضع قطعة قماش على عينيك، ونعلم صعوبة ذلك، لكنها الإجراءات الأمنية المتبعة، واحتسبها بدورك في سبيل الله..
ورغم إستغرابي للأمر، إلا أنني تقبلتها بكل رحابة صدر، خصوصاً أن المجاهد (الستيني) قد عرضها عليّ بطريقة محببة، حينما أشار عليّ بأن احتسبها في سبيل الله، وكيف لا احتسبها في سبيل الله، وأنا الذي جعلت كل رحلتي هذه في سبيله، سبحانه وتعالى، منذ أول خطوة لي فيها..!
قلت له:
اتفهّم ذلك يا حاج، ولا مشكلة لي في ذلك، لكني أريد أحد الإخوة يمسك بيدي بإنصاف ويدلني على الطريق، قلتها هكذا بطريقة مازحة، فضحك الجميع لها، ثم قال أكثر من واحد، وبذات الوقت:
أبشر!
سلمني أحد الحراس قطعة سوداء من القماش، على شكل نظارة، لكنها كانت تكفي لإخفاء العين والأنف، بل والفم معهما، في حال وُضِعت على منتصف الجبهة، لا على أعلاها، وكانت مربوطة بقطعة من المطاط (آستك) لتلتف من خلف الرأس لتضبط إحكام قطعة القماش على نصف الوجه تقريباً..
وقبل أن أضع (نظارة القماش) على عيني طلب الحراس من السجناء الخمسة، الذين لم أكن أعرف تُهمِهم بعد، الوقوف، والإستعداد للحركة، فأوقفوهم على شكل رتل، أحدهم خلف الأخر، وطلبوا أن يمسك كل واحد بملابس الشخص الذي أمامه، فيما أمسك الأول بأحد الحراس، ممن كان يوجههم إلى الطريق، لتجنب العثرات، أما أنا، وقبل التحرك، وضعت العصابة على عيني، ثم أمسكت بآخر شخص في الرتل المكون من خمسة أشخاص، لأسير خلفهم في طريقنا إلى المحكمة، إلا أن أحد الحراس جاءني وقال لي:
أنت أشرف من أن تكون في هذا الطابور، فأمسك بي لوحدي وقادني..
شكرته على كرمه، وبذات الوقت اكتشفت أن الأشخاص الخمسة هم مجموعة لصوص، خصوصاً بعدما قال لهم أحد الحراس تحركوا يا لصوص الموبايلات!
سرنا قرابة العشرين متراً، وكان الطريق فيه بعض العثرات، حيث كانت تجري هناك ترميمات على ما يبدو، وأعمال لصب أجزاء من الأرضية بالأسمنت، رغم عدم رؤيتي لأي عامل هناك، لكني خمنت ذلك من وجود الحصى الصغير في واجهة الأرض..
كنت، وأنا أسير، ألمح ذلك الحصى، وطبيعة الأرض تحت قدمي من تحت عصابة العين، التي وضعتها بطريقة أستطيع من خلالها رؤية أقدامي، فلقد اكتسبت خبرة التعامل مع مثل هذه المواقف، أثناء فترة إعتقالي لدى قوات الاحتلال الأميركي، ومن سجون الشرطة االشيعية، ومثلها كذلك من سجون الصحوات السُنية، فلقد جربت كل سجون هؤلاء، فضلاً عن سجون البيشمركة الكردية!
إنتهى المسير بالطلب مني رفع قدمي إلى دكة سيارة.. وضعت قدمي الأولى، ثم ألحقتها بالثانية، ويد الحارس تمسكي بي، وكلامه يوجهني شمالاً ويميناً، فضلاً عن إختلاسي النظر لموضع قدمي على الأرض، حتى جلست على أقرب كرسي من باب السيارة، التي لم أكن اعرف ما هي، لكني خمنت إنها (كوستر)، من دكة بابها الذي يميزها عن غيرها من السيارات.. والحق أقول إنني شعرت بالخجل، لإنني كنت اختلس النظر لموضع قدمي، فالحراس لم يضعوا العصابة على عيني، بل ناولوني إياها لأضعها بنفسي، واضافوا على ذلك أنهم كانوا يمسكون بيدي، ويوجهوني، لهذا وجدت في ذلك خيانة للأمانة، فسارعت إلى خفض العصابة أكثر، حتى غطت أنفي وفمي، لكني همست لنفسي في سرّي قائلاً:
أبعد أن وصلت يا حسين!؟
طلب الحراس من الجميع خفض رؤوسهم والإلتزام بالتعليمات، وعدم الحديث مع بعضهم البعض، ثم قال أحدهم للسائق:
توكل على الله!
سارت بنا السيارة لعدة دقائق، وقد كنت أظن إنه لم يكن يفصلني عن المحكمة سوى جدار أو طريق ليس إلا، لكن المسافة كانت بعيدة كما أتضح، حيث سارت السيارة في طريق يخلو من السيارات، فلا صوت سيارات ولا ضجيج مارة، حتى توقفت السيارة ثانية، حيث أمتدت يد حارس إليّ، وهو يقول لي: تفضل على مهلك بالنزول أخ حسين..
كانت حركتي هذه المرة أكثر حذراً، إذ لم أعد ارى شيئاً على الإطلاق خارج أسوار عصابة العين، والحقيقة إنني شعرت بالتوجس قليلاً في ذلك الوقت، ربما لإنني وللحظات كنت اشعر بإنني في أيدٍ أميركية، أو شيعية، أو مرتدة، لولا أصوات الحراس من حولي وهم ينادوني بالأخ تارة، وبالإستاذ تارة أخرى، وهو ما كان يبدد مخاوفي، ويزيل الرهبة من داخلي..
سرنا في تعرجات مختلفة، ولمسافة تقترب من الخمسة وعشرين، أو الثلاثين متراً، حتى وصلنا إلى ممر على ما يبدو، وفي جانبيه مصطبات مخصصة للجلوس، أجلسونا عليها، وهمس في اُذني أحد الحراس قائلاً:
بعد قليل ستدخل إلى القاضي وتحادثه!
فشكرته وحمدت الله على ذلك..
وهنا علا صوت، قائلاً:
كلاب، تسرقون محلات الناس!
فأجبته على الفور، ودون لحظة تفكير:
إتق الله، إتق الله!
فسارع ذات الصوت للرد:
عفواً يا حاج، لستَ المقصود، ولكني أعني هؤلاء اللصوص، الذين سرقوا أموال المسلمين الآمنين، هؤلاء السراق الذين يجلسون بجانبك..!
أجبته:
وهل أصدر القاضي الحكم بحقهم!؟
فرد عليّ، سيتم عرضهم الآن على القاضي!
أجبته:
فكيف إذن أصدرت الحكم عليهم يا أخي، استغفر ربك!
فرد عليك وبصوت المذنب:
اللهم اجعلني من المتقين.. استغفر الله العظيم..
ثم قام بمسكي من يدي وطلب مني مرافقته، ليجلسني في الجهة الثانية من الممر بعيداً عن اللصوص.. ثم بدأ زميل له يعنّفه على كلامه الجارح بحق اللصوص، في حين صمتَ هو مكتفياً بالإستغفار من الله!
أخذ أحد الحراس ينادي بالأسماء على اللصوص الخمسة، واحداً في إثر الثاني..
كنت استمع إلى أحاديثهم، وبكاؤهم، فلقد كان أحدهم يقسم بأغلظ الأيمان إنه لم يسرق شيئاً!
كانت التفاصيل التي كنت استمع إليها قد سمعت بعض منها من قبل، فذاكرتني لا تخونني، خصوصاً في مثل هذه الأمور، ولكن كيف، ومتى!!
عدت بالذاكرة لبضعة أيام خلت، فتذكرت إنني، وحينما كنت انتظر على قارعة الطريق للدخول إلى أرض الخلافة، وحينها كنت أتصفح في الفيسبوك، قرأت أن عصابة قامت بالسطو على محل لبيع الموبايلات وإكسسواراتها في أحد مناطق الموصل، وأن الدولة الإسلامية تجري تحقيقاً في الأمر للوصول إلى الجناة.. نعم تذكرت الآن..!
إذن فقد تم إصطياد الجُناة، وهم بجانبي يجلسون الآن..
ما أضيق وأصغر هذا العالم إذن.. هكذا قلت في نفسي، فأن تسمع بالأخبار عبر وسائل التواصل الإجتماعي، ثم تجدها أمامك واقعاً، فهذا أمرٌ، لعمري، مثير!
كان أحدهم يبكي بشدة وهو ينفي التهمة عن نفسه، وحينما عاد ليجلس على المصطبة بعد خروجه من عند القاضي أخذ يتحدث بصوت مسموع، وهو يقول:
لماذا يا بني، لماذا فعلت بنا هذا، ألم يكفيك أن تتورط أنت، لتورطني معك، أي عار هذا الذي حمّلتني إياه!
فهمت من كلام الرجل أن أحد اللصوص هو ابنه، وأن الابن هو من جاء بأبيه، دون أن يرتكب الأب جرماً، بحسب ترديد الأب لكلامه ذاك، لكني سمعت القاضي وهو يتحدث لهذا الأب عن سبب حمله لمسدس..!
تم الإنتهاء من عرض اللصوص الخمسة، أو المتهمين بالأحرى، على القاضي، وهنا تقدم مني الحارس، وهو يطلب مني خلع حذائي، قائلاً لي:
دورك الآن يا حاج.. القاضي نادى عليك!
والحق أقول إنني شعرت بالرهبة للوهلة الأولى، فالمحاكم عندي دائماً ما تكون رمزاً للشؤم والخوف والإعتقال والسجن، وربما الإعدام، لكني هنا في حضرة دولة الخلافة الإسلامية، التي تحكم بالعدل، كما هو مفترض لها، وإلا كيف ترفع راية العدل الآلهي، راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، لكن، وعلى ما يبدو، وجود العصابة على عيني هو من زرع بعض المخاوف في داخلي، حتى لو كنت أثق في دولة الخلافة وأمرائها وجنودها، فالأمر نفسي بالدرجة الأولى!
أمسك الحارس بيدي، وهو يسير بجانبي، ويوجهني:
شمال، يمين، سر للأمام، توقف، أستدر، إجلس!
جلست على كرسي، في غرفة، تسمع وقع الإبرة لو سقطت على الأرض، بل وتسمع دبيب النمل فيها، وبقيت صامتاً، وهنا بدأ همسٌ خفيف أخذت اسمعه على بُعد أمتار مني..
صوت هادئ لشخص يجلس خلف ظهري، وفي مكان أعلى من مكان جلوسي..
ذكر اسمي، قائلاً:
أين كنت تقيم؟!
أجبته:
في أوربا!
أضاف:
إذن أنت صحفي ومراسل إعلامي بحسب ما علمت؟!
قلت:
نعم!
فهمت من كلام هذا الشخص أنه القاضي، الذي كنت أبحث عن لقائه!
بعدها سألني صوت آخر، كان قريباً مني جداً، حتى إنني شعرت لوهلة أن كرسيه يلاصق الكرسي الذي أجلس عليه:
هل جئت مهاجراً أم في مهمة صحفية؟!
أجبته:
الإثنتان!
قال:
إن كنت مهاجراً فأرض الخلافة أمامك واسكن حيث بدى لك، وإن كنت في مهمة صحفية فهناك إجراءات يجب أن تطبق، فنحن نعيش في حرب كما ترى، ونحن مستهدفون من العالم أجمع!
قلت له:
يا شيخ، الخليفة دعا جميع العقول والخبرات والكفاءات والإمكانيات للهجرة إلى ربوع أرض الخلافة، بضمنهم الإعلاميين، وأنا الآن في مهمتين:
الأولى: ..........................
والثانية: العيش في ربوع الخلافة، وخدمة المسلمين فيها، وفضح حقيقة الإتهامات التي توجه إلى دولة الخلافة الإسلامية!
ثم تطرق الصوت نفسه، في أسئلته، إلى الصحافة والقنوات وغيرها من أمور ووسائل الإعلام، وكنت اُجيبه واُناقشه في بعض المسائل..
عاد الصوت الأول، صوت القاضي، كما خمّنت، ليسألني عن عائلتي، وأن كنت قد تركتها خلفي في أوربا، فأخبرته أنني أحضرتها معي، لكني لم استطع إدخالها إلى أرض الخلافة، بسبب تعقيدات ما قبل الدخول إلى أراضي الدولة الإسلامية، وإنها في مكان آمن، وأكدت له إنني سأعمل على جلبها ما أن ييسر الله لي أمر ذلك!
فلما اطمئن إلى هذا الأمر، قال لي:
إعمل على أن لا تتأخر في إحضارهم!
قلت:
بحول الله وقوته، فهذا مناي، وهو حلم طال تحقيقه!
قال لي:
بخصوص إقامتك في أرض الخلافة فمرحباً بك، وأقم أنّى شئت، أما بخصوص طلبك، فنعتذر عن تلبيته الآن، فهناك بعض الأمور التي يتوجب علينا التحقق منها، بخصوصك، وسنحتاج منك إلى من يُزكيك!
قلت له:
اكتب اسمي على الكوكل، وكتاباتي منذ سنين هي من تزكيني، وإن شئت إحضار من يزكيني، فسأمنحك قائمة بهذا الأمر، وليس شخص واحد!
طلب مني، الأسماء، فاعطيته الكثير من الإسماء، ثم طلب عناوين المواقع التي اكتب فيها، ليتم الإطلاع على كتاباتي، بحسب ما ذكر..
وهنا رُفع آذان الظهر من مساجد الموصل، فختم القاضي اللقاء بالقول:
حان موعد الصلاة الآن.. وسنذهب للصلاة!
قلت له:
هل انتهى اللقاء، فأنا جئت من أقصى شمال الأرض ومن حقي عليك بوقت أطول!
قال لي: انت تريد الكثير، وعلينا إتمام الإجراءات بهذا الخصوص، فلو كنت تريد كتاب مرور وتسهيل مهمة منحتك إياه الآن، مثلما حصل مع الصحفي الألماني (يورغن)، لكن أنت وضعك يختلف، فأنت تريد أموراً أخرى، وهو ما يتوجب القيام ببعض الأمور أولاً، لكني سألتقيك قريباً بمشيئة الله!
إنتهى اللقاء عند هذا الحد، مع ملاحظة أنني تحفظت على ذكرِ بعض التفاصيل والمعلومات والأسئلة، والتي لا تهم القراء أو تخدمهم، بقدر ما تهمني وتتعلق بي أنا..!
لحظتها، سمعت أصوات نهوضهم من على الكراسي، فيما طلب مني أحد الحراس مرافقته في الخروج من المكان، فرافقته ليعود ويجلسني على ذات المصطبة التي كنت أجلس عليها، لكني كنت حينها لوحدي، فلم أكن اسمع أي صوت من حولي، ما خلا أصوات الحراس وهم ينادون أو يتحدثون إلى بعضهم البعض!
بعد طول إنتظار، أخبرني أحد الحراس أن القاضي لم يعُد إلى المحكمة، وأن الوقت قد تأخر على عودته.. ثم طلب مني مرافقته، وسار بي في ممرٍ مسافة العشرين متراً تقريباً، أوقفني في نهايته، قبل أن يرفع العصابة عن عيني، لأجد نفسي أمام باب، بقفل من الخارج!
قال لي:
يا حاج: تفضل، استرح هنا في هذه القاعة، حتى نكمل بعض الإجراءات!
لم اسأله أي إجراءات يقصد، لإن كل ما كان يهمني هو التخلص من تلك العصابة التي كانت تغطي عيني، والتي جعلتني أشعر بالتوتر كثيراً!
فتح الحارس الباب، ودخلت، وإذا بي في وسط زحام من السجناء والمعتقلين، في قاعة عرضها قرابة الأربعة أمتار، وبطول يقترب من العشرة أمتار، ولا يوجد مكان من أرضها يخلو من أفرشة النوم، إلا مساحة المتر، التي هي في نهاية القاعة من عند الباب..!
كان الداخل إلى القاعة يقوم بخلع حذائه أولاً، كما عرفت لاحقاً، عكسي أنا، حيث دخلت وأنا انتعل حذائي، قبل أن تستوقفني تلك الوجه الناظرة المتطلعة إليّ، والتي كانت تغص بها تلك القاعة، وهم ينبهوني إلى ضرورة خلع حذائي، فأخبرتهم بإنني أريد الوضوء، كي أصلي، فأشاروا إلى مدخل المغاسل، والذي كان عبارة عن فتحة كبيرة، تم عملها على شكل باب، لربط القاعة، عبر تلك الفتحة، بغرفة صغيرة يتم وضع فيها بعض الأغطية الزائدة، والأحذية، وبراد ماء، ومناسف الطعام الفارغة، وحبل لنشر الملابس..
كانت تلك الغرفة جزء من ذلك الممر الذي كنت أجلس فيه عند باب غرفة القاضي، لكنها فُصلت عن الممر بسياج مشبك من الـ (بي آر سي)، وطبقة من الخشب السميك وبإرتفاع يحجب الرؤية فقط، لا الصوت، حيث بقي قرابة المتر من الأعلى عارياً من الخشب، بإستثناء الحديد المشبك، الذي يصل إلى السقف، ومن خلال تلك الغرفة (الصناعية) المستحدثة، يتم الوصول إلى باب مصنوع من أرقى أنواع الخشب يُوصل إلى المرحاضين المتجاورين، مع مغسلتين ببابهما!
وقفت، قبل دخولي للوضوء، أتأمل في تلك الوجوه.. وجوه متعددة الألوان، وبأعمار مختلفة، خليط غير متجانس من البشر والملابس والأفرشة، بل وحتى الجدران المغلفة بالسيراميك، طُليت هي الأخرى بألوانٍ متعددة، كتعدد تُهم هذه الوجوه التي ترمقني الآن!
كانت الأفرشة قد وُضعت في القاعة بشكل متقابل، بحيث يمتد كل فراش من الجدار بإتجاه منتصف القاعة، مع إمتداد الجدران، وبقيت مساحة بعرض سرير في الوسط على إمتداد القاعة لتقسمها إلى نصفين، وضع فيها هي الأخرى الفرش بشكل طولي ليستوعب أعداد السجناء، الذين يصل عددهم زهاء الستين، حتى إنني ظننت إنني لن أجد مكاناً وسط هذا الزحام لأجلس فيه..!
لا تزال الأنظار مصوبة نحوي، ورغم هول الموقف عليّ، إلا أنه شعرت حينها أنني وصلت إلى أهم مكان أستطيع من خلاله إصدار حكمي بحيادية عن نظام دولة الخلافة الإسلامية القضائي، فهذه السجون والزنازين هي المعيار، وهي المقياس، وهي ميزان الحكم، فهي التي تُعبد طريق الخلافة بالفلاح والصلاح، وتفرشه بالورد والقداح، عبر العدالة المنشودة، أو أن يقال عنها أن الداخل إليها مفقود، والخارج منها مولود، كما يكثر الإعلام الداخلي والخارجي من ترديد ذلك، وكما يشيع بعض الناس عن مصير من يتم إعتقاله على يد الدولة الإسلامية.. لكنني اليوم هنا لأقف على الحقيقة بنفسي، كيف لا، وأنا قد أصبحت أحد هؤلاء الذين دخلوا سجون الدولة الإسلامية، والآن سأترقب إن كان حالي كمولود سيكون، أم كمفقود سيؤول!
قابلني عند باب المغاسل، حيث كان يجلس، شيخ ملتحٍ، في منتصف الخمسينات من العمر، ويرتدي بزة جهادية (قندهارية)، بنية اللون، وتلك كانت أولى صدماتي!
قال لي:
مرحباً بك!
قلت:
حياك ربي وبياك..
ثم واصلت:
هلا ارشدتني إلى مكان الوضوء!
فقال لي ممازحاً:
مستعجل على الصلاة!
أجبته:
هي زادي!
فرد عليّ بالقول:
ماشاء الله.. ثم أشار لي إلى أماكن الوضوء، قبل أن يطلب مني خلع معطفي، الذي تناوله مني ووضعه على كتفه حتى انتهي..
وأنا اتوضأ فوجئت أن الماء كان ساخناً، وهو ما استغربته، ففي السجون لم نتعود الحصول على ماء الشرب إلا بشق الأنفس، وإذا به هنا ماء بارد، وآخر ساخن في هذا الشتاء، وفي مدينة لا تعرف الكهرباء، إلا من المولدات الأهلية..
قلت في نفسي ممازحاً إياها:
أي دلال هذا الذي أنتِ فيه يا نفس!
بعد الإنتهاء من الوضوء، ناولني الشيخ معطفي، والذي وضعته على الفرش، وبدأت في الصلاة..
بعد التسليم، والإنتهاء من الصلاة، احترت أين أجلس، فأنا لا أعرف قوانين هذا السجن، وهل هذا الفراش لمن يجلس عليه، أم هو مسمى باسم كل شخص موجود هنا، أم أم.. فما كان من الشيخ، الذي كان يرتدي البزة الجهادية، إلا أن ينادي عليّ، ويطلب مني الجلوس بجانبه، بعدما أدرك (حيرتي) في الجلوس، رغم (خبرتي) الكبيرة من السجون والمعتقلات على إختلاف جهاتها..
وهنا تذكرت صديقاً لي، وهو يمازحني يوماً بقوله:
انت لم تترك سجناً لم تزره، ولم يبق إلا سجون الدولة الإسلامية لتدخلها..!
وها أنذا أدخلها اليوم، يا صديقي.. قلتها في نفسي وضحكت لها علناً، مع إني من سعى لهذا، عبر بحثي عن الحقيقة، لكن آخر ما توقعته أن أكون هنا!
حتى أن الشيخ سألني عن سر ضحكتي، فأجبته:
شيء خطر ببالي!
عاد الشيخ ليسألني عن تهمتي التي أدخلتني إلى سجون الدولة الإسلامية، فاحترت بأي شيء أخبره، فقررت التكتم على ما جئت من أجله، حتى أحصد ثمار النتائج المرجوة..
قلت: عابر سبيل.. ولم أزد!
قال: فهمت.. ولم يزد!
الشيخ، الذين تبين إنه أمير القاعة، كما يطلق عليه هناك، عاد ليسألني مرة أخرى:
لست كالآخرين، فلقد راقبتك في الصلاة، وكذلك شعرك لم تتم حلاقته..!! هل أنت من (الإخوة)!؟
ومصطلح (الإخوة) هو ما يُطلق على المجاهدين كتسمية لهم..
ضحكت، قبل أن أجيبه:
وهل يدخل (الإخوة) إلى السجن!!
قلتها بصيغة المتهكم!
فأبتسم هو بدوره، وهو يجيبني بالقول:
كثيرٌ ممن تراهم هنا في هذا السجن هم من المجاهدين!
ماذا، كيف يُعقل ذلك، ولأجل أي شيء!! هكذا قلت، ثم أردفتها:
وهل أنت من الإخوة، كما هو ظاهر على بزتك، أم هو لبس سجن ليس إلا!
أجابني، وإبتسامته لا تفارق وجهه، وجه يحكي قصص وحكايات لا تنتهي.. قال لي:
أنا أدعى (أبو عمر)، وأنا أمير في ولاية صلاح الدين، وتحت إمرتي الكثير من الجنود، بل قاطع بأكمله، لكنك تجدني هنا في هذا السجن بين اللصوص والمجرمين وغيرهم من أصحاب السوابق!
تحدثت بتشنج:
مجاهد يُسجن، ويوضع مع اللصوص، ويُعامل معاملة السراق وقطاع الطرق.. كيف يستقيم ذاك!؟
أجابني بمفردة وعبارة، وحدها كانت كافية لأن تقام على أساسها أركان إمبراطورية تغزو مشارق الأرض مغاربها..إذ قال لي:
إنه عدل (دولة الإسلام)!

خاتمة الحلقة

كنت قد وعدت أن أروي لكم ما حصل معي، وما رأيته في محكمة الدولة الإسلامية في حلقة واحدة، لكني هُزمت، وأنا الذي كنت أظن نفسي لا اُهزم، فالأحداث يغرق في بحرها عُتاة الكُتّاب، وكبار الصحفيين، فكيف بي أنا الذي لا زلت اتعلم أبجديات الصحافة، كما احسبُ نفسي..!!
ففي أرض الخلافة، لا مكان للنصر أمام الدولة الإسلامية، حتى في مجال النقل والتوثيق والإعلام والصحافة، إذ يقف الإنسان مذهولاً أمام عظمة الأحداث، غير مصدق لوهلة إنه في عالم ما يزال قطب الكون فيه أميركا بكل ثقلها، ومن ورائها العالم الغربي برمته ورميمه، وقطبه الآخر الدب الروسي، وريث الإتحاد السوفياتي، ومن حوله صين الشرق ويابانها وإيران، وحول هذا القطب وذاك دويلات، وأنظمة، وتنظيمات، وتشكيلات ردة، يدعمون كلهم الإخطبوط الشيعي الذي إستفاق في غفلة من الزمن، بعدما تخلص وتجرد من كل تُقيته التي عُرف بها منذ قرون..
لهذا، فإني لكم ناصح أمين، وناصح لنفسي قبل ذاك، أن لا تخوضوا يوماً حرباً، أو تجربوا حظكم، أو تطلقوا وعوداً، حينما يكون خصمكم في الطرف الثاني الدولة الإسلامية، لإنكم لن تخسروا فقط، بل وسيفتنكم نجاحها، ومن كان صادقاً مع نفسه، فلن يسوءه إنكساره أمامها، ما دامت هي على الحق، وهو على باطل الأفكار!

وللحلقات بقية!

حسين المعاضيدي



 
 توقيع :
\\\ جسمي علي البرد لايقوي --- ولا على شدة ألحراره \\\
\\\ فكيف يقوي علي حميم ---- وقودها الناس والحجاره \\\\


رد مع اقتباس