عرض مشاركة واحدة
قديم 03-06-2012   #10


الصورة الرمزية الغزال الشمالي
الغزال الشمالي غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 218
 تاريخ التسجيل :  Apr 2011
 أخر زيارة : 07-10-2013 (07:01 PM)
 المشاركات : 2,111 [ + ]
 التقييم :  119
لوني المفضل : Cadetblue
شكراً: 0
تم شكره 2 مرة في 2 مشاركة
افتراضي



الفصل السادس


مع حمرة الغروب الجميل.. توقف الرجال على رأس ربوة.. وأمضوا دقائق يتأملون بصمت.. وعبوس مدينة قانين..
الواقعة في البعيد.. قانين الفارسية.. موئل الأحلام ومحط الأمنيات.. عرش الرئاسة بالنسبة ليوسف.. والحمية والمجد لجابر..
والمغامرة لصالح.. وأحقاد الانتقام السوداء لياقوت.. والجهاد والفداء في سبيل الله لعبد القيوم..
قانين موئل مطامع الرجال.. وكنز المكاسب الآنية للمغامرين الشجعان القادمين من بغداد لإنجاز مطالبهم.
كان الغروب الزاهي.. والظلام الذي تهابط على البيوت المتقاربة.. والمتناثرة.. وعلى الجبال والوهاد والبساتين..

قد أضفى سحراً.. وغموضاً على المدينة التي بدأت تستلم للنوم..
تمتم عبد القيوم بخفوت:
- ترى أين يوسف بن محمد الآن؟!
رد جابر بتساؤل مثله:
- أتمنى أن أدفع مائة دينار.. وأعرف ماذا يفعل الآن.. إن أعمالنا القادمة منوطة بمعرفة أيّ شيء قد فعل.. هل تتوقع أنه اقتحم القصر؟
- الله وحده يعلم يا جابر.. لكن الشجاعة لا تنقصه!
وقال مالك الفهري:
- ما الرأي يا جابر؟
رد جابر:
- لابد أن نعرف أولاً.. ماذا صنع يوسف بن محمد قبحه الله.. هل وصل واقتحم القصر.. أم تريث.. وإذا لقيناه قبل أن

يعمد إلى فعل أيّ شيء فهل سنتظافر لمداهمة القصر.. أم سيظل مستقلاَّ بنفسه.. منشقّاً عنا؟
- إنه جشع يا سيدي.. لقد خان وسرق الرقعة منك ودبر إصابتك أنت وعبد القيوم ليستأثر بالغنيمة..

فلا أظنه سيفرح بأن يشاركه أحد في الإطاحة بالأمير شيوم.
وقال العباس بن حسين:
- لو كان سيتظافر معنا لما حرض الرجال عند النبع ولما استقّل من البداية !
وقال عبد الرحمن الفهري:
- إنه من الحماقة بحيث يظن أن بإمكانه العمل وحده!
وقال جابر في ضجر:
- كم أود لو أترك له القيادة والجائزة.. وكل ما آذانا وفرقنا في سبيله.. لا أريد أن تفشل رحلتنا هذه.. إن حرمات

المسلمين تهمني كثيراً يا عبد الرحمن.. وقد استوى لدي الآن الحصول على حكم الأشبار
أم عدمه.. المهم أن نغتال هذا الطاغية ونريح المسلمين من شره.
وسأل أحد الرجال وكنيته أبو موسى:
- هل نتقدم يا جابر؟
- لا لن نتقدم كلنا وبخيولنا يا أبا موسى.. إذا فعلنا قد تلحظنا العيون ونثير الريبة حولنا.. والرأي عندي أن نترك هذه

الرابية ونقبع في مكان ساتر.. ويذهب منا رجلان للتجوال داخل المدينة والاقتراب من القصر..
ومعانية أبوابه والبحث عن جهة مناسبة لاقتحامه وتسلق أسواره.
وتساءل عبد القيوم عن دوره الذي جاء من أجله، فقال جابر:
- لقد أصبح عددنا قليلا.. ولن نخاطر بك ما دمنا نعتقد أن هناك سبيلاً لمداهمة القصر تكون السلامة فيه أكثر.
فقال عبد القيوم:
- لكني لم آتِ باحثاً عن السلامة.. وأنت تعلم ذلك !؟
- التسلق عبر الأسوار سيكفل لنا مفاجأة الحرس وهي ذخيرة قد ترجّح كفتنا في القتال.. كما أنه يمكننا
من اتخاذ
مواقع متفرقة.. وهو أحب إليَّ من دخول القصر من جهة بابه لأننا سنكون في موقع واحد وستنصب علينا
سهامهم فهم أصحاب نبل وسهام.. وقد نستطيع معرفة غرفة شيوم من أحد الجنود إذا هددناه بعد أن نقبض عليه..
وهذا رأي من عندي والأمر مشورة فمن عنده غير ذلك فليدلِ به.
أيد الرجال هذا الرأي.. ورشح جابر مالكاً الفهري وقتادة بن سعيد لاكتشاف المدينة والقصر، فانطلقا في الحال..

أما بقية الرفاق فقد قبعوا أسفل الرابية يحجبهم عن المدينة تل كبير.. وكانوا في موضع منخفض لا يراهم حتى من مر بالقرب منهم!
وقد أوقدوا ناراً وشرعوا في إعداد طعامهم.. مستسلمين لخواطرهم.
وكان عبد القيوم يفكر أنه سيكون أول المقتحمين.. وستكون فرصة النجاة ضئيلة.. وإذا قضى نحبه فستنتقل أمه عند شقيقته عائشة..

وسيلقى الموت وهو مطمئن النفس.. فلم الحرص على الدنيا والتعلق الزائد بعنائها وتعبها.
وكان صالح الذي انتقم من حياة الدلال والدعة قد اكتشف أنه مكنوز بالجرأة والشجاعة.. وأصبح يفكر في استخراج

المزيد من كنوزه تلك.. وتمنى أن يتم ذلك بسرعة قبل مضي شهر.. ويعود بعدها سالماً إلى أهله.. ويفاجئ أباه بهذه
المغامرة التي انضم إليها فحتماً سيزداد والده إعجاباً به ولن ينظر إليه نظرته المشفقة.. كأنه طفل من الأطفال!
ومضت ساعات منذ ذهاب مالك وقتادة وكان الرجال قد أنضجوا طعامهم وتناولوه واستلقوا على الأرض بارتخاء..

وسمع ياقوت صوتاً فهب إلى أعلى التل وسأله جابر:
- من؟
- أصاحبنا.
واجتمع الرجال حول مالك وقتادة بن سعيد.. وقدموا لهما طعاماً.. وسأل جابر على الفور:
- ماذا رأيتما؟
قال مالك الفهري:
- رأينا ما لا يسرك.. ولا يعجبك!
وأضاف قتادة وهو يأكل بلا شهية:
- القصر واسع.. وبه حديقة من الداخل وأشجار.
- والأسوار؟
- منيعة كالقلاع.
- والحرس؟
- سمعنا من البعض أنهم خمسون.. ومن آخرين أنهم أكثر من الستين جندياً، وأن شيوم سيحضر المزيد.
- والجزء المنخفض من السور هل رأيتموه؟
- نعم.. وهو الأمل لنا في دخول القصر.. وإن كانوا قد وضعوا على شرفاته ثلاثة من الحرس لا ينفكون ذهاباً وإياباً..

ولولا ذلك لكان من الممكن تسلقه بحبل ومخلب حديدي صغير.
- لا تحمل همّاً، بضعة أسهم مفاجئة ستكفيك أمرهم يا قتادة، لكن ماذا عن الأبواب؟
- ليس للقصر إلا باب واحد.. وهم يغلقونه مع هبوط الليل.. ولا يسمحون لأحد أن يدخل بسلاح.
- وماذا عن المدينة؟
- العرب هنا كثير.. لكن لا حيلة لهم.. وثمة أناس من المغول من غير المحاربين ويبدو من

المقام داخل المدينة لمثلنا مستحيل فالعيون مفتوحة على أي وافد جديد!
- ويوسف ورجاله؟
سكت قتادة مؤثراً بالجواب المرير لمالك.. فأجاب بغضب وأسى:
- لم نكد ندخل المدينة لاستقصاء الأحوال حتى فوجئنا بالناس مجتمعين وعندهم جنديان مغوليان.. وكان غالب

بين عبد الرحمن وبكر الأزدي ومعاوية مصلبين ومحرقين إلى الأخشاب في أبشع هيئة.
- هؤلاء من رجال يوسف!!
نعم.. فالأحمق داهم القصر عنوة عصر أمس من قبل البوابة.. لما رآها مفتوحة وقتل حارسين هناك..

واستطاع الاقتراب من مجلس شيوم.. لكنه عجز عن الوصول إليه.. وقُتل من رجاله
خمسة أثناء المداهمة وثلاثة هم المصلوبون إلى الأخشاب.. ولم نجد من يخبرنا بالبقية.
- حتى يوسف لم تعلموا عنه شيئاً؟!
- لقد سألت أحدهم فقال لي إن رئيس المهاجمين يقصد يوسف محبوس عند شيوم في القصر

وسينقل إلى السجن هذه الليلة.. ولا أدري إن كان ذلك صحيحاً!
- إنه متهور.. بل مجنون.. كيف يهاجم قصراً محشوراً بالحرس.. وليس معه سوى عشرة رجال!!
وقال عبد القيوم:
- بل كيف أطاعه الرجال في ذلك؟
وعلق مالك الفهري:
- لقد كان يريد قتل شيوم قبل أن نصل.. لم يرد التريث مخافة أن يفوز جابر عليه في ذلك!
- يا إلهي لم أر رجلاً ينقاد إلى جشعه بهذا الشكل المميت..!
- إنه لم يفكر بعقله بل كان يفكر بطمعه.!
- لو أستطيع الوصول إليه لضربته بالسوط حتى أقضي عليه.. إنه لا يستحق الحياة.
- لا تقل هذا يا مالك.. إن الله هو واهب الحياة وهو أعلم بمن يستحقها.
وقال جابر منفعلاً:
- الحق معك يا عبد القيوم.. ألا ترى كيف شتت يوسف علينا أمرنا.. وأفسد ما كنا نخطط له.. لقد حاول
التخلص مني ومنك
ولم يفكر كثيراً في حياتنا أو موتنا.. وسرق الرقعة واستقل بنفسه.. وليته تعقل في هجومه بل اندفع بهوج.. وأزرى بنفسه..
ونبَّه شيوم وحرسه إلى أخذ الحيطة وزيادة الجند. وقد أصبح اقتحام القصر أصعب مما كان.
كان ياقوت يفهم نصف الحديث الدائر بين الرجال.. وكان قد عرف أسباب دحرجة الصخور على جابر

وعبد القيوم.. ومهمة هذه المجموعة.. والتنافس الدائر فيها. فانبرى يقول:
- أنا أعرف "الشيوم" سوف يقتل الرجال أمام الناس.. حتى يخاف الناس.
ثم كشف عن صدره وأضاف:
- انظروا.. حريق.. نار.. الشيوم قتل زوجتي وأولادي.!
وصمت الجميع أمام الأنباء المخيبة للأمل.. لكنهم كانوا يفكرون كيف ستكون الخطوة التالية.. لقد أصبح الأمر أكثر تعقيداً.. وأكبر

خطراً فلم تعد المفاجأة التي كانوا يتكئون عليها في نجاح مداهمة القصر طوع أيديهم بعدنا نبّه الاقتحام الفاشل الذي قام
به يوسف حذر الجنود وزاد في احتياطهم.. ووجب إيجاد طريقة أبعد عن المجابهة المباشرة التي حتماً ستكون في غير صالحهم.
وكان عبد القيوم يتأمل ياقوت الذي ما انفك يري الرجال مواضع الحروق والتعذيب
في جسده، ويشرح
لهم أن "الشيوم" هو من فعل ذلك.. حتى أصابهم بالملل!! وقال عبد القيوم قاطعاً صمته:
- ياقوت هل تعرف مكان السجن؟
رد الفارسي:
- أنا أعرف كل شيء في هذه المدينة.
- هل تعرف الطريق من القصر إلى السجن؟
- نعم.. أنا أعرف الطريق..
وقال جابر:
- ما الذي تنوي فعله؟
رد عبد القيوم:
- أرى أن نذهب قرب الطريق الذي يسلكه من أراد الذهاب من القصر إلى السجن.
- ولماذا؟
- سنراقب من بعيد كل من يمر.. فربما كان حقيقة أنهم سينقلون يوسف ومن تبقى معه إلى السجن هذه الليلة تمهيداً لتعذيبهم.
- وما حاجتنا من ذلك؟!
- سنقاتلهم ونختطف يوسف.
- نقاتل ونعرض أنفسنا للخطر من أجل هذا الوقح الغادر؟!
صاح قتادة:
- يوقعنا في معضلة لا حل لها وتريدنا أن ننقذه؟!
رد عبد القيوم بهدوء:
- إنه صاحبنا ولابد أن نساعده متى ما قدرنا وسنقدر إن شاء الله.
وقال جابر بابتسامة إعجاب:
- لله أنت يا عبد القيوم.. يدحرج عليك الصخور ويحاول قتلك ثم تدعوه صاحباً وتنادي بإنقاذه!!
- يا جابر أليس مسلماً وهم كفار؟
- بلى..
- إن كونه مسلماً لا غير يوجب علينا مساعدته لا تركه في أيدي هؤلاء المشركين.. وربما يكون ذلك عطفاً لقلبه ومعجلاً بصلاحه.
وتمتم جابر:
- لا أدري كيف تفكر.! ليت لي قلباً مثلك يا عبد القيوم.
وقال قتادة:
- ما أسرع ما تنسى الإساءة!
وسأل أحد الرجال:
- ما قولك الآن يا قائد:
لم ترق الفكرة كثيراً لجابر لكنه كان ملتزماً لعبد القيوم بالمجاملة. فعلاوة على صداقتهما

التي نبتت جذورها من جديد لم ينسَ جابر أن عبد القيوم رفع رأسه عند الوالي أبي الحسن
عندما استجاب له ورافقه إلى قانين. لذا نهض واقفاً وقال في عزم:
- ليركب عشرة منا خيولهم ولنمض لمراقبة طريق السجن فعبد القيوم محق فيما ذكر، إن
يوسف
وإن خاننا إلا أنه مسلم وسننقذه ما لم يعرضنا ذلك لخطر عظيم.. أو يتسبب
في كشف أمرنا.. كما سنستفيد من يوسف فربما كانت الرقعة معه.
وكان أول الراكبين صالح الذي ابتهج لاقتراب المغامرة.
وسار بهم ياقوت ملتفاً حول المدينة التي يعرفها.. متجنباً قصر شيوم حتى لا يشاهدهم الحرس القابعون فوق الأسوار..
وبعد ساعة
دخل بهم بين مجموعة من التلال الصغيرة.. ثم توقف بهم على مبعدة من بيوت المدينة، وقال مشيراً إلى حاجز من الرمال:
- الطريق مع هذه الرمال.
كان السجن في طرف المدينة والسائر إليه من القصر يلزمه المسير قليلاً خارجها.
وقد عد الرجال ذلك من حسن حظهم وعده عبد القيوم من حسن تيسير الله وتقديره.
وطلب جابر منهم البقاء حتى يسمعوا منه إشارة بالتقدم.. ثم سار برفقة عبد الرحمن الفهري وعبد القيوم وصالح.. وصعدوا تل الرمال..

وكان السجن بعيداً حقّاً عن القصر.. وكانوا في منتصف الطريق بينهما.. أما البيوت فكانت نائية بقدر كاف..
ومضت ساعة من الانتظار.. وتمنى عبد القيوم أن يمر يوسف من هنا وألا يكونوا قد عجلوا بقتله.. وفجأة قال عبد الرحمن الفهري:
- اسمعوا.. وقع حوافر.. لقد قدموا..
وأرهف الجميع السمع، حتى برزت من الظلام مجموعة من الجند المغولي وكان عددهم ستة فرسان ممتطين خيولاً ومسلحين..

ويجرّون خلفهم أسيرين مصفدين بالأغلال في أرجلهما.. وقد عكرت صلصلة أغلالهما صمت الليل.. وعند اقترابهما تبيّن
أنهما يوسف وواحد من رجاله.. كانا يسيران خلف الجنود راجلين شاعثي الشعر.. حافِيَيْ الأقدام..
يمشيان سريعي الخطى حتى يدركا خطوات الخيول ولا يتعثران.
وكان يوسف يمضي رافعاً رأسه.. غير خائف.. لكن الحزن كان طاغياً عليه.. وكان القهر قد أطفأ لهيب

عينيه الجميلتين الخبيثتين.. وجناحا أنفه الضخم يرفان بانزعاج في تشويه لبقية ملامحه الوسيمة.
وتمتم جابر:
- لقد صدق الذي أخبر مالكاً الفهري بأن يوسف سينقل إلى السجن من القصر.. ثم أمر صالحاً باستدعاء بقية الرجال.
وانطلق صالح مسرعاً.. فيما قال عبد القيوم:
- كم أرثي ليوسف هذا.. انظر كيف يسير في كبرياء وأنفَة.. كأنما خلق ليكون ملكاً.. وكأنما قيد الأسر لا يطوق قدميه!!
اقترب الموكب الصغير حتى إذا حاذى تل الرمال.. فاجأه تسعة من الفرسان وأمطره بعضهم بالنبال فأصيب

أحد الخيول جراء ذلك.. وصاح جابر وهو واقف يراقب ما يحصل من فوق حصانه:
- احذروا أن تصيبوا "صاحبنا" .
وحاول المغول الهروب لكن الرجال حالوا دون ذلك وطوقوهم وسرعان ما تساقطوا.
ولم يكد يوسف وصاحبه يصدقان ما يحدث.. وأنهما سيعودان للحياة مرة ثانية.. لذلك لبثا جامدين من الدهشة!
وهتف جابر:
- هيا استاقوا الخيول معكم واحملوا جثث المغول ولنقذفهم بعيداً حتى لا يستدلوا علينا.. ولنغادر المكان بسرعة

قبل أن يفتقدوا أصحابهم فهم لا يتوقعون بقية لمن هاجمهم بالنهار..
وحُمل الجنود القتلى.. وخلع عبد القيوم لباس أحدهم لما رآه ينسابه طولاً وحجماً واحتفظ به.. وسيقت الخيول التي أركب الأسيران

على بعضها.. وأمر جابر أن يسير كل اثنين في طريق مغاير تضليلاً لمن قد يهم بتعقب خطاهم وتواعدوا على اللقاء عند أصحابهم.
ظلّ يوسف طوال الطريق مطرقاً سارحاً.. كان الخجل والفشل يلجمه.. ولم يدْرِ بأي كلمة يتفوه فسيئاته تجاه الرفاق لا تخفى، وقد

زاد همّاً أن منقذيه هم من أساء إليهم قبلاً.. كانت الحسرة والغيظ يملآنه فهو قد انفك من أسر ليقع في أسر آخر.. وليس
سبب يمنع جابراً ومن معه من أن يقاضوه ويحكموا عليه.. وقد تمنى في هذه اللحظة لو أنه هلك وهو يقاتل
المغول في باب القصر.. بدلاً من أن يكون أسيراً مهاناً وفي يد عدوه ومنافسه جابر!
وعندما التقى الجميع حطوا رحالهم.. وأشعلوا ناراً.. واقتيد يوسف وصاحبه بقربها وتجمع الرجال بقربهم.. وقال جابر عابساً:
- هل سرك ما فعلت يا هذا.. سرقت الرقعة.. وهاجمني رجالك أنا وصالح مرتين.. وحاولت التخلص مني

ومن عبد القيوم.. ثم داهمت القصر وفشلت وتسببت في قتل الرجال بلا فائدة..
أكل هذا شجع منك؟! حدثني يا يوسف لِمَ فعلت كل هذا؟!!
وقبل أن يتكلم يوسف صاح مالك الفهري الذي كان غاضباً للغاية:
- لا تسأله عن شيء.. إنه خائف ولا عذر له سوى حبه لنفسه.. لنقضي عليه..
وأيده أبو موسى:
- إن مالكاً محق.. إنه يستحق العقاب.
لكن عباس بن حسين:
- إنه ابن أخت الوالي.. فإذا لم يقتله المغول فلا سبيل لكم عليه.. إلا أن توثقوه وترسلوه مكبلاً حتى يُلقى بين يدي

أمير المؤمنين ويقال هذا الذي خان قائدك وأراد أن يخرب حملتك.
ونادى بعضهم بهذا الرأي.. ونادى البعض بالقضاء عليه وتركه للمغول مرة ثانية حتى يقتلوه.. ولما كثر الجدل في ذلك صاح بهم جابر:
- اسكتوا.. دعوه يتكلم!
وسكتوا.. فرفع يوسف رأسه في كبرياء وقال:
- إن الذي أخرجني من بغداد يا جابر هو الذي أخرجك.. والذي أسعى إليه هو ما تسعى إليه.. وقد آليت على نفسي

ألا يحكم "الأشبار" إلا أنا.. وقد حاولت والنجاح من عند رب العالمين.. وجميعكم يعلم أن هذه الحملة منذ بدايتها
قد استحالت إلى منافسة بيننا.. وأنها لم تقم على التعاون أبداً.. وقد كنت في عجلة من أمري وما كنت لأضيع
ساعة واحدة وقد أغراني أن البوابة كانت مفتوحة ولا كثيرَ حرسٍ عندها.. وقد عرفت من الرقعة مكان شيوم والممر
المؤدي إليه.. وكان النجاح ممكناً لو هاجمنهم ليلاً.. لكن الوقت الذي اقتحمنا القصر فيه كانت جميع الحامية
مستيقظة ومستعدة. وهذا أقوله لكم لا معتذراً ولا مستجدياً رحمتكم، ولكن لتعرفوا ما تتوقون إلى معرفته.
قال جابر:
- أهذا عذرك؟!
- قلت إني لا أعتذر ولن أعتذر ولكني أخبرك بالذي حصل.
- ولماذا اعتديت عليّ أنا وصالح ثم حاولت قتلي أنا وعبد القيوم؟
- لم أحاول قتلك.. ولكن كان لابد من الحصول على الرقعة.
- والرجال الذين تسببت في إهلاكهم؟
- لقد اتبعوني طوع إرادتهم.. وهم قد خرجوا من بغداد وهم يعلمون أن ليس

في انتظارهم ضيافة ولا احتفاء غير السيوف المصلتة والسهام الحادة.
- لقد تعهدت لخالك الوالي أبي الحسن أنك ستكون معنا طائعاً.. ولكنك خالفت

عهدك ونقضت ميثاقك وانفصلت برجالك مستقلاًّ بنفسك!؟
- لقد كنت عازماً على تركك والاستقلال بنفسي قبل المسير من بغداد وما أطلت البقاء إلا رجاء الحصول على الرقعة..

فلما حصلت عليها افترقنا.. والأمر كله خطأ من خالي أبي الحسن.. فأنا ابن أخته وهو يعرف طبيعتي.. وأنني لا أرضى
إلا أن أكون متبوعاً لا تابعاً ولكنه أبى إلا أن يجعلني تحت إمرة عبد لقيط من عتقاء
أخيه أبي الحسين وأنا سيد من أسرة كريمة لها باع في المجد وفي..
لم يكمل يوسف عبارته فقد صفعه جابر صفعة مدوية كفأته على جنبه ثم انهال عليه ضرباً وركلاً في غضب عارم..

وكان عبد القيوم أول من منع جابراً وحجزه عن يوسف ثم تابعه بعض الرجال الذين يبدون تسامحاً بشأنه.. وصاح عبد القيوم:
- أهكذا تعلمت كيف تعامل أسراك الذين لا حيلة لهم.. اهدأ يا جابر لسنا بحاجة للغضب والانفعال قدر حاجتنا إلى الصبر وضبط النفس!
استطاعوا إبعاد جابر عنه فهدأ قليلاً ثم قال متصاعد الأنفاس:
- يا لك من وقح غادر.. أهذه مكافأتي منك لأنني أنقذتك من أيدي هؤلاء.. سترى كيف أصنع.. أين الرقعة؟
لزم يوسف الصمت فجذبه مالك الفهري بثيابه وقد وجدها فرصة للتشفي من يوسف والتقرب إلى جابر.. وصاح به:
- أجب سيدك القائد.. أين الرقعة.؟ ماذا صنعت بها.
أجاب يوسف لاهثاً:
- كانت معي فانقطع حزامي فدفعتها إلى غالب بن عبد الرحمن وأظنها لا تزال معه إن لم تكن قد سقطت أثناء القتال.
وسأله جابر:
- أين بقية رجالك؟
- لم يبق أحد.. قتل منا خمسة حال القتال.. وقتل شيوم ثلاثة وصلبهم في ساحة المدينة.. أما محمود بن حبيب فلا أدري ماذا حل به!
نهض جابر وقال:
- هيا يا رجال سنخطف جثة غالب بن عبد الرحمن ونبحث عن الرقعة في ثيابه.
فسأل قتادة في ضجر:
- ألن تقتحم القصر؟! نحن لم ننفك من خطف الأحياء حتى تأمرنا باختطاف الأموات!!
لم يأبه جابر لكلامه بل ندب للمهمة خمسة من الرجال.. صالح بن حذيفة وعباس بن حسين منهم..

وأوصاهم جابر بتوخي الحذر.. وألا يشتبكوا مع أحد ما وجدوا عن ذلك مناصا.
انطلق صالح ومن معه.. وتوغلوا في الظلام.. وعندما دخلوا المدينة ربطوا خيولهم قريباً من أحد البساتين ثم ترجلوا، ملتحفين بالظلام..

كانت المدينة غارقة في النوم إلا من أفرادٍ من الجند المغولي.. كان اختفاء أسيرهم
وصاحبه وحراسهما الستة قد صعقهم لا سيما عندما عدموا أيّ أثر لهم!
تسلل الرجال إلى باحة المدينة محاذرين أن تقع عليهم عيون الجنود.. وعندما وصلوا إليها كان القتلى على

حالهم أول الليل، ولم يكن هناك سوى حارس واحد يروح ويجئ في عرض الساحة وطولها.
وهمس أحدهم:
- لا يوجد سوى جندي واحد؟!
ورد الآخر:
- ليسوا بحاجة ماسة لهذه الجثامين حتى يشددوا الحراسة عليها!
وقال عباس بن حسين:
- سنرميهم بسهم.. لكن أخشى أن يصرخ منادياً.. فيجتمع علينا ما لا نطيق!
فقال صالح:
- أرى أن نحاصره.. ونمسكه حيّاً ونمضي به.. فربما حصلنا منه على أخبار تهمنا.
هز أحدهم رأسه قائلاً:
- أصبت.. رغبته في ألا يقتل ستجعله يستجيب لنا.
وتسللوا عبر الأزقة ثم برزوا للحارس من جهات أربع شاهرين سيوفهم وبعضهم قد شد قوسه، وأشاروا إليه بالصمت وإلا قتلوه.
ألقى الجندي سيفه في صمت وخوف بعدما سدَّت عليه منافذ الهروب..
واقتاده صالح وعباس بن حسين إلى موضع الخيول، وقال صالح للبقية:
- سنذهب به ونقيده.. والحقوا أنتم بنا.
ومضوا فيما قطع الثلاثة الباقون حبال غالب بن عبد الرحمن المصلوب وأنزلوه واستجروه إلى أحد الأزقة باحثين عن الرقعة في ثيابه.
وعندما وصل صالح وعباس والأسير إلى مربط الخيول.. انشغل صالح باستخراج حبل لتقييد الجندي.. لكن أنةّ

مكظومة من عباس جعلته يلتفت ليشاهد الجندي المغولي وهو ينزع خنجره من
جوفه ويلوذ بالفرار. وتهاوى عباس، فهب إليه صالح لإسعافه لكنه صاح به:
- دعني.. الحق بالمغولي.. لا تدعه يفلت منك.. إياك أن يصل إلى أصحابه، وإلا تداعوا علينا.
وانطلق صالح راكضاً في الجهة التي هرب منها الجندي المغولي متوغلاً في ظلام البساتين.. وسرعان ما شاهد غريمه ينطلق

بين الأشجار كالسهم فجد في طلبه.. وكان صالح أسرع فاستطاع أن يقبض على ثيابه.. وحاول المغولي التخلص وتدحرجا
على الأرض في عراك.. وقد استل كل منهما خنجره.. ثم أفلت المغولي ولحقه
صالح تغلي فورة الشباب ونشوة المغامرة بين جوانحه وتمنحه قوة مضاعفة.
كان يمسك يد غريمه التي تحمل الخنجر بيمينه، ويده الأخرى تقبض على خنجره.. وقد شد المغولي على معصمه..

ولبثا مدة على هذا الوضع حتى تساقطت خناجرهما.. واستطاع صالح أن يجمع قبضته و يسدّد إلى فك الجندي ضربة
عنيفة أطارت اللعاب من فمه.. فما كان من المغولي إلا أن سدد إليه ضربة على وجهه من مجموع كفه الخشنة جعلت
الزوغان يزحف إلى عينيه للحظات وقاوم صالح رغبة في السقوط بعد تلك الضربة المؤلمة فقد علم أن
سقوطه يعني نهايته بخنجر المغولي لا محالة.. فاستبسل في المقاومة... ولبثا مدة ليست قصيرة وعما يصطرعان على الأرض..
وسمع صالح صوت خيول تقترب.. فارتعب.. وظن أنهم المغول.. وضاعف قوته فاستطاع أن يلوي ذراع الجندي
خلف ظهره ويجمّد حركته بعدما وضع السكين على عنقه.. متخذاً إياه رهينة للخلاص من القادمين!
وعندما وصلت الخيول تبين أنهم أصحابه.. كان الضيق و الضجر بادياً عليهم.. وسأله أحدهم من فوق فرسه:
- هل قضيت عليه؟
- أعانني الله عليه.. ولم أقتله بعد.. كيف هو عباس؟
- لقد مات رحمه الله.. الطعنة كانت نافذة.. لقد أدركناه وهو يجود بنفسه فدلنا على الجهة التي انطلقت منها فلحقناك.
- لا حول ولا قوة إلا بالله.. إنها حماقة أننا لم نتفقد هذا الكلب.. ما كنت أعلم أنه يحمل خنجراً!؟
- هيا لننطلق.. لقد أحضرنا حصانك.
وركبوا إلى أصحابهم يجرون الجندي خلفهم.. وتذكر صالح الرقعة فسأل:
- ماذا عن الرقعة.. هل وجدتموها؟
- أجاب أحدهم:
- لا.. لقد بحثنا في ثياب غالب بن عبد الرحمن.. ثم في ثياب معاوية و بكر فلم نعثر على شيء.. لقد ضاعت.!
أحس صالح بالكدر فالرقعة لم يحصلوا عليها.. وصاحبهم قتل.. وزاد في كدره صداع خفيف سببته ضربة المغولي الأليمة..

وبقي الأمل في أن يحصلوا من الجندي على ما يفيدهم في الاقتحام.
وما أن وصلوا..وزفوا إلى جابر و الآخرين هذه الأنباء السيئة حتى عم الضيق واليأس نفوس الجميع.. وامتلأ الرجال بالغضب..

ورغبوا في عمل أيّ شيء.. وقد نفس بعضهم عن غضبه بلطم الجندي وضربه وأمعنوا في ذلك لولا
أن التقطه أحد الرجال وألقاه بعيداً عنهم.. فعمدوا إلى يوسف وأفرغوا فيه بعض
غيظهم فركلوه ورفسوه فاضطر عبد القيوم ثانية إلى التدخل وحمايته.
لقد شعروا أن الفشل يلاحقهم.. ابتداء من انشقاق يوسف وفشله في الهجوم على القصر إلى مقتل صاحبهم مروراً بفقدانهم الرقعة.

وقد حاول عبد القيوم تهدئتهم وإقناعهم بأن إنقاذهم ليوسف لا يعدو كونه نخوةً. امرؤ مسلم يحتوشه الكفار..
وذلك عندما أصر بعضهم على تخليص يوسف من ضمن الفشل الذي أحاق بهم، فلا الرقعة حصلوا عليها
ولا أمرهم ظل مستوراً.. بل تأكد المغولي بأن ثمة بقايا لأولئك الذين داهموا قصر أميرهم وحاولوا النيل منه.
أمر جابر عبد القيوم بمناقشة المغولي عن أعداد الجنود ومواقعهم من القصر ومكان غرفة شيوم الذي ينام فيها. وهنا تنبه الجميع

إلى أن الجندي لم يكن موجوداً في مكانه الذي قذف فيه قبل قليل!! فصاح أحدهم:
- تباً.. لقد هرب!!
وتقافزوا إلى كل النواحي.. لكن صيحة من قتادة بن سعيد جمعهم:
- لا تذهبوا بعيداً.. تعالوا و انظروا إلى هنا!
فرجعوا واجتمعوا إلى قتادة الذي كان واقفاً بالقرب من ياقوت.
كان الفارسي المهتاج قد انسل مستغلاً انشغال الرجال بما دهاهم وجر الأسير المغولي من إبطيه دون أن يراه أحد.. واختبأ خلف

إحدى التلال وقضى عليه انتقاماً لزوجته وأولاده والحروق التي في جسده!!
كانت علامة سرور وحشي تبدو على محياه المشوش بفعل الإنجاز الذي قام به. وكان الجندي القتيل ممدداً بين يديه

فاقداً الحياة بعد ما قذف رأسه بصخرة كبيرة طحنته طحناً!
ولدن رؤيته للرجال هتف بابتسامة بلهاء:
- أنا أنتقم.. هم قتلوا زوجتي وأولادي.. وأنا سأقتلهم!
فأجابوه بالركلات و الضرب الشديد.. فقد ضيع عليهم فرصة الحصول على أخبار ربما تكون مهمة عن القصر ومن فيه.. وقال جابر بحزم:
- دعوه.. فعلكم لن يزيد الأمر إلا سوءاً.
وطرح أبو موسى اقتراحاً:
- لماذا لا نسأل يوسف عن موقع حجرة شيوم من هذا القصر الكبير ونجعله يرسم لنا الممرات المؤدية إليه؟
فقال جابر:
- رأي لا بأس به.. فهو لا شك يعرف ذلك.
و علق مالك الفهري الضجر دائماً:
- إنه لا يعرف غير خيبته وجشعه.
ورجعوا إلى حيث جلس يوسف محتبياً قرب النار دافناً رأسه بين يديه.
فقال له أبو موسى:
- اسمع يا هذا لقد أتاح الله الفرصة لك لتكفر عن شين فعلك الذي فعلت وهذه ورقة فخط لنا موقع حجرة الطاغية و الممرات القريبة منها..
ومد إليه برقعة وقلم. لكن يوسف نظر إلى نظر إليه ساخراً وقال ساخراً:
- يا لك من أحمق، لو كان شيوم أمام عيني لما أشرت إليه بأصابعي.!
فقال أبو موسى مدهوشاً:
- ويحك لماذا؟!
- ما كنت لأمنح هذا عوناً ليأخذ"الأشبار" !
- أليس قد أنقذك من عذاب ينتظرك؟!
- ليرجعني إلى حيث كنت إن كان نادماً على مساعدته!
- أحسد كل هذا؟!
- سمّه ما شئت لكني لن أعطيك شيئاً مما سألت.
ارتسمت على فم جابر ابتسامة ساخرة وهو واقف ضامٌ ذراعيه على صدره. أما مالك الفهري الذي يغضبه

كل شيء في يوسف فقد استل خنجره وشدَّ ثياب يوسف وهدده قائلاً:
- بل ستنفذ ما طلب منك رغماً عن أنفك..
فقال يوسف بلا مبالاة:
- لن أساعدكم بشيء يفضي إلى رأس الأمير شيوم ولو طبختموني طبخاً.. إلا أن تدعوني أعيد الهجوم ثانية ويتبعني من شاء

من الرجال ويتنحى هذا عن الأمر لي.. ولا شيء عندي غير ذلك!
جذب جابر كتف مالك الفهري قائلاً:
- اتركه يا مالك.. لن نفيد منه شيئاً.
فقام مالك ولم يزاوله غضبه بعد.. واتجه إلى رفيق يوسف وقال:
- وأنت؟
رد الرجل بنبرة تبعث على التصديق:
- ليس لدي ما أقوله فالرقعة لم يطلع عليها غير يوسف وغالب بن عبد الرحمن وكان يوسف في المقدمة عندما داهمنا القصر وكنا نتبعه..

ولسنا ندري عن موقع منام شيوم شيئاً ولا عن منافذ القصر ولا ممراته!
وكرر جابر قوله:
- لن تفيد منه شيئاً هو الآخر.. فاتركه.! لقد كان جهلاً مني أني لم أفتح تلك الرقعة

إلا برهة يسيرة في مجلس الوالي.. لقد ظلت مطوية منذ ذلك الحين!!
وعندما وصلوا إلى هذا الحد من اليأس، تحدث عبد القيوم في تصميم:
- يا إخوتي.. لقد حان أن أنجز ما قدمت إلى هذه البلاد من أجله.. فسوف أستغل هياج الأعداء وذعرهم وأفيد من جلبهم المزيد

من الجنود لحماية القصر وأدعي أنني جندي أتيت لتعزيز حماية القصر والدفاع عن الأمير شيوم..
وسأدرس المداخل والمخارج.. وأنظر في اقتحام البوابة.. أو أيّ طريقة تسهل دخولكم القصر.
فسأل صالح في نكد:
- ربما اكتشفوك فهم يعرفون بعضهم!!
- سأتنكر بثياب الجندي التي بحوزتي.. وسيعينني الله فأنا متوكل عليه وعندي من التفاؤل ما يجعلني أظن

أن الله سيعمي أبصارهم عن اكتشافي وسأظل متنكراً و لو أياماً قليلة.
واستخرج الملابس من سرج حصانه.. ولبسها.. فبدا كجندي حقيقي من عسكر المغول!
وسأله مالك:
- و إذا رفضوا عرضك يا عبد القيوم وطردوك؟
فأجاب باسماً بمنطق بسيط:
- إذا طردوني ورفضوا عرضي فسأرجع إليك و أجلس قبالة هذه النار وأخبرك أنهم طردوني ورفضوا عرضي.. وهذا كل ما هنالك!
وتنحى عبد القيوم بجابر وقال له:
- لقد كنت تحيد عن ذهابي وحيداً للتسلل داخل قصر شيوم وتؤجله كثيراً.. وقد حان الوقت الذي لا بد أن أنفذ

فيه ما كنت تبحث عني في أرجاء العراق لأنفذه ولا محيد لك الآن عنه.. فسأمضي حالاً ولن أنتظر الصباح
فإن نجحت فهو ما نطلب.. وإن اكتشفوني وقتلت.. فأمي أمانة في عنقك. فإن رجعت
حياً إلى بغداد فخذها إلى صهري وأختي عائشة في بطحاء النهر.
وعانقه جابر وهو يقول:
- سنلتقي مرة ثانية إن شاء الله.
وعانقه صالح وبعض الرجال.. وعانقه ياقوت بطريقة خرقاء.. ثم لوح للبقية بيده وتصايحوا داعين له.

وصعد جابر التل بعد انصرافه وظل يتابعه بطرفه لا يحيد..
عبد القيوم المثال الرائع - الذي يعرفه - للمجاهد الفدائي الذي يعيش هموم المسلمين وعينه على الجنة و رضى خالقه..

تمنى لو كان مثله في إخلاصه وبذله نفسه بسخاء فداء للمسلمين.. عبد القيوم يبتعد عن ناظريه الآن لكنه يقترب من سويداء فؤاده..
يغيب قليلاً ثم ترفعه التلال الصغيرة.. تمنى لو يعانقه ثانية.. هذا الفتى المغولي.. ذو الأخلاق الآسرة..
المندفع كالأسد لقتال عشيرته المغول ذوداً عن أبناء دينه المؤمنين.. لقد اكتشف الآن مدى الحب الذي يسكنه تجاه عبد القيوم وتباعثت
في خاطره ذكريات طفولتهما.. وصور درب الحطابين.. عندما كانا يلعبان وهما صبيان صغيران.
واعتراه شعور مرعب بأن عبد القيوم ربّما لا يعود.. ربما يشك فيه شيوم فيأمر بقتله أو إحراقه كما أحرق ياقوت!! فتمتم:
- عبد القيوم.. يا أخي في الله!!
وجاءه صوت صالح بجانبه حزيناً:
- أعرف لماذا تبكي.. أنت تحبه.!
لقد كان يبكي حقاً.. كانت دمعتان قد تسللتا من عينيه وشقا لهما طريقاً إلى لحيته القصيرة بعدما

أحدثا خطين طويلين خلال طبقة الشحوب الغبار التي تكسو وجنته النحاسية.
و قال جابر لصالح:
- لا تخبر أحداً أنك رأيتني أبكي.. فهذه الحال التي نحن فيها ليست موضع بكاء.. ولا أريد أن يعلم الرجال بذلك.
فقال صالح:
- لست وحدك.. لقد فاض قلبي بمحبته.. إقدامه وسماحته التي لا يستطيعها إلا القليل توجب الإعجاب و المحبة!
- المؤمن المخلص.. النظيف النية.. يا صالح.. هو أقدر الناس على البذل والاستمرار في العطاء.. لأنه لا يستبطئ المكافأة على عمله فيمل ويتوقف..

فهو لا ينتظرها من الخلق.. بل يحيلها على رب الخلق سبحانه وتعالى.. وكم أحس باحتقار نفسي كلما جلست إليه وتحدثت معه.!
نزل جابر وصالح من التل.. وقال جابر لجنوده:
- لقد أطلنا السهر.. ونحن بحاجة ماسة إلى نوم جيد.. وفي الصباح سيذهب اثنان منا ليجلبا لنا طعاماً يكفي أسبوعاً كاملاً..

وسنظل ننتظر ما ينجلي عنه هذا الأسبوع.. فنحن لا ندري متى يدعونا عبد القيوم لاقتحام القصر ولا بأي طريقة.
وسأل أحدهم:
- و إذا لم يعد عبد القيوم البتة؟
أجاب جابر:
- إذا لم يعد فسنعرف حينها ماذا نصنع!


يتبع









 
 توقيع :
قال تعالى {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }النجم28

دائما النية الطيبة لاتجلب معها إلا المفاجآت الجميلة
لاتغيروا أساليبكم فقط غيروا نياتكم فعلى نياتكم ترزقون



رد مع اقتباس