عرض مشاركة واحدة
قديم 09-14-2011   #5


الصورة الرمزية الغزال الشمالي
الغزال الشمالي غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 218
 تاريخ التسجيل :  Apr 2011
 أخر زيارة : 07-10-2013 (07:01 PM)
 المشاركات : 2,111 [ + ]
 التقييم :  119
لوني المفضل : Cadetblue
شكراً: 0
تم شكره 2 مرة في 2 مشاركة
افتراضي




الفصل الثالث


في البداية اعتقد جابر أن الشخص الذي رُشح ليكون ركيزة الرحلة القادمة صعب الوجود، إن لم يكن إيجاد مثله مستحيلاً..

لكن سرعان ما حدث خلاف ذلك!! فبعد خروجه ذلك الصباح من عند الوالي لم يفكر جابر غير قليل
حتى انقدح في ذهنه أن يستنجد بصديقه القديم.. صديق الطفولة.. المغولي الصغير.. الذي ربما أصبح كبيراً الآن!
عبد القيوم حسنة المغولي.. إن عهده بعبد القيوم قديم.. آخر لقاء لهما كان قبل خمسة عشر عاماً..

تاريخ غابر لا يدري أي شيء استجد فيه.. ولا ماذا صنع الزمان فيه بذلك الصبي الحيوي النحيل!
قدم والد عبد القيوم إلى بغداد بعدما خالط المغولُ الشعوبَ الإسلامية في الشرق.. فاجتذبه الإسلام، ولم يطل به التردد حتى رأى في

الدين المحمدي وشريعته وتعاليمه منجاة له من تخرصات الوثنية المغولية وخرافاتها والتي لم يقتنع بها أبداً عندما كان من أتباعها!
وآثر أن يترك قومه وبني عشيرته من التتار، وما هم فيه من الشرك والطغيان.. واستقر في بغداد،

وتسمى باسم "حسنة المغولي" وعمل حطاباً.. وتعلم كيف يتكلم العربية..
وكان حريصاً على تعلم الفقه وقراءة القرآن.. وأصبح الناس يحترمونه ويدعونه "الشيخ حسنة" وقد قدمت بصحبته من بلاد المغول
زوجته التي أسلمت مثله ووالداه اللذان أَسْمَاهُمَا عبد القيوم ومحمد وبنته عائشة.. وكان مهتماً بتعليم صبيانه فضائل الإسلام وإنباتهم على محاسنه.
وقدَّر جابر أن عبد القيوم إن لم يحد عن تعاليم والده ولم يخرج عن سبيله الذي كان يسير عليه فإنه هو الشخص المطلوب..
وتفاءل كثيراً أن عبد القيوم سيكون كذلك وسيضم إلى ذلك شجاعة ورغبة في السفر..

ثم طفق يتخيل كيف سيكون شكله بناء على ما يذكره من ملامحه عندما كان صبياً.
وبدأ البحث عن عبد القيوم.. بأن تساءل.. أين يمكن أن يكون الآن وعلى أي حال؟ وكان أول شيء فعله أن ذهب

إلى أحياء بغداد القديمة.. واتجه إلى درب الحطابين حيث نشأ هو هناك ردحاً من الزمن برفقة والده الذي كان يخدم في
الجيش العباسي وكان مولى من موالي القائد أبي الحسين بن يونس.
وهناك عانقته الذكريات.. وانداحت في خاطره ذكرى تلك الأيام البريئة

التي عاشها في هذه الأمكنة الضيقة قبل أن يرتفع ذكره ويخالط أصحاب الشان.
وقف عند بيت جارهم السابق "حسنة المغولي" الحطاب.. هنا بالتحديد كان آخر لقاء له مع ابن جارهم السابق عبد القيوم..

وهنا أمام هذا البيت توادعا بشكل بسيط بريء قبل أن يذهب مع والده وأسرته ليشب في قصر أبي الحسين ابن يونس!
طرق باب البيت الذي توقف عنده.. ثم فتح له الباب شخص مسن لم يعرفه، وسأله جابر بعد التحية:
- أليس هذا هو بيت الشيخ حسنة المغولي الحطاب؟
أجابَ الرّجل:
- لا يا بُني! لقد ترك هذا البيت منذ زمنٍ بعيد وسكنت فيه أنا..
- وأين ذهب يا عمّاه؟
- لقد قيل لي إنه انتقل إلى بستانٍ استأجره.
- وأين هذا البستان؟
- قريبٌ من "بطحاء النّهر".
- هل تعرف اسم مالك ذلك البستان؟
- إنه بستان ابن حذيفة أحد تجّار تلك الناحية.. هكذا قيل لي.
أحس جابر بخيبةٍ طفيفة.. لكنه ركب فرسه وانطلق إلى "بطحاء النهر" جنوب بغداد.. آملًا أن يلتقي بعبد القيّوم أو يجد خبرًا يقود إليه.
كان سيره حثيثًا لم يتوقّف خلاله إلّا ليتناول غداءه في إحدى الحانات التي على الطّريق..

وبعد أن استراح قليلًا واصل طريقه ليصل إلى بطحاء النهر منتصف العصر..
وما إنْ وصل حتى طفق يسأل عن بستان ابن حذيفة.. ولم يمكث طويلًا حتّى وقف على بابه..
وكانت خيبته هذه المرّة أكبر!
كان البستان مهملًا منذ مدة طويلة وقد انهدم سياجه.. واستعمرته الأشواك والحشائش.. وتهدّلت أغصان أشجاره واكتسا

جريد النّخيل فيه لون الصّفرة الباهتة.. وكانت بضع بقرات تجول فيه بحريّة!
وقف على حصانه واجمًا.. أهذا ما كان يرجو بعد سيره المتواصل!!
وقدّر في نفسه أنّ ابن حذيفة الثّريّ في غنى عن العناية ببستانٍ كهذا.. لكن أين
حسنة المغولي وولده عبد القيّوم.. وبقيّة أسرته!؟
تجوّل في جنبات البستان المهجور قليلًا ثمّ خرج.. وعند الباب صادفه شاب يافع يركب بغلًا عليه سرج ثمين..

وكان مشدود الجسد، صغير العينين،بالغ النّظافة، عليه شارات الرّخاء. وعند رؤية الشّاب له شدَّ عنان بغله وتوقّف..
وألقى جابر عليه السّلام فسأله الشّابُّ بصلف:
- عمّ تبحث هنا؟
ردّ جابر بسؤال:
- أبحث عن تاجر من أهل هذه الناحية يدعى ابن حذيفة؟
- وماذا تريد منه؟
- أريده لأمرٍ يخصّني.. هل تستطيع أن تدلّني عليه بأيّ ثمن؟
- ربّما أدلّك عليه بلا ثمن إذا قلت لي من أنت، وماذا تريد به!
بدأ جابر يتضايق من الشّاب فقال في حدّةٍ تشابهُ صَلفَه:
- يا هذا، دلّني على بيته أو انصرف!
قال الشّاب بمثل حدّته:
- لقد رأيتك تجول في البستان بلا إذن.. وتدوس الحشائش بحوافر حصانك!
- أتخشى على هذه الحشائش من حوافر حصاني وتغفل عن هذه الأبقار التي تعيث فيه فسادًا؟!
- أهل البستان أحرارٌ في أن يُدخلوا إليه بقرًا أو بشرًا!
لم يكن عند جابر وقت ليضيّعه.. لذا لكز جنب حصانه منصرفًا ولم يكد يبتعد حتى ناداه الشاب وهو يحاذيه:
- تعال.. انتظر.. لماذا تنصرف وأنا لم أنتهِ بعد من كلامي؟
- أنتَ فتىً غير مفيد.. والكلام معك سيفضي بنا إلى الشّجار!
- أين ستذهب؟
- لا شأن لك!
- توقّف.. سأخبرك عن ابن حذيفة.
توقّف جابر عندما برق له الأمل في الإفادة من هذا الشاب المشاكس وقال:
- ماذا تريد أن تقول؟
- ألن تخبرني عن حاجتك بابن حذيفة؟
- لا..
- إذًا فاذهب واسأل عنه!
مدّ جابر يده وسحب سوطه ولوّحَ به في وجهه وهو يقول:
- إذا لم تنصرف حالًا سأذيقك طَعمَ هذا!
فقال الفتى هادئًا:
- أنتَ تغضبُ بسرعة!
واصل جابر مسيرَهُ فجعل الشاب يسير محاذيًا له.. وبعد أن اطمأنَّ إلى أنّ جابر هدأ قليلًا قال:
- امضِ في اتّجاهكَ هذا حتّى يقابلك حائط.. وإذا انتهى الحائط ستجد بيتَ أبي أمامك.
- أبوك؟!
- نعم.. أنا صالح بن حذيفة.. ولدُه.
- لماذا لم تقل لي ذلك قبلًا؟
- الحكمة تقتضي أن أعرف مَن أنت وماذا تريد من والدي.
توقّف جابر وسأل صالحًا على الفور:
- أريد أن أسألك عن رجلٍ مغوليّ استأجر بستانكم؟
- أيّ البساتين تقصد؟
- البستان الذي كنّا عنده.. هل عندكم بستانٌ غيرُه؟
- لا.. هذا بستاننا الوحيد.
لم يرد جابر بشيء فمن الواضح أنّ الشّاب يسعى لإغاظته ومشاكسته وتابع الشّاب:
- إذًا تريد أن تسأل عن المغولي حسنة؟
- نعم، هل هو هنا؟
- لا.. أقام هنا مدّةً ثمّ رحل بأولاده.
- إلى أين؟
- لا أدري.
- متى؟
- قبل ثلاث سنوات.
- يا للخيبة!
قالها جابر بأسى ممّا دفع "صالح" أن يسأل سؤاله المضجر:
- لماذا تبحث عنه؟
- أنا أريده وكفى!
- من أين جئتَ يا رجل؟
- من بغداد.
- إذًا ستحلّ ضيفًا عندنا.
وتساءل جابر هل يمكن أن يكون هذا الفتى المضجر مضيافًا؟! وتابع "صالح" دعوته:
- لقد أقبل الليل ولا خان هنا.. ليس لك إلّا الرّحيل في الصباح.
- سأنام في المسجد.. وأرحل غدًا.
قال الشابُّ ضاحكًا ومسالمًاً:
- المسجد قريبٌ من المستنقع.. وهناك بعوض أصغر من حصانك قليلًا.. ولن يدعك تنام بسهولة..

تعال عندنا فالبيتُ واسع ووالدي لا يغلق بابه دون أيّ ضيف فهو قد أصبح موئلًا للأضياف وعابري السبيل.
فقال جابر ساخرًا:
- وهل ستبيت أنت في ذلك البيت؟
- وهل تريدني أن أبيت في الطريق؟! سأنام بعيدًا عنك ولن أؤذيك.. كنت أسعى فقط لأكتشف مَن أنت؛ فالحكمة تقتضي ذلك..

ثمّ إنّك لن تعدم الفائدة فأبي ربّما أخبرك عن حسنة المغوليّ وأسرته بشيءٍ يدلّكَ على مكانهم.
ابتهج جابر ثانيةً وقرّر أن يمضي مع الشّابِّ الغريبِ الأطوار الذي تنازلَ عن مشاكساتِه واستفزازه واستحالَ مضيافًا يُطلقُ عبارات التّرحيب بسخاء!
مضى برفقته في شيءٍ من الفأل وسأله أثناء الطّريق:
- مَن كان يقيم مع الشّيخ "حسنة" عندما جاء ليكتري بستانكم؟
- كانت زوجته معه بالإضافة إلى ولده الوحيد "عبد القيّوم".
- هل رأيتَ عبد القيّوم؟
- نعم، لماذا تسأل بلهفة؟!
- كان صديقًا لي.. لكن أليسَ للشيخ "حسنة" غير ولده.. ألم يكن هناك ولدٌ أكبر من عبد القيّوم وبنتٌ اسمها عائشة؟
- لم أرَ إلّا عبد القيّوم.
- كيف هو عبد القيّوم؟ حدّثني عنه.
- إنّه شابٌّ صاحبُ جدٍّ وعمل.. كما أنّه كان قويًّا.. لقد رأيته ذات مرّة وقد انكسرت فأسه يستخدم يديه لتكسير الحطب!
- وماذا بعد؟
- كان شديد البرِّ بوالده وأمّه.
- وكيف هو في أمور الدّين؟
- إنّه صاحب استقامة.. لم يكن لديه وقتٌ للفساد.. فهو يراوح ساعاته بين عمله مع والده في البستان وبين الجلوس في المسجد للصلاة والقرآن.
- هذا أهم ما أريد.. وماذا بعد؟
- الحقّ أنّي لا أعرفه جيّدًا.. إلّا أنّه شابٌّ موفّقٌ وحازم.
بان السّرور في وجه "جابر" ولم يسأل "صالح" عن شيءٍ آخر.. لقد اقترب الرّجل المستحيل الوجود من أن يكون حقيقة!
وأشار "صالح" إلى دارٍ واسعةٍ وهو يقول:
- هذه دارُ أبي.. مرحبًا بكَ يا بغداديّ.
نزل جابر وصالح وربط جابر حصانه فيما ابتدر بغل صالح خادم تناول عنانه وانصرف به في حفاوة بالغة.
وفي الدار التقى جابر مضيفه ابن حذيفة.. وكان الأخير بشوشًا. وبعد حديثٍ قصير قال جابر:
- أنا أبحث عن حسنة المغوليّ الذي استأجر بستانكم.. وقد أخبرني صالح أنه رحل من بطحاء النهر.. فهل لي أن أعرف إلى أيّ مكانٍ انتقل؟
مسك الشيخ لحيته وقال:
- لقد استأجروا بستاني ثمّ رحلوا إلى أرض العالية حيث لم الشّيخ حسنة طين البستان.
- وأين أرض العالية؟
- مسيرة يومين من بلدتنا هذه.. لكن ماذا تريد منها؟
أريد مقابلة عبد القيّوم أحد أولاد حسنة المغوليّ.. والسّلام عليه وعلى والده.. إنّهم جيرانٌ لنا منذ زمنٍ بعيد.
قال الكهل في شيءٍ من الوجوم:
- لن تجد هناك أحدًا.. فقد توفّي الشّيخ حسنة ورحلت زوجته وابنها عبد القيّوم إلى بغداد.
- هل توفّيَ الشّيخ حسنة حقًّا؟!
- نعم.. كنت أظنّك تعلم ذلك!
- لا.. لم أعلم بوفاته إلّا السّاعة.. رحمه الله!
- لقد آسفني موته فقد كان شيخًا صالحًا ذا تقى.
- وأين ذهبت أسرته؟
- رجعوا إلى بغداد مرّةً ثانية.
- قد أخبرتني بذلك.. لكنّي أسأل في أيِّ موضعٍ من بغداد؟
- لستُ أعرف بغدادَ جيّدًا يا بُنيّ.. لكنِ الفتى عبد القيّوم قال لي وقد زارني مرّةً ليفي بما كان لي على والده..

إنّهم يسكنون في دربِ الميزاب في الشّرق من بغداد.
قفز جابر من مجلسه والشّيخ يستبقيه لكنه قال بلهجةٍ يكدّرها خبر الوفاة:
- الشّكر لله يا عمّاه ثمّ لك فقد أفدتني كثيرًا..
فقال الشّيخ:
- هل سترحلُ في هذا الليل؟!
- لا بدّ أن أبيتَ الليلةَ في بغداد.. أنا على عجلةٍ من أمري.
- نحن لم نعرف اسمك يا بُنيّ ومَن تكون؟
- اسمي جابر الحبشيّ.. وأنا من رجال الوالي ببغداد.. أبي الحسن بن يونس.
هزَّ ابن حذيفة رأسَهُ مستغربًا ثمّ قال:
- ليتني أعرف ماذا يحدث! ولماذا الاهتمام بالشّيخ المغوليّ وابنه عبد القيّوم..

لقد جاءني قبل يومين شابٌّ مثلك يسأل عن عبد القيّوم ويقول إنّ له صلة بالوالي!
دهش جابر، واتّسعت حدقتاه، ثمّ هدأ وزوى ما بين عينيه قائلًا:
- ألم يذكر اسمه؟
- بلى، قال إنّ اسمَه يوسف بن محمّد.. وكان مثلك؛ على عجلة من أمره!
بَدَت الحيرة المشوبة بالغيظ في وجه جابر عند سماعه اسم يوسف بن محمّد، لكنّه شكر الشّيخ شكرًا بالغًا وودّعه في عجلة أثارت المزيد من دهشته!

ثمّ ركب حصانه وقد اعتزم ألّا يبيت إلّا ببغداد.. ولكنه لم يكد يتوارى خلف قصر ابن حذيفة حتّى ناداه مِن خلفه صوتُ أحد الخدم قائلًا:
- انتظر.. إنّ سيّدي ابن حذيفة يريدك!
ورجع جابر إلى حيث كان الشّيخ واقفًا ومن خلفه ابنه "صالح" راكبًا حصانًا أحمَرَ عليه بعض العتاد.. وابتدرَ الشّيخ الكلام قائلًا:
- أريد منك يا بني أنْ تسمح لابني هذا أنْ يرافقكَ إلى بغداد..
فقال جابر:
- ذلكَ لن ينقصني شيئًا.. ولا مانع لديّ أنْ يصاحبني إلى بغداد على ألّا يتأخّر في تجهيزِ نفسِه.
وهتفَ صالح على الفور وبجذل:
- أنا جاهزٌ للرّحيل.
وودّع صالح والدَه وانطلقَ بصحبةِ جابر يسيران بشيءٍ من العجلة.. وجابر يتمنّى ألّا يزعجَهُ هذا الفتى المتقلِّب.

وقد لاحظَ أنّه كان يعطي والدَهُ المواثيقَ المؤكّدَة ألّا يضرَّ بنفسِه وأنْ يعودَ سريعًا!
وأمعَنَا في السّير وجابر سارِحٌ يفكّر في يوسف كيفَ يعرفُ عبد القيّوم؟! وماذا يريد منه؟!

وهل يبحث عنه لذات الغرض الذي يبحث هو عنه من أجله؟ وهل سبقه واتّصل به وعرض عليه رحلة قانين؟
لقد بدأ يوسف "العمل" بشكل سريع.. وبدأت حمّى المنافسة تشتعل بينهما قبل بدء الذّهاب!

وأخشى ما يخشاه جابر أن يكون يوسف عقبة في طريقه في مستقبل هذه الرّحلة الخطيرة..
مع أنّ الوالي ابن يونس أكّد له أنّ يوسف سيكون تحت إمرتِه ولن يخالفه حتّى يرجعوا.. إنْ كُتبَ لهم الرّجوع!
وحتّى يهرب من هذا الخاطر المزعج التفت جابر إلى مرافقه وقال:
- هل تعرف أحدًا في بغداد؟
أجاب صالح:
- لا.
- هل تقصد بغداد لتتجوّلَ في أسواقها؟
- لا.. مع أنّ هذا هو ما تعلّلت به عند والدي.. وحصلت منه على شهرٍ أمضيه هناك.. شهرٍ كامل!
- إذًا لماذا تذهب إلى بغداد؟
- أريد أن أرى البلاد والعباد، فأبي يُشفق عليَّ من شعاع الشّمس ونسمةِ الهواء..

ويغدق عليّ المال لكنه لا يريدني أن أذهب بعيدًا عنه.. كأنّني ما زلتُ طفلًا صغيرًا!
ضحك جابر من حيلة صالح وسأل:
- لماذا يصنعُ بكَ هكذا؟ أليسَ الأوْلَى أنْ يدعكَ تنشأ رجلًا متدرّبًا على المخاطر وكافّةِ الظّروف؟
- إنه يفعل ذلك بدافع محبته لي.. ولقد تمنّيت أنْ أطوفَ الدّنيا وأذهبَ للغزو وأحارب كالرّجال.. لكنّ أبي لا يلتفت إلى أحلامي هذه!
- ربّما تكون ولدَه الوحيد إذًا!
- لا.. لي خمسةُ إخوة.
- هو ذاك.. أنا الأصغرُ فيهم، وقد توفيتَ والدتي وأنا صبيّ فأصبحتُ موضعَ حنانِ أبي وشفقتِه..

لكنّه استمرّ على هذا الحنان المُملّ إلى يومنا هذا مع أنّي تجاوزتُ الثّامنة عشرة من عمري.
- عندما تتقدّم في العمر سيعجب بك والدك أكثر فاحرِص على برّهِ ولو أضجرتكَ عنايتُهُ الزّائدةُ بك.. فهو لا ينشدُ إلّا منفعتَك،

أنا أكرهُ التّربيةَ القائمة على العناية المبالغ فيها؛ إنّها لا تنتج إلّا نشًأ رخوًا.. لكن برّ الأبوين أمرٌ لازم.
- هذا عينُ الحكمة يا جابر الحبشيّ.. إذا تزوّجتُ ورزقني اللهُ فتيانًا سأقذفُ بهم في خشنِ الأعمال وأنبتهم نباتًا

يجعلُهم قادرين على تقبّلِ الأحمال الثّقيلة.. وها أنتَ تراني أفرُّ من كنفِ الدّلال لأبحثَ عن غيره!
- لقد كانت تلكَ سيرةُ أبي معي.. فكثيرًا ما كانَ يصحبُني معهُ في أسفارِه عندما يكونُ

برفقةِ القائدِ ابن يونس وقد حملتُ السّيفَ وأنا أصغرُ منكَ بعامين.
- سأعتمدُ على نفسي.. وأزجُّ بها في الشّدائد إذا أمنتُ الضّررَ على نفسي أو منّي.. وأمنتُ أنّي أفيدُ وأستفيد.
- تقصدُ أنّكَ ذاهبُ للبحثِ عن المغامرةِ والمخاطرَة؟
- قريبٌ من ذلك..
وبعدَ صمتٍ قصير أضافَ صالح:
- إذا وصلنا بغداد.. هل تُسدِي إليَّ معروفًا وتطوفُ بي في نواحيها بما أنّكَ من أهلها؟
- سأفعلُ.. وستنامُ عندي هذه الليلة وفي الصّباح نذهبُ إلى حيثُ تريد.

دخل جابر ورفيقه بغداد من جهةٍ تزدحمُ بالبساتين.. وكانَ الظّلامُ دامسًا.. زادَهُ قتامةً تقارُبُ الأشجارِ والنّخيل..
وسارا في ممرٍّ ضيّقٍ لا يكفي لمرورِ حصانين معًا.. وكان جابر في المقدّمة يتبعه صالح الذي قال وهو يشدّ عنان حصانه:
- لقد سقطَ بعضُ متاعي.. تقدَّم؛ سألحقُ بك.
ونزلَ عن حصانه ملتقطًا متاعَه، وعندما ركب الحصانَ ثانية سمع صوتًا ينبعث من الظُّلْمَة في الجهةِ الذي ذهبَ جابرُ فيها..

كان ذلك الصّوت يأمر جابرًا في خشونة أنْ ينزلَ عن حصانِه.. وينهرهُ بشكلٍ أكّد لصالح أنّهُ عدوٌّ أو لصّ.
وبهدوءٍ بالغ ربطَ صالح حصانَه في غصنِ شجرة وتسلّقَ جدارَ البستان المجاور وتوغّل فيه حتّى وصلَ إلى حيث الصّوت.. كانا رجلين

لا واحدًا فتسلّلَ حتّى أصبحَ خلفَهما مباشَرَة.. كان الرّجلان ملثّمَين، وكانا يقفان متباعدين وقد سلّا سيوفَهما وحاصرَا جابرًا الذي نزلَ عن حصانِه..
بدأ قلبُ صالح يخفقُ بشدّة.. ولمْ تخلُ أطرافُهُ من رعشَة.. وشعرَ وهو الباحثُ عن المغامرة أنّ هذا امتحانٌ مفاجئٌ للشّجاعة التي يعتقدُها في نفسِه..

لذا شرعَ يفكّرُ في طريقةٍ يهاجمُ بها الرّجلين ويُنقذُ صاحبَه.
بعدما نزلَ جابر عن حصانِه سألهما:
- ماذا تريدان؟
ردّ الأوّل الذي كان ينهره بخشونة:
- اقترِب وهاتِ ما معك.
فقال جابر:
- أنا لا أهابُكما.. ولنْ أعطيكما شيئًا.
تلفّتَ الرّجلُ يبحثُ عنِ الشّخص الذي كان برفقةِ جابر فلمّا لم يشاهده..
هدّدَ جابرًا منتهرًا:
- ألقِ سيفَك وإلّا استعملتُ سيفي.
لمّا رأى جابر ألّا حيلةَ له ألقى سيفَه.. وهو يتساءل أينَ صالح ويأمل أنْ يكون بعيدًا حتّى لا يتعرّض للخطر..

وأدخل في يدِه في جيبِه وقذفَ بما معه من المال على الأرض لكن الرّجل لم يتقدّم لأخذ المال.. بل قال:
- هاتِ كلّ ما معك من أشياء!
هتفَ جابر بحنق:
- إنْ كنتَ تريدُ المال فهذا هو المال.. خذه قبّحكَ الله!
عند ذلك دنا منه الرّجلان وفيما أمسكَ أحدُهما بيديه خلفَ ظهرِه.. دسَّ الآخرُ يدَهُ في ثيابِه باحثًا فلم يجد شيئًا، فنظرَ إلى صاحبِهِ نظرةً قلِقة

فاتّضحَ لجابر أنّهما يبحثان عن شيءٍ غير المال. واتّجَه الرّجلُ إلى الحصان وجعلَ يبحثُ في سرجه.. حتّى استخرجَ منه الرّقعةَ التي رسمَها
المنذر بن سعد قبل رحيلِه.. فلمعت البهجةُ في عينيه عندما فتحها وتأكّدَ من أنّ الرّسومَ بداخلِها.. لكنّه لم يهنأ بتلكَ البهجة! فقبلَ أن يصيحَ
بصاحِبِه الذي يقبضُ على جابر آمرًا لهُ بالهروب.. انقضَّ عليه صالح من الظّلام انقضاضًا وضعَ فيه كلّ ما يملك من اندفاعٍ وقوّة..
وارتعبَ الرّجلُ قبلَ أنْ يسدّد إليه صالح عدّةَ لكمات بقبضته الصّلبة غير الخشنة!
وعندما رأى جابر ذلك أطاحَ بخصمِهِ هو الآخر.. وجعلَ الرّجال يتعاركون وسط الظّلام.. لكن اللصوص كانوا ضخام الأجسام..

واستطاع جابر أنْ يضرب خصمَه ضربةً جعلته يتهاوى ثمّ أسرع إلى صالح وساعدَه منتزعًا الرّقعة من يد اللّص الذي استطاع الإفلات والهرب..
ولم يحاول أحد من الشّابّين اللحاق به.. فاتّجها إلى صاحبه ليجداه قد لاذَ بالفرار أيضًا!
تكلّم جابر متصاعد الأنفاس مبديًا إعجابه برفيقِ رحلتِه:
- لقد أنقذتني.. لولاكَ لمَا انفككتُ منهما!
وردّ صالح في سرورٍ منفعل:
- لقد صنعتُ شيئًا لأوّلِ مرّةٍ في حياتي أصنعه!
- إنّها المغامرات التي تبحثُ عنها جاءتكَ سريعًا يا صالح!
- من فضلِ الله إنّهما نسيا أخذ المال.
ردَّ جابر بعمق وهو ينفض التّرابَ عن ثيابِه:
- إنّهما لا يريدان المال.. لقد كانَ المال سترةً يخفيان به ما يبحثان عنه حقيقةً!
- عمَّ يبحثان إذًا؟!
متأمّلًا أجابَ جابر:
- إنْ لمْ يخب ظنّي فإنّهما كانَ يريدان هذه الرّقعة.. لم أتوقّع أنْ يصل الأمر إلى هذا الحد يا يوسف!
- الرّقعة! أيتركان المال ويحاولان أخذَ رقعة؟ إنّه الغباء!
- بلِ الذّكاءُ يا صالح.. إنّ الرّقعة تُساوي مدينةً بكاملها!
- مَن هوَ يوسف هذا؟ وهل كنتَ تعرفُ هذين الرّجلين؟ وأيّ مدينة تقصد؟
- لا أعرفهما.. لكنّي أشكّ أنّهما مرسلان من قبلِ يوسف!
- هل يوسف هذا من أعدائك؟
- إذا استمرّ في ألاعيب كهذه سيُصبحُ حتمًا عدوًّا لدودًا!
- ومَن هو يوسف؟
- شخصٌ ما..
- أعرفُ أنّه شخص وليسَ جنّيًّا ولا حيوانًا!
- إنّه يُشبهُ الجنّ!
- أنتَ لا تُريدُ إخباري بشيء.. لكنّي تذكّرت.. ربّما يكون يوسف بنَ محمّد الذي زارَ والدي بحثًا عن عبد القيّومِ المغوليّ!
- ما رأيكَ أنْ نواصلَ مسيرَنا يا صالح؟
وسكتَ صالح الفضوليّ على مضض.. وهو لا يشكّ أنّ صاحبَهُ يُعالجُ أمرًا غامضًا وربّما خطيرًا.. وأنّه في شوقٍ كبيرٍ لمعرفتِه!
واصلوا طريقَهم وتوغّلوا داخلَ المدينةِ الكبيرَة.. وقاد جابر ضيفَه إلى منزلِه..

وما أنْ ألقوا جُنُوبَهم على الفُرُش بعدَ تعبِ المسير المتواصل حتّى أخذَهم النّوم.

يتبع










 
 توقيع :
قال تعالى {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }النجم28

دائما النية الطيبة لاتجلب معها إلا المفاجآت الجميلة
لاتغيروا أساليبكم فقط غيروا نياتكم فعلى نياتكم ترزقون



رد مع اقتباس