المقصد السادس: الصبر
الصلاة هي مصنع العلم والإيمان الذي يحصل به الصبر والثبات في هذه الحياة وقد أوصانا الله عز وجل بهذا الأمر العظيم حين قال:"يَا أَيُّهَا الَّذينَ ءَامَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلَاةِ ‘ِنَّ اللهَ مَغَ الصَّابِرِينَ"البقرة: ١٥٣
وكانت الصلاة هي وصية الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في بداية التكليف بالرسالة والدعوة ، ومن ذلك قوله تعالى :"وَاصْيِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنَنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِيْنَ تَقُومُ(48)وَمِنَ الليلِ فَسَبِّحْهُ وَإدْبَارَ النُّجُومِ" الطور: ٤٨ - ٤٩ ،"قُمِ الليلَ إلَّا قَلِيلًا" المزمل: ٢،"إنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا" المزمل: ٥،"وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ واهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا" المزمل: ١٠،"إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرءَانَ تَنْزِيلًا(23)فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِمًا أَوْ كَفُورًا(24)وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا(25)وَمِنَ الليلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا" الإنسان: ٢٣ - ٢٦.
مع بداية بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وفي الأيام الأولى جاء فرض صلاة الليل على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى من معه من المؤمنين ، وكان أول فرضها كما بينته آيات سورة المزمل : "قُمِ الليلَ إلَّا قَلِيلًا(2)نِصْفَهْ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا(3)أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا(4)إنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا(5)إنَّ نَاشِئَةَ الليْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْئَا وَأَقْوَمُ قِيلًا(6)" المزمل: ٢ - ٦، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من صحابته الكرام سنة كاملة حتى تورمت أقدامهم ، ثم خففت هذه الصلاة بقوله تعالى :"إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَىِ الليلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ واللهُ يُقَدِّرُ الليلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِ الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَءَاخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وءَاتُوا الزَّكاةَ وَأقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" المزمل: ٢٠، وبقي النبي صلى الله عليه وسلم على الفرض الأول.
فالصلاة هي زاد المسلم ومصدر طاقته في هذه الحياة، لا يستطيع بدونها أن يعبد ربه وأن يستقيم على دينه ، ويبلغ رسالة ربه.
يقول تعالى :"إنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا(19)إذَا مَسَّهُ الشَّرُ جَزُوعًا(20)وَإذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا(21)إلَّا الْمُصَلِّنَ(22)الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ(23)" المعارج: ١٩ - ٢٣ هذه الآيات تؤكد أن المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون ليسوا من هذا النوع من الناس ، بل هم على العكس من ذلك فهم إذا مسهم الشر صبورون ، وإذا مسهم الخير شكورون.
فمن مقاصد الصلاة المهمة التي يجب أن تكون حاضرة في قلب العبد أن من يصلي فإنه يحصل على القوة والثبات في هذه الحياة ، ويسلم من نكدها وكدرها فهو يعيش في واحة الإيمان وجنة الرضا في كل أحواله.
والصلاة هي وسيلة الصبر عن المعاصي والحماية من الشهوات كما قال تعالى ::"اتْلُ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ واللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ" العنكبوت: ٤٥ ، ففي هذه الآية بين الله تعالى مقصدين من مقاصد الصلاة: الأول: أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والثاني: تحقق ذكر الله تعالى في القلب ، ونص سبحانه على أن المقصد الثاني أعلى وأكبر وأهم ، وذلك أن الأول ما هو إلا نتيجة وثمرة للثاني، ولو لم يكن للصلاة سوى هذا المقصد وهذه الفائدة والثمرة لكفى حافزا للحرص عليها والعناية بها.
إن الصبر وقوة التحمل وقوة الإرادة غالية وثمينة جدا، وكثير من الناس يبحث عنها ولا يجدها، فإذا علمت أنها الإيمان، والإيمان هو الصلاة علمت أن الصلاة غالية وثمينة فاحرص عليها لتستدرك حياتك ووقتك وتحافظ على جهودك وتبني مستقبلك في الدنيا وفي الآخرة.
إنه علاج مؤكد أكده أصدق القائلين، وهو علاج مجرب جربه ألاف الصالحين ، وكل من عرفه وذاق حلاوته ورأى نفعه لم يطق فراقه أو الصبر عنه، ولم يفرط فيه بقية حياته كلها.
إنها كلمة نوجهها لكل الذين أزعجهم وأقلقهم ضعف إيمانهم، ضعف إرادتهم وقلة صبرهم، فأوقعهم في النقائص ، وقعد بهم عن بلوغ الفضائل، نقول لهم عليكم بالصلاة ففيها الدواء الناجح والعلاج الشافي.
فنحن نصلي من أجل أن نصبر ، نصلي من أجل أن نفقه حقيقة وجودنا في هذه الحياة الدنيا وما بعدها من الحياة الأخرى فنتعامل مع أحوال الحياة في السراء والضراء بمواقف سديدة وآراء صائبة هذا من أهم مقاصد الصلاة.
جاء في أول سورة طه قول الحق تبارك وتعالى:"إنَّنِى أَنَا اللهُ لَا إِلهَ إلَّا أنَا فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِى" طه: ١٤ ، وقريبا من آخر السورة جاء قوله سبحانه :"قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإَمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّى هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى(123)وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" طه: ١٢٣ - ١٢٤ فأولا بيَّّن سبحانه وتعالى أنه لا إله في هذا الوجود سواه ، ولأجل هذا فهو وحده لا شريك له المستحق للعبودية ، ثم بيَّّن الطريق إلى تحقيقها وهو إقامة الصلاة ، فإقامة الصلاة يحقق ذكر الله تعالى؛ أي إخلاص العبودية له سبحانه وتعالى ، ثم بيَّّن أن اتباع ذكره سبحانه هداية وأمان من الضلال والشقاء وأن من فرط فهو مستوجب للضلال والشقاء والضنك في الحياة الدنيا والآخرة.
ثم ختم سبحانه السورة بالأمر بالصلاة وبيَّّن أنها الطريق إلى سعادة الدنيا والآخرة فقال تعالى : "فَاصْيِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبَّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنَ الليْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى(130)وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إَلَى مَا مَتًَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيْهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى(131)وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى(132)"طه: ١٣٠ - ١٣٢ ، فجمعت هذه الآيات أطراف هذا المقصد فبينت أن الطريق إلى الصبر والرضا هو الصلاة في كل الأوقات ، وأن من فعل ذلك لم يغترَّ بما فُتن الناسُ به من زهرة الحياة الدنيا ولهوها ولعبها ومتعها الزائلة ، وأكدت الآيات أن من قام بالصلاة وصبر عليها فإن الله تكفل له بالحياة الكريمة الطيبة ورزقه مكفول فلن يحتاج إلى أحد من الخلق أبدا، والرزق كلمة عامة تشمل كل ما يحتاجه الإنسان في أمور معاشه.