صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في مدينة أوترانتو وبعض مدن ولاية بوليا الإيطالية

صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في مدينة أوترانتو وبعض مدن ولاية بوليا الإيطالية
صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في إيطالِيَّة (14)



أوترانتو: (otranto)



أوترانتو[1] - أو أطرانط كما أسماها الدكتور حسين مؤنس[2] - هي مدينة تُطِلُّ على المَضِيق المُسَمَّى باسمها (مضيق أوترانتو)، والذي يصل البحر الأدرياتيكي بالبحر الأبيض المتوسط، ويصل من جهة أخرى البحر الأيوني بالبحر الأدرياتيكي، ويُعَدُّ هذا المضيق حَلَقة وَصْل بين شبه جزيرة البَلْقان - لاسيما ألبانيا المواجهة للجانب الآخر منه - من جهة الشرق، وشبه الجزيرة الإيطالية من جهة الغرب[3].



ومما يجدر التنبيه عليه: ضرورة التمييز بين تارانتو، وأوترانتو؛ فإن تارانتو - أو طارنت في المصادر العربية - هي تلك المدينة الساحلية المُطِلَّة على مياه البحر المسمى بالبحر الأيوني، ولها خليج يسمى باسمها (خليج تارانتو) مفتوح على مياه البحر المذكور.



وليس لدينا في المصادر ذِكْرٌ لتاريخ فَتْح هذه المدينة، ولكن أرشيبالد لويس قد ذكر أن قوات الإمبراطور البيزنطي باسيل الأول استولت على أوترانتو عام 873 م[4]، وقد سبق بيان الأحداث المُصاحِبة لذلك، عند الحديث عن سقوط مدينة باري في أيدي تلك القوات، وحُلفائها من الكارولنجيين، والبَنادِقة.



وذكر أرشيبالد[5] أن مدينة أوترانتو أغارت عليها قوات البحرية الإسلامية الصقلية سنة 977 م، أي في نفس العام الذي أغارت فيه تلك القوات على مدينة تارانتو، كما مَرَّ ذِكْرُه.



جهود العثمانيين في السَّيْطرة على ميناء أوترانتو الحَيَوِي:

لقد كان للعثمانيين صولات وجولات في مضيق أوترانتو، والبحر الأدرياتيكي؛ فقد فتح العثمانيون في زمان السلطان محمد الفاتح رحمه الله تعالى الجزر الواقعة بين بلاد اليونان وإيطاليا، وذلك في سنة 1480 م، ثم بعدها سار القائد كدك أحمد باشا بمراكبه لفتح مدينة أوترانت بإيطاليا؛ لأن السلطان محمد رحمه الله تعالى كان قد عزم على فتح جميع إيطاليا، ويقال: إنه أقسم بأن يربط فَرَسه في كنيسة القديس بُطْرُس بمدينة روما، مَقَرّ البابا، ففُتِحَتْ مدينة أوترانت عَنْوَة في يوم 4 جمادي الثانية سنة 855 ه-، 11 أغسطس سنة 1480م، وصارت قلعة أوترانتو مركزًا لسنجق - أي لواء عسكري - عثماني[6].



وقد استولى البنادقة على أوترانتو سنة 1481م، وبقوا فيها نحو ست وخمسين سنة إلى أن فتحها السلطان سليمان القانوني رحمه الله تعالى بعد عدَّةِ معاركَ بريَّةٍ وبَحريَّةٍ في آفالونيا - وهي بألبانيا- وجزيرة كورفو اليونانية، وبرنديزي بإيطاليا.



ففي مايو سنة 1538 م جمع السلطان سليمان القانوني ببلاد الارنؤوط[7] جيشًا عظيمًا، مُؤلفًا من مائة ألف مُقاتل لشَنِّ الغارة على بلاد إيطاليا، وذلك وفقًا لاتفاق مُبْرَمٍ مع ملك فرنسا في ذلك الوقت فرانسوا الأول على محاربة شارلكان ملك النمسا- وقد كانت أجزاء كبيرة من إيطاليا في ذلك الوقت خاضعة له - وكان مع السلطان سليمان ولداه: محمد، وسليم، وسفير فرنسا المسيو دولا فوري، ونزل في الوقت نفسه خير الدين باشا البحري، المعروف في المصادر الأوروبية بخير الدين بارب روس[8] بميناء أوترانت بجنوب إيطاليا؛ استعدادًا لمهاجمتها من جهة الجنوب، بينما يهاجمها السلطان سليمان من جهة الشرق، وملك فرنسا من جهة الغرب، لكن هياج الرأي العام النصراني ضد تحالف فرانسوا الأول مع الدولة العثمانية، أدى إلى إحجامه عن إكمال الخُطَّة المُتَّفَق عليها[9]؛ خَشْيَة أن يرُمْى بالمُروق عن دينه النصراني، باتحاده مع دولة إسلامية؛ لمحاربة دولة نصرانية تَدِين بدِيْنه، وكان هذا سببًا في عدم نجاح هذا المشروع، الذي كان من نتائجه المُتَوَقَّعة - إن تَمَّ - أن تدخل بلاد إيطاليا بأسرها تحت ظِلِّ الدولة العثمانية، وانتهى الأمر بتوقيع هُدْنَة نيس سنة 1538 م بين فرنسوا ملك فرنسا وشارلكان إمبراطور النمسا، ومُلْحَقاتها[10].



وذكر الكتاني رحمه الله[11] أن الدولة العثمانية فتحت ميناء أوترانتو سنة 1480م واستمرت فيه إلى 1481 م، ثم فتحته مرة أخرى سنة 1715 م.



وما ذكره في الفتح العثماني الأول لها موافق لما تَقَدَّم ذِكْرُه من فتحها في عهد السلطان محمد الفاتح رحمه الله تعالى، وما ذكره في الفتح الثاني لها مخالف لما تقدم ذكره من الفتح الثاني لها في عهد السلطان سليمان القانوني رحمه الله تعالى سنة 1538 م.



وقال الأستاذ محمود شاكر السوري[12]: وفي أيام الدولة العثمانية دخل المسلمون ميناء أوترانتو في الجنوب عام 885 ه- أيام السلطان محمد الفاتح، وبقوا فيه حتى عام 1124 ه-،انتهى.



والصحيح أن السيطرة على المدينة لم تكن خالصة للعثمانيين طيلة تلك المدة كما مَرَّ بيانه.



جرافينا:

ذكر أرشيبالد لويس[13] أن المسلمين نهبوا مدينة جرافينا سنة 975 م.



واري:

ذكر الدكتور حسين مؤنس رحمه الله تعالى[14] أن وادي وارoria في كلابريا قد تَعَرَّض لغارة مشهورة، قام بها أُسطول للدولة العُبَيْدِيَّة أيام المَهْدِي العُبَيْدِي، أي منذ الأيام الأولى لدولتهم، وعادت تلك الغارة بغنائم وفيرة جدًا.



وتقع مدينة واري حسب الخرائط التي أوردها الدكتور حسين مؤنس في كتابه المذكور[15] في إقليم بوليا، في حين أنه نَصَّ هو في الموضع الفائت[16] على وقوعها في إقليم كالابريا كما مرَّ.



ولعل هذه المدينة هي المقصودة في كلام أرشيبالد[17] حين تحدث عن هجوم المسلمين على مدينة أوريو عام 977 م، ولعلها غيرها، فالله أعلم.



السيطرة البيزنطية على إقليم أبوليا:

وقد كانت بيزنطة قد أنزلت جيشًا كبيرًا في جنوب إيطاليا، بقيادة نقفور فوكاس في عام 885 م، مُعْتَمِدة على ما بَلَغَتْه البحرية البيزنطية آنذاك من القوة، وظل ذلك الجيش يعمل بالمنطقة الجنوبية لشبه الجزيرة لمدة عامين، طَوْرًا بالقوة والعنف، وطَوْرًا بالسياسة والحِيْلة، حتى تَمَّ له تدعيم قوة بيزنطة في جنوب إيطاليا في عام 886 م، وانتظمت كل من كالابريا، وأبوليا في أجناد، واعترفت بنفنتم بسلطان بيزنطة، مثلما فعلت مجموعة المدن الكمبانية[18].



-----------------------------------------------
[1] ربما تكون أوترانتو هي أذرنت المذكورة في كلام ابن الأثير (7/25) وقد وقعت في هذا الموضع من المطبوع بالدال المهملة (أدرنت)، وذلك عند الحديث عن غزو سالم بن أبي راشد أمير صقلية لقلورية في أحداث سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة قال: فقصدوها بعد فتح طارنت، فحصروها، وخرّبوا منازلها، فأصاب المسلمين مرض شديد كبير، فعادوا،انتهى.

ثم أعاد ذكرها (7/362) بعد الحديث عن فتح أبي القاسم الكلبي لطارنت ـ تارانتو ـ سنة ست وستين وثلاثمائة، فقال: وأرسل ـ أي أبو القاسم ـ السرايا، فبلغوا أذرنت، وغيرها، ونزل هو على مدينة عردلية، فقاتلها، فبذل أهلها له مالًا صالحهم عليه، وعاد إلى المدينة،انتهى. وانظر كذلك: تاريخ ابن خلدون (4/207)، ووقعت فيه (أدونت) بالواو بدلًا من الذال، والظاهر أنه تصحيف.

[2] في الخريطة التي أوردها في كتابه أطلس تاريخ الإسلام (ص163).

[3] من الجدير بالذكر أن هذا المضيق يُسَمَّى في العصر الحاضر بمضيق الموت؛ لكثرة حوادث الغرق الواقعة فيه.

[4] القوى البحرية والتجارية (ص219،218).

[5] القوى البحرية والتجارية (ص306).

[6] انظر: تاريخ الدولة العلية العثمانية لمحمد فريد بك المحامي (ص 176،175). وقد توفي السلطان محمد رحمه الله تعالى في العام الذي يليه.

[7] أي ألبانيا الكبرى، والتي كانت تضم عددًا من الدول الصغيرة المحيطة بها الآن، ككوسوفا، والجبل الأسود، ولم تكن ألبانيا قديمًا تقتصر على الدولة الألبانية الحالية.

[8] سمي بذلك لاحمرار لحيته رحمه الله تعالى، ومعنى بارب روس أو بربروسة: ذو اللحية الصَّهْباء. وقد أفاض في ترجمته محمد فريد المحامي في كتابه المسمى بتاريخ الدولة العلية العثمانية (ص230) وما بعدها، وفي قصة حياته عظات كثيرة؛ فقد كان الرجل قُرصانًا بحريًا نصرانيًا، وكان أخوه كذلك، فهداهما الله للإسلام، ولم يزالا يسخران ما أنعم الله به عليهما من معرفة شؤون البحر، وإتقان فنون القتال فيه في خدمة الإسلام والمسلمين، والتنكيل بأعدائهم، إلى أن وصل أحدهما وهو خير الدين إلى ما وصل إليه من مكانة كبرى في تاريخ العسكرية البحرية، واسْتُشِهد أخوه في قتال الإسبان النصارى في المغرب، وتوفي هو في سنة 953 هـ سنة 1546 م عقب رجوعه من فرنسا، ودُفِن على شاطئ البوسفور، فرحمة الله عليهما جميعًا.

[9] كان البند السابع من بنود الاتفاق المذكور يقضي بالسماح لأميرال السلطان سليمان القانوني أن يستولي على كل مكان تقدم عليه الأساطيل البحرية العثمانية، متى رأى ثمة فائدة، وذلك من ابتداء حدود نهر تارانتو لغاية أوترانت، وكروتون، ومن ثم لغاية صقلية، ونابولي، وعمومًا جميع الأقاليم المملوكة للإمبراطور شارل الخامس ملك النمسا، سواء أكان ذلك المكان داخل الأراضي، أو كان مدينة، أو قصبة، أو قرية، أو كَفْرًا، أو ميناء، أو خليجًا، وله الحق في الاستيلاء على أي سفينة يُصادفها، وله أن يغزو، بل وأن ينهب، ويأسر الرجال، والنساء البالغين، أو القاصرين، حتى أنه يُمَكِّنُه متى شاء أن يحافظ ويتملك جميع ما يغتنمه، سواء أكان من بني الإنسان، أو المدن، أو البيوت الخلوية، وأن يعدها ويستعملها لاحتياجاته، ولو ضد رغبة الفرنسيين. انظر: تاريخ الدولة العلية العثمانية (ص244).

[10] انظر: المرجع السابق (ص235،234). وكان قد تحدث عن المعاهدة بين الدولة العثمانية وفرنسا (ص208ـ210)، ثم أعاد الحديث عنها (ص236ـ238) نظرًا لسعي ملك فرنسا إلى تجديد التحالف مع الدولة العثمانية ضد النمسا عقب تجدد الحرب بين فرنسا والنمسا، ولكنه عاد مرة أخرى إلى النكوص، ووقع معاهدة كريسي القاضية بالصلح بينه وبين شارلكان في مارس سنة 1544 م؛ لنفس السبب الذي نكص به سابقًا عن تحالفه السابق مع الدولة العثمانية.

[11] المسلمون في أوروبا وأمريكا (ص156).

[12] موسوعة التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر (22/444،443).

[13] القوى البحرية والتجارية (ص306).

[14] أطلس تاريخ الإسلام (ص291).

[15] (ص280،164،163) وهي مثبتة بهذا الاسم في الخريطة رقم (1)، ورقم (5)، وأسماها في الخريطة رقم (3) ماري.

[16] أي (ص291).

[17] في كتابه القوى البحرية والتجارية (ص306).

[18] القوى البحرية والتجارية (ص220).



رابط الموضوع: http://www.alukah.net/culture/0/26016/#ixzz51Sz9rhbL


المواضيع المتشابهه:

• صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في مدينة باري بولاية بوليا الإيطالية
• صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في مدينتي تارانتو وبرنديزي من ولاية بوليا الإيطالية
• صفحات منسية من تاريخ ولاية كالابريا الإسلامية
• صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في جزيرة كورسيكا
• صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في جزيرة سَرْدانِيَة

نجـــ سهيل ـــم ,نزف قلم ,شموخ الكلمة و 2 آخرون معجبون بهذا

ريماس ,همس المطر