~{فعاليات منتديات وهج الذكرى}~ | |
|
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||||||||||||
|
||||||||||||||
هدية الشيخ
قال عمُّه وقد تهلَّلت سِحنته النحاسيَّة على أعتابِ مطار الأمير:
• مرحبًا وألف مرحبًا. ثم انقضَّ عليه مقبِّلاً رأسه قبل أن يرفعَه بمنكبيه القويتين إلى صدرِه، ويكمل حديثَه مع أخيه أبي إلياس عن الأحوالِ والعباد، هنا أحس أنَّه ابتعَد عن البرد والصقيع، وأنَّ جو المدينة الجاف يلفحه معانقًا وجهَه الغضَّ وأطرافَه الناعمة، سأل أباه وهم متوجِّهون إلى السيَّارة المتراصَّة أمامَ البوَّابة الرئيسيَّة للمطار: • هل سنَجِده هنا؟ أجابه أبوه: • نعم. ثم صمَت فيما بقِي عمُّه حائرًا، دون أن يعلمَ ما الشيء الذي سأل عنه إلياسُ أباه، استطرد إلياسُ وهو يسأل أباه بنفسِ الحماس: • ومتى سنزوره؟ أجاب الأبُ مبتسمًا: • قريبًا، قريبًا. صَعِدوا السيَّارة: الأب، والعم، وأخوات إلياس الثلاث، وأمه، وتوجَّهوا نحوَ طَيْبة الطيِّبة التي لا تبعُد عن المطار إلا بخمسةَ عشرَ كيلو مترًا، نام إلياس في أحضانِ أبيه تاركًا الجميعَ مشدودين مِن وراء زجاج السيَّارة السوداء إلى طريقِ المدينة وجوِّها الصافي وهدوئها المستكين في عوالِم القدسيَّة، سأل العمُّ أخاه عن رغبةِ إلياس الملحَّة، فأخبره بلا تَمهُّل بأنَّها رؤيةُ الشيخ صاحِب الطاقية البيضاء واللِّباس الأحمر، الذي يوزِّع الهدايا على الأطفال، والذي اعتادَ إلياس زيارتَه في بلادِ المهجر كلَّ رأس سَنة؛ لأخْذ الهِدايا والصُّور معه قرْب النهر الكبير، أرسل العمُّ ضحكةً مِن بين شفتيه القرمزيتين، وقال بصوتٍ ملؤه الشجن: • يأخذ هدايا مِن الشيخ، وفي بلادنا آلاف شيوخ الشيوخ؟ أجاب الأب متحسرًا: • هذه هي المأساة وجراح المهجر. السيَّارة تبتلع آلافَ الأمتار نحوَ المدينة، وكأنَّها البراق بجناحيه، وجسمه الشديد لا مَن يمنعه أو يستوقِفه أو يكذب عنه الخبر، سنوات وهو بعيدٌ عنها غادرها رضيع وها هو يعود إليها، وقدْ جال في الكونِ سبْع سِنين، متنقلاً مع أسرته الصغيرة مِن بلادِ إلى بِلاد قبل أن يستقرَّ بهم الحال في إنجلترا؛ الحلم الدافِق والملاهي الجميلة والأصدقاء الأوفياء والدَّمعة المترقرقة على خدِّه الأسيل قبلَ صعودِه إلى الطائرة في لندن، كلها ذِكريات تعمق الجِراح في قلبِه الطري، وتَزيد في اضطرابِ خواطرِه وأسئلته المتكرِّرة لزيارة الشيخ. استيقظ إلياسُ على جلبات التهاني والمبارَكات في فناءِ منزل جدِّه بالحارة القديمة، استيقظ وهو يفرك عينيه، ويتأمَّل الوجوهَ النيِّرة حوله ومجامير البُخور في الفناء الواسع الذي تُغطِّيه أجنحةُ الظلام الدامِس، تخيَّل نفسَه في جزيرة مِن جزر علي بابا، رسمه المفضَّل على الشاشة الصغيرة، صاح بأعلى صوته: • أُمِّي، أمِّي، أبي. التفت نحوَه الأعمام، والأخوال، والأقارب، وأبناؤهم، لم يستطعْ في البداية تمييزَ الوجوه، وفجأةً تبدَّى له وجهُ أبيه فوقَف وجرَى حتى ارْتمَى عليه وأعاد السؤال: • أسَنَزوره بالفعل؟ صمت الأب، وقطَّب حاجبيه ضجرًا مِن السؤال، وأمَره بأن يقبع ويلعَب مع الأطفال في الفناء، حتى تحضرَ وجبة العَشاء، أطاعَ إلياس أمرَ أبيه، لكنَّه سرعان ما انزوى في ركنِ الفناء الأيمن تحتَ نخلةٍ سامِقة في الفضاء اللامحدود، وبدأ يذرف الدموعَ، والكل أمامَه مبتهج بقدومِه، رمقه عمُّه الذي تتبَّع خُطواته منذ استيقاظه فاستأذن جلساءَه واقترَب منه ومسَح على رأسه، وقال له: • لا عليك، أنا سأذهَب معك عندَ الشيخ غدًا - إنْ شاءَ الله، ولكن عليك أن تستعدَّ وأنْ تُزيل الدموعَ عن وجهِك. ما كاد يَسمع إلياسُ قولَ عمِّه حتى عانقَه وسأله: • أقَرُب النهر؟ أجابه العم: • نعم في ملاهي غنومة وألعاب المدينة. استغرَب إلياسُ مِن أسماء الملاهي وابتسَم وطار مِن الفرحة التي عمَّت جميعَ جوارحه، وسرعان ما أشْرَكه وعد عمِّه في أفراح العائلة، فتَمَاها وسط حشود الأطفال. حلَّ الصباح ولا يَفصِل إلياسَ عن زيارةِ الشيخ إلا ساعةٌ أو ساعتان، النوم يُغطِّي جفونَ الأسرة، أما هو فلا يكسوه إلى حلم رُؤية الشيخ والهدايا، بدأتِ الأرجل تدبُّ على بُقع المنزل الواسِعة، والأواني تُعدُّ للإفطار فوقَ الخوان المعدِّ في قاعةِ الأكل، خرج برفقةِ ابنِ عمِّه إبراهيم فتوضَّأ وصلَّيَا صلاةَ الصبح، وانتظمَا على المائدةِ مع باقي أفراد الأُسرة الذُّكور، رمق العمُّ إلياس مِن وراء الصحون المستوية فوقَ المائدة بينه وبين إلياس وسألَه متعجبًا؟ • هل أنت مستعدٌّ؟ ضَحِك إلياس والخجلُ يعلو وجهَه، ثم أجاب الأب نائبًا عنه في جوٍّ ملؤُه الفرح والبهجة: • ومَن قال لك: إنني غير مستعدٍّ، هل تراجعتَ في قرارك؟ أجاب العم: • لا، ولكن ليطمئنَّ قلبي. وبعدَ أن أكمل الإفطار، غيَّر إلياس ملابسه المنزليةَ بزيِّ أصحاب المدينة التَّقي، وخرَج مرافقًا عمَّه وابنَ عمِّه إبراهيم إلى المدينة، آملاً زيارةَ الشيخ وما هي إلا دقائق معدودة حتى انتهى بهم المسيرُ إلى الجهة الغربية من جبل سلع، فقال العم مشيرًا إلى إلياس: • أتدْري أين نحن؟ أجاب إلياس: • لا. فبدَأ العمُّ مسترسلاً في الحديثِ، وقد أمسك ببنانِ إلياس اليمنَى: • نحن يا بني، في مهدِ البطولة والجهاد، هنا ولَّى المُشرِكون الأدْبار، وبزغ شعاع الانتصار، الخالد للعالَم ككلٍّ؛ هل ترى هذا المكان المنبطح مِن الأرض؟ • نعم. • إنَّه مكان الخندق الذي حفَره المسلمون؛ للدِّفاعِ عن حُرمة المدينة والإسلام. ثم استمرَّ العمُّ في تعريفِ إلياس بمواطنِ المدينة الشهيرة، متنقلاً مِن مكانٍ إلى مكان بالسيَّارة؛ فعرَّفه على مسجد قباء أوَّل مسجدٍ بُنِي فوقَ البسيطة، ثم على مقبرة البقيع مدفَن الشهداء والأبطال، وبين الفَينة والأخرى كان يَتحدَّث عن أمجادِ الإسلام، كأبي بكر مرافقِ نبيِّنا محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - في هِجرته إلى المدينة، وعلى بسالةِ عمر وعثمان وعلي - رضوان الله عليهم - وعلى صحابتهم، ولم يستشعرْ أي واحد منهم مرورَ الوقت إلاَّ وهُم في المسجِد النبويِّ، حيث صلَّوا الظهر، ثم توجَّهوا راجعين إلى المنزل لتناول وجبةِ الغداء، مؤجِّلين زيارةَ الشيخ في ملاهي المدينة، بعدَما تبدَّتِ الأريحية على مُحيَّا إلياس وأصرَّ على معرفةِ شيوخ بلادِه الأفذاذ، ودَفْنِ شيخه القديم مع ذِكرياته الماضية. المواضيع المتشابهه: |
كاتب الموضوع | روح الأمل | مشاركات | 5 | المشاهدات | 439 | | | | انشر الموضوع |
(عرض التفاصيل) الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع منذ بعد 01-18-2024, 10:22 PM (إعادة تعين) (حذف) | |
لا توجد أسماء لعرضهـا. |
|
|