شخص ما يحرضني بشكل دائم على الفساد، و انا لا أتردد دائماً في اخباره بأنه بالنسبة لي لا يتجاوز كونه لص، و أفاك و غبي و أنه سبق أن ركل نعمته بمؤخرته! و أن الله سيدخله جهنم، و أن الجميع في يومِ مـا سيجتمعون و يبصقون عليه.. و أن لا احد سيكترث له!

[align=justify]عندما تجد الضيقة طريقها إلى صدري، لا يتألم فيّ سوى رأسي.. ينتابني صداع بن كلب، دوار غير طبيعي، و مشاعر غريبة تتساقط على قلبي كتساقط السكاكين.. تتوقف عيناي عن قدرة تمييز الأشياء، و أنا اعرف أنه لا شيء قد تغير في شبكية عيني أو حتى القرنية ! المشكلة تكمن في أن الأعصاب الحسية قد ارتفعت فيها درجة الحرارة، و أصبحت اكثر ممانعة تجاه الرسائل الكهربائية الصادرة من المخ، و الواردة إليه..!
وقتها يسألني أحدهم، و أخبره أني "أنعمست" و هو تعبير عن عدم القدرة على التركيز أو التفكير في كل شيء..و كأن الكون صار أضيق من ثقب إبرة..و أشد حِلكة من سواد الليل جلاّب الهموم، و ليس كل سواد جالب للهموم.. فكم من حلكة ليل.. هيجنت فيها بصوت مرتفع.. حتى خُيِّل لجارنا أني مصُاب بالجنون و الهوس الشعري !
يخبرني جاري في الصباح انني أيقظته من سبات عميق، و أني اهذي كثيراً.. اهذي بأشياء محرجة للغاية، محرجة ليّ!، وله أيضاً.. كونه جار، و أحد ذوي القربى.. و أنني ربما أموت منتحراً.. أو مجاهداً في غير سبيل الهدى.. مجاهد في سبيل هوى نفسي، و مطاردة شرّد الغزلان، و اجوال الريم ! و أخبره بأن قريتنا اصغر من ان تكون مرتع لجفّل الضِبى، وبها من التصحر ما قد يقضي على كل اشكال الحياة، حتى أن حياتي و حياة كل ساكنيها معرضة للخطر! و أننا ربما نموت على اسرتنا بعيداً عن ساحات الوغى، و دوائر الحروب.. نموت جوعاً.. عطشاً، كمداً غيضاً.. أو أي شي آخر غير الموّت المشرّف..!

و أخبره أن كل ما في الموضوع مجرد ضيقة عابرة..تحاصرني دائماً قبل النوم، وتطوق عنقي بشريط طويل من الذكريات الممتدة من أعلى الجنة حتى أسفل الجحيم، يتحرك في البدء بشكل بطيء.. بشكل يسمح لي بالرجوع إلى زمان غير هذا الزمان، ومكان آخر لا يشبهه هذا المكان.. بشكل يفصلني عن الواقع الآني فصلاً جذرياً..و يجعلني أكثر توحداً مع الذكريات، و أكثر إندماجاً مع إطارها المتحرك! هكذا تبدأ الرحلة يا جاري العزيز.. أبدأ في رحلة سفر عكسية تلتهم الذكريات، و تحرك لواعج الشوق و الحنين و البحث في دهاليز الزمن عن نقاط توقف و محطات وقود مُشرِّعة أبوابها لعابري السبيل، للذين تقطعت بهم سبل الوصال.. ولكن شريط الذكريات ما يلبث حتى يكون أسرع من كل موجات الصوت بمختلف تردداتها، بل و يتخطى ذلك.. ليصبح بنفس سرعة الضوء ! عندها تصبح نقاط التوقف خيوط طويلة من الألم، و محطات الوقود سرادب حزن مفتوحة من كل الجهات تجعلني بلا وزن.. و خارج كل الحسابات الرياضية.! لا أدري هل تتوالى ضربات القلب بشكل متسارع، أم أن زيادة التنفس حالة طبيعية في السفر العكسي بهذه السرعة الضوئية ؟! لا أدري هل عقلي يبدأ في قراءة الماضي الذي يمتد في داخل جزيئاته، أم أن الماضي يبدأ في القفز من داخل العقل نحو الخارج ؟! يتدفق الماضي بشكل حلزوني و مخروطي في نفس الوقت، مخروط رأسه في رأسي و فوهته تملأ الكون و تلتهم كل الأفكار المتطايرة و التي استخدمت من قبل آخرين، أو تلك التي ما زالت غضة فتية، ولم تلّوث بعد جراء أستهلاكها داخل دوائر الخلايا العصبية لمخ الأنسان، تلتهمها.. و تصبها في رأسي صبا..و ذلك لملء الفراغ الذي تركه الماضي بكل ما فيه ما له وما عليه..!
إنها معاناة يا جاري.. إنها كل ذات مساء، الآن ربما عليك أن تتفهم جنوني/ أو أن تبحث عن مجانين آخرين يجيدون النوم مثلك، ولا يجيدون الهذيان مثلي..![/align]

[justify][/justify]