كان لأمي عشيقة...

دجاجة...

اختارت لها من الأسماء ( حبيقة)...

ولعل هذا الاسم أتى من إسم نبات ( الحبق)

وكان هنالك تآلف غريب بين أمي وهذه الدجاجة

فكانت تجلسها في حجرها وتمسح على ريشها الناعم يوميا وتحكي لها عن أسرارها وخبايا نفسها

ضامنة أن سرها ( في بئر) وأن دجاجتها ستحفظ لها أسرارها ..وتكاد تجزمُ بأنها تفهم منها كل

قصصها وحكاياها....

كانت تناديها وقت الإطعام بنداء غريب لا يعرفه سواها فتأتي الصديقة مهرولة لتلتقط الحب من يد

أمي قبل حتى أن يسقط على الأرض

وعندما كان يحين وقت وضع البيضة كانت الدجاجة تأتي مسرعة إلى أمي مستغيثة بصوت عجيب

تحثها به على الجلوس وحالما تجلس أمي متربعة تقفز الدجاجة إلى حجرها وتضع بيضتها..وكأنما تأتمنها

عليها..ولا تريد لأحد أن يقربها سواها...

وأذكر ..ذات مأساة ...أن أحد الأولاد الأشقياء رمى ( حبيقة ) بحجر فأصاب ساقها فكسرها..ولم تدر ِ أمي

إلاّ و( حبيقة) المسكينة تعرج غاية العرج في منظر ٍ مأساوي بليغ..فهرعت إليها في فزع تحضنها إليها

دامعة العينين سائلة إياها عمّا أصابها وعن هذا المجرم الذي تجرّأ أن يكسر ساقا تأتي بها إليها....وتلحّ في السؤال

وكأن ( حبيقة) تعرف اسم هذا المعتدي وتخفيه عن عمد

وما كان من أمي إلاّ أن جمعت بعض عيدان الثقاب وقطعة قماش وصنعتْ منها جبيرة لساقها المكسورة...

جبيرة يعجز المتخصصون على تجهيزها بهذه الدقة المتناهية..وما هي إلاّ أيام قلائل حتى عادت لـ ( حبيقة)

مشيتها المعتدلة وتبخترها الجميل..وعادت لأمي فرحتها بخليلتها المعافاة... وبتطبيبها المتقن...

وكان هذا دأبهما يوميا تقريبا ..إلى أن ...

في ليلة من الليالي التي لا تُنسى ..أتانا ضيوف في ساعة متأخرة من الليل ..ولم يكن آنذاك متاجر تبقى مفتوحة

إلى ساعة متأخرة ..بل لم تكن هناك متاجر أصلا...ولم يجد رب العائلة ( أبي ) رحمه الله ما يقدمه لضيوفه في

وجبة العشاء ..فنظر إلى أمي نظرة ملؤها الشفقة والحيرة..وفهمت أمي مقصده ..وكبتت صرخة مدوية في نفسها

واتسعت حدقتاها ..فقال أبي : ليس لنا خيار غيرها.....وناشدته في صمت ٍ الله َ والرحم أن يجد وسيلة أخرى لإرضاء

الضيوف ..ولكنه هزّ رأسه في أسف وحزن بالغين قائلا : الله غالب...

انزوت أمي الحزينة في ركن من أركان البيت تعلوها الصدمة والشقاء

ونادى أبي أختي في صوت متحشرج : هاتيها يا عائشة...

ونظرتْ عائشة إلى أمي ثم إلى أبي ثم إلى أمي وهي متكورة في ذلك الركن البعيد غير مخفية دموعها التي بدأت

تسيلُ كأنها واد منهمر.....ولم تجد عائشة بدا من أن تتثاقل إلى الدجاجة لتحضرها بعيدا عن أعين أمي

وكانت المجزرة ..ونتفت أختي ريش ( حبيقة) وأعدت منها طبقا دسما للمفترسين وكانت تؤدمه بدموعها ..

فهي تعلم ما بين أمي وبين الطبق وتعلم أن قطعة من كبد أمي موجودة هناك.....

وانتهى الضيوف من عشائهم...ولم تنته ِ أمي من آلامها ..بل قامت إلى بقايا الطعام تجمع عظام عشيقتها عظما عظما

والدموع الصامتة تغسل هذه العظام والحسرة الملتهبة تكاد تخرق جدار الصمت...

وذهبت إلى فناء غير بعيد حاملة العظام وحفرت هنالك قبرا أودعت فيه ما تبقى من خليلتها...

ووضعتْ شاهدا على القبر

وتمتمت في خشوع ورهبة عظيمين :

بسم الله الرحمن الرحيم

"الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون"

صدق الله العظيم


/ قيس