عرض مشاركة واحدة
#1  
قديم 05-05-2011
الغزال الشمالي غير متواجد حالياً
لوني المفضل Cadetblue
 رقم العضوية : 218
 تاريخ التسجيل : Apr 2011
 فترة الأقامة : 5201 يوم
 أخر زيارة : 07-10-2013 (07:01 PM)
 المشاركات : 2,111 [ + ]
 التقييم : 119
 معدل التقييم : الغزال الشمالي will become famous soon enoughالغزال الشمالي will become famous soon enough
بيانات اضافيه [ + ]
شكراً: 0
تم شكره 2 مرة في 2 مشاركة
افتراضي امرأة صابرة ( ليوسف السباعي )




امرأة صابرة من كتاب ( إثنتا عشرة إمرأة ) ليوسف السباعي


انطلق بنا صاحبي بعربته في شارع فؤاد متجها إلى الزمالك، وكانت الساعة التاسعة مساء، وقد خرجنا
من إحدى دور السينما، ودهشت من صاحبي وخيل إلي أن ذهنه قد شرد به فأخطأ الطريق، إذ كان
علينا أن نعود أدراجنا، بعد ذلك، إلى مصر الجديدة، وصحت به متسائلا:
- إلى أين؟
- إلى أنجه هانم.
- ومَن تكون أنجه هانم؟
- سيدة تركية لطيفة ستعجبك كثيرا ..
- وفيم ذهابنا إليها؟!
- لنأكل عاشورة.. فقد دعتني لتناولها، ولا أظنها إلا مرحبة بوجودك معي.
ووقفت العربة .. ودلفنا إلى الدار .. دار دل مظهرها على مدى ما يستمتع به أهلها من ثراء وسعة من العيش ..
ولقيت المرأة .. بين الشباب والكهولة .. لم تستطع السنون أن تمحو رونق شبابها أو نضرته ..
وأحسست بنفسها رقة طبيعية غير مصطنعة، وبحديثها عذوبة غير متكلفة.
وعندما غادرنا الدار علمت من صاحبي أن المرأة أرملة طبيب معروف لم يطل العهد على وفاته، وأنها تعيش في
الدار وحيدة مع طفلتها.. وسمعت من صاحبي ثناء عطرا عليها، ومديحا في خلقها وفي سمو نفسها.
وتكررت زيارتي للسيدة مع صاحبي بضع مرات .. دون أن أعرف بالضبط سبب صلته بها.. أو أحدد مدى علاقته معها ..
فقد كنت اشك كثيرا في دعواه أنه كان صديق زوجها .. إذ لم أسمع بهذه الصداقة من قبل .. حتى فوجئت ذات يوم
بمعرفتي خبر زواجه بها .. أقول أني فوجئت لأنه لم يخطر ببال قط أن صحبي هذا سيتزوج، لأني أعرفه مبغضا
للزواج معرضا عنه، حتى لقد جاوزت به السن مرحلة الشباب دون أن يفكر فيه، بل كان يبدو لي أنه قد عزم على
أن يقضي ما تبقى من عمره "أعزب" .. وأنه قد صمم على ألا يتيح الفرصة لامرأة، أيا كانت، أن تفسد عليه حياته..
وفوجئت أيضا.. لأني قد رأيت الرجل بعد طول صيام، أفطر .. كما يقولون "على بصلة" .. أو على الأقل هذا
ما خيل إلي.. فمهما قيل عن كرم خلقها، ورقة نفسها، فهي على أي حال أرملة ذات أبناء.. قد ولى الشباب عنها
أو كاد، كذلك البصلة قد تكون خضراء ناضرة أو حمراء طليانية ممتلئة، ولكنها لن تزيد عن أن تكون بصلة.
كذلك أدهشني من جانب البصلة، أعني المرأة، بعد كل ما تخيلته فيها من اتزان وعقل وخلق ..
أن تقدم على الزواج ولم يمض عام على وفاة زوجها.
وهكذا بدا لي الزواج من الجانبين شيئا يبعث على الحية.
وحاولت أن أتلمس لهما عذرا، وأخذت أفكر .. فانتهى بي التفكير إلى تعليل واحد لست أستطيع أن أجزم بمداه من الصحة..
ولكن لا أخال شخصا قد عرف بنبأ الزواج إلا انتهى إلى مثل هذا التعليل، وهو أن الرجل قد أغراه ثراء المرأة .. وأما
المرأة فقد فتنها الرجل.. فهو على رغم ما قلته من تجاوزه مرحلة الشباب، ما زال يحتفظ بوسامته وقدرته على اجتذاب النساء.
وتعودت بعد ذلك أن أزور صاحبي في داره الجديدة.. أعني دار الأرملة الثرية بالزمالك.
وفي ذات يوم، ذهبت لزيارته فلم أجده.. ودعتني السيدة إلى البقاء لانتظاره فجلست أجاذبها أطراف الحديث.
ولست أدري كيف ساقنا الحديث إلى ذكر زوجها السابق.. ولكني وجدت السيدة تطرق برأسها برهة،
ثم ترفع وجهها إلي متسائلة:
- لا شك أن زواجي بمثل هذه السرعة قد أثار دهشتك!!
وشعرت بحرج شديد ، ولم أدر بم أجيب.
إن قلت أنه قد أثاره .. كان قولي بمثابة اتهام لها بارتكاب خطأ أثار الدهشة .. وإن قلت انه لم يثر دهشتي فكأنني
أراها امرأة سوء لا يدهش المرء أن يراها ترتكب خطأ.
ولكن السيدة لم تنتظر جوابي بل أردفت قائلة:
- أنا أعلم أنه شيء يثير الدهش.. فقد كان يجب علي أن أصبر وأنتظر.. على الأقل حتى يتم العام، ولكن
دعني أقص عليك قصة مسلية.. أغلب الظن أنها ستزيل كثيرا من دهشك:
- كان ذلك منذ زمن بعيد، وكنت أعيش في أنقرة مع أبي وهو أحد الأطباء الباطنيين، وكنت قد بلغت السادسة عشر
من عمري عندما بدأ الضوء يخبو في عيني أمي شيئا فشيئا، حتى انتهى بها الأمر بعد بضعة شهور
إلى فقد بصرها، فأصابنا جزع شديد، فقد أحسسنا مبلغ ما كانت تقاسيه من ألم نفساني شديد.
وفي ذات يوم أقبل أبي وقد تهلل وجهه وشع من عينيه بريق أمل، وأنبأنا أن أعظم أطباء العيون في
أوربا يمر الآن بأنقرة.. وهو يظن أنه يستطيع أن يعيد إلى أمي بصرها.
وفي اليوم التالي حضر أبي ومعه مساعده، وهو زميل أصغر منه كان يعتبر صديق العائلة.. ومعهما رجل ذو لحية
صغيرة مدببة لم أشك في أنه الطبيب الأوربي الشهير، وعندما انتهى من فحصه عن أمي سمعته يقول:
"هناك بعض الأمل.. إننا نستطيع أن نرد إليها بصرها، ولكنها قد لا تستطيع الاحتفاظ به .. على
أي حال .. لنجرب .. فلن يكون هناك أسوأ مما هي عليه الآن".
وأجريت العملية.. فكانت النتيجة باهرة، أكثر مما يخطر لنا على بال.. فقد أصبحت تستطيع الإبصار
أحسن منها في أي وقت مضى.
وكان الوقت ربيعا، والطبيعة قد اكتست أبهى حللها، كأنها قد رغبت ألا يقع بصر أمي إلا على كل ما هو نضر وجميل،
وإني لأذكرها في ذلك الوقت، وقد وقفت بجانبي في إحدى الشرفات المطلة على الحديقة بجسدها الفارع الممشوق بلا
ترهل ولا استرخاء، ورأسها الصغير الجميل، وملامحها الساكنة الهادئة، وقد سبحت بعينيها في الأفق عندما اختفت
الشمس وخلفت للسماء حمرة الشفق.. فصبغ الكون بلون أرجواني جميل، وبدت الأرض منمقة مزركشة، قد كستها
الزهور المتفتحة، وحمل إلينا النسيم عبير زهر البرتقال فملأت أمي منه رئتيها في شهيق طويل كأنما تعب منه عبا،
وسمعتها تهمس كأنها تحدث نفسها: " ليحدث بعد ذلك ما يحدث ما دمت قد أبصرت هذا .. إني سأختزن في
نفسي من هذا الجمال ما يعينني على المضي في حياتي.. حتى ولو لم أبصر بعد ذلك".
وفي الأشهر القلائل التي أعقبت ذلك بدا لي أنها تحاول حقا أن تختزن في نفسها ذكريات جميلة لكا ما ترى.. لقد كانت
لا تبصر المرئيات مجرد إبصار عابر، بل كانت تبدو وكأنها تحاول أن تستذكرها، كما يستذكر تلميذ درسه لكي يعيه
رأسه، لقد كانت تحاول أن تبصر، لا بعينيها فقط، بل برأسها وقلبها.
ولقد كنت أجدها أحيانا تناديني فجأة.. ثم تلف ذراعيها حول كتفي وتشملني بنظرات نهمة، وتحدث نفسها هامسة:
- شعر ذهبي .. ووجه أبيض دقيق التقاطيع، وعينان خضراوان ممتلئتان بالأحلام.
وكنت كثيرا ما ألمحها تشخص في أبي بنفس النظرات وقد استلقى في مقعده مستغرقا في القراءة.. فكنت أذكر قولها :
أنها ستختزن من المرئيات ما يعينها على الحياة فيما لو فقدت بصرها مرة أخرى.
ولم تمض بضعة شهور حتى خبا ضوء عينيها مرة أخرى، وفي هذه المرة لم يكن هناك أمل في برء، أو رجاء في شفاء،
فقد ذهب بصرها إلى غير عودة.. وألمت بها ظلمة دامسة لا يلوح لها في حلكتها قبس من ضياء.. وكانت هي
تدرك الحقيقة .. ومع ذلك فقد بدا لي أنها قانعة راضية ، وأنها كانت قد أخذت أهبتها لذلك.. أو كما قالت ..
اختزنت لنفسها من الذكريات ما يجعلها في غير حاجة إلى متعة البصر.. لقد وعت كل ما تحب أن تراه في
ذهنها وفي قلبها.. إن الظلمة لم تفاجأها هذه المرة ولم تأخذها على حين غرة .. حتى لقد سارت حياتها كما كانت
من قبل، دون أقل تغيير أو تبديل ، فما انقطعت من زيارتها للأصدقاء، ومن خروجها للنزهة والتجوال في الأسواق.
وكنت أصطحبها أينما سارت، وقد أسندت يدها بخفة على ذراعي وسارت في ثقة واطمئنان، وكان أحب الأشياء ليها أن
نخرج سويا للنزهة .. وأن أصف لها كل ما أراه وصفا دقيقا.. وتعودت أنا ذلك الأمر حتى أجدته كل الإجادة،
وأصبحت الألفاظ تنساب من شفتي في سهولة كأني أقرأ صفحات كتاب، وكانت كثيرا ما تحدثني ضاحكة:
- لقد أصبحت مدهشة.. حتى لكأني أرى من حديثك كل ما ترين، ولكني لا أود أن أعتمد عليك كل الاعتماد، لأنك
ستغادرينني في يوم ما، وتذهبين في طريقك. أجل. لابد لي من خادمة تقودني من الآن.
- يا أماه !! إني لن أفارقك أبدا .. حتى نهاية العمر.
وفي ذات مرة عدنا إلى الدار، فوجدت أبي ومساعده قد جلسا في الردهة، وعندما ذهبت أمي إلى حجرتها أخبرني
أبي أنه قد أوصى على خادمة تتولى عني مهمتي .. فقلت له في دهشة: " إنني لا أشكو شيئا،
وأني لم أطلب أن يتولى عني أحد أمر أمي".
فقال أبي : "إن هذا الأمر لا بد منه إن عاجلا أو آجلا، فلا بد أن يأتي يوم تفارقينها فيه".
فأجبته: "إن ذلك اليوم لن يأتي ما دام أحدنا على قيد الحياة".
وسمعت الشاب يتمتم قائلا:
- لا أظنك تتخيلين أنك ستقضين حياتك هكذا، مجرد ظل.. لأنك لا شك ستكونين لحياتك الخاصة، ولزوجك وأولادك.
ونفذت هذه الكلمات إلى نفسي كأنها السام، فما من أحد في هذه الحياة يرغب أن يكون مجرد ظل لآخر، وما من شك في
أن آمالا تراود نفسي فتصور لها حياة مستقبلية مفعمة بالهناءة وبيتا جميلا وزوجا وأولادا، ولكنني كنت لا أدع نفسي
تنساب مع هذه الآمال، فقد كنت أعتقد أن هذه الدنيا لا بد أن يضحي فيها البعض لكي يسعد البعض الآخر، وكنت أرى
القدر قد جعلني من ذلك البعض الذي يجب عليه أن يضحي، فقبلت التضحية، إذ كنت أحس أن أمي لا تستطيع الاستغناء
عني، وأن أحدا لا يستطيع أن يقوم لها بما أقوم به.. لقد كان يجب علي أن أعوض لها بصرها الذي فقدته.
ولم أشك في أن أبي ومساعده قد تحدثا عني مليا، وخيل إلي أني استطعت أن أخمن موضوع الحديث،
وإن كنت لم أستطع أن أعرف ما قيل بوجه التحديد.
لقد تحدثا بلا شك عن مسألة زواجي.. فأغلب ظني أن هذا هو ما أثار مسألة الخادمة، ولكن كيف تحدثا، وماذا قالا؟
لست أدري، لقد كان مساعد أبي – كما قلت لك – صديق العائلة، وكنت أعتبره أخا أكبر ، ولا شيء أكثر من هذا،
والواقع أنه كان رجلا هاديء الطبع، جميل الخلق، ذا مظهر محترم.. رجلا يستطيع المرء أن يركن إليه في الشدة
والضيق، ولكني مع ذلك لم تخطر على بالي فكرة زواجه.. إذ لم يكن هو الزوج الذي تصوره لي الأحلام،
والذي كنت في قرارة نفسي أتلهف عليه، لست أدري .. لم؟ ولكن هذا هو ما كنت أحس به.
ولكن مالي ولهذا الحديث، وأنا التي فرض عليها القدر قبول التضحية.. ورسم لها الطريق الذي لا تستطيع أن تحيد
عنه، وخاصة بعد أشهر من هذا الحديث.. عندما أصابني القدر بأول فاجعة حددت لي الطريق تحديدا واضحا..
فقد مات أبي، واصبحت وحيدة مع أمي!!









المواضيع المتشابهه:



 توقيع :
قال تعالى {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }النجم28

دائما النية الطيبة لاتجلب معها إلا المفاجآت الجميلة
لاتغيروا أساليبكم فقط غيروا نياتكم فعلى نياتكم ترزقون


رد مع اقتباس