وفي خلال هذه الثورة الذهنية التي عصفت برأسي بدا لي أن خير حل أضع به حدا لتلك المتاعب، هو أن اتزوج
هذا الرجل الواقف أمامي، فما أظنني أطمع في الحياة فيمن هو أجمل منه خلقا أو أطهر نفسا، لقد كان
رجلا طيب القلب، وأخيرا قطعت حبل الصمت بسؤاله فجأة:
- هل ما زلت على استعداد للزواج مني؟
وذهل الرجل، ولكنه أدرك بسرعة ما قادني إليه تفكيري فأجاب بهدوء:
- طبعا ما زلت، ولكني لا أريد أن أكون حائلا بينك وبين من تحبين.. لا أريد أن أكون دواء مرا تحاولين
به التخلص من آلام نفسك، إنني لم أقصد أن أعاونك بهذه الطريقة، وإني لا أريد أن أكون سكينا تقطعين
به حبال آمالك.. لا .. لا .. دعينا من مسألة الزواج الآن، فأنا أعرف أنك في غمرة يأس.
ولكنني كنت قد صممت.. وذهبت إلى أمي لأعلنها بالأمر، فبدا عليها فرح شديد.
ولست أجد داعيا لأن أصف لك الأيام القلائل التي مرت بعد ذلك حتى تم الزواج.
أتسمع ياسيدي، عن ذلك الذي يسمونه "عاصب البطن" وهو شخص قد عصب بطنه حتى يحتمل الجوع،
ويصبر على السغب؟ لقد كنت وقتذاك "عاصبة القلب" لأني عصبت قلبي حتى أحتمل جوع الحب،
وحتى أصبر على سغب القلب..وحتى لا أصاب بضعف وينفذ صبري ..
فأعدو لأرتمي بين أحضان صاحبي وأشبع منه قلبي الجائع ونفسي الصادية.
أجل يا سيدي .. لقد علمت نفسي كيف تكون امرأة صابرة.
وقد تتهمني يا سيدي بأني لم أكن أحب صاحبي حبا حقيقيا، وإلا لما استطعت الإقدام على مثل هذا الجنون، أو قد
تقول عني أنني ذات إرادة خارقة، ولكن الواقع أنني كنت أشبه بمريض حقنوه بالمخدر قبل إجراء العملية،
وكما يفيق المريض من تأثير المخدر بعد انتهاء العملية فيحس بآلام الجراح التي أحدثها مبضع الجراح،
بدأت أنا الأخرى أفيق لأحس في قلبي جرحا عميقا.
وغادرت البلدة عقب أن تم الزواج، مع زوجي ووالدتي لنقضي في الريف "شهر العسل"
(ياله من اسم على غير مسمى)، ولم أحاول أن أرى صاحبي قبل الرحيل، إذ كنت في غير حاجة
لأن أزيد الجرح عمقا، وأي فائدة في أن أراه بعد تلك الحماقة التي ارتكبتها؟
وعاد هو إلى مصر، بعد أن عرف بالأمر طبعا.. وهكذا افترقنا دون أن يرى أحد منا صاحبه، ودون أن يودعه
بكلمة، اللهم إلا رسالة حملها إلي البريد، لا أدعي أنني وجدت فيها الشفاء، فقد كان الجرح أعمق من أن تضمده
مجرد كلمات، ولكنني مع ذلك وجدت في هذه الكلمات شيئا من العزاء،
أتصبر به كلما أضناني الشوق وعصف بي الحنين...
****
وصمتت السيدة، ثم رأيتها تنهض وتختفي في إحدى الغرف برهة، ثم تعود ثانية وقد حملت في يدها
ورقة صفراء باهتة مطوية بعناية، ودفعت بها إلي قائلة:
- هذه هي الرسالة.. هذا ما تركه لي صاحبي.
وفضضت الورقة فوجدت بها بضعة أسطر باهتة، هي كما يلي:
"لا عتاب ولا حساب، فإني لا أرى في ذلك نفعا بعد أن انتهى الأمر، إني أحاول دائما أن ألتمس لك المعاذير،
لأني أحبك، ولا أستطيع الكف عن حبك، ويخيل إلي – دون أن أعرف حقيقة الأمر- أنك لست المخطئة
لأنك لا يمكن أن تخطئي.. فأنا أعرف قلبك الجميل ونفسك الصافية .. يا حبيبتي ..
إني سأنتظر، لاتقولي ماذا ينتظر؟ ولا تقولي أحمق
ينتظر بلا أمل، أو عاشق يلقي الوعود جزافا، فإني سأنتظر .. من يدري؟؟"
وانتهيت من قراءة الخطاب !! ثم وقع بصري على الإمضاء ... فأصابتني دهشة شديدة..
فلقد وجدته بإمضاء صاحبي، وعقدت الدهشة لساني فلم أستطع إلا أن أقول:
- أهو؟
وهزت رأسها هزة خفيفة وأجابت:
- أجل .. هو ..!
ثم أتمت القصة في كلمات قلائل ، وقالت :
- لقد مرت الأيام والأشهر والسنون، وماتت أمي.. ثم اضطرتنا الظروف إلى المجيء إلى مصر، فأقمنا في القاهرة..
ثم مات زوجي، والتقيت بصاحبي وصاحبك.. فوجدته ما زال ينتظر.. أترى يدهشك بعد ذلك
أن أتزوجه قبل أن يتم عام على وفاة زوجي؟
أتراني بعد كل ما سمعت.. امرأة متعجلة .. أم امرأة صابرة؟!!
يوسف السباعي