د. تيسير الغول
إنه الماء أصل الحياة والنماء، تتزاحم عليه الحضارات، وتتقاتل عليه الأمم؛ لأهميته الإستراتيجية العظيمة وقيمته الكبيرة.
لم يغِبْ عن موسى عليه السلام ذلك، ولم تكن من قبيل المصادفة أن يذهب مباشرة إلى مصدر المياه في مَدْيَن، فقد اختار أن يذهب إلى هناك بإستراتيجية عميقة في نفسه؛ حيث اجتماع الناس باختلاف ثقافاتهم وفهمهم وإدراكهم، وكان له ما أراد.
نظر موسى عليه السلام إلى الناس يزدحمون على طلب الماء؛ هذا ينضح، وذاك يشرب، وذاك يسقي أغنامه، ثم نظر إلى الناحية الأخرى فوجد امرأتين مبتعدتين قليلًا عن الناس، فوجد بغيته هناك.
ومن خلال معونة إنسانية عاجلة وتحقيق مصلحة لامرأتين ضعيفتين، دخل موسى عليه السلام إلى مجتمع غريب من أوسع أبوابه، واستطاع بتلك الحركة الذكية أن يلتقي بالزعيم الروحي لأرض مَدْيَن؛ ليخترق كل الأبواب، ويحصل بعدها مباشرة على منح أساسية ثلاث: مسكن، ووظيفة، وزواج.
اختصر موسى عليه السلام كثيرًا من المحطات والمقدمات بذكاء سديد موفق، لا يهتدي إليه الكثير من المخططين، ويغفل عنه أهل الدراية والخبرة والعمالقة من مدربي التنمية البشرية ومدخلاتها.
تعمَّد موسى عليه السلام ألَّا يطرق بيتًا أو يسأل سائلًا أو يأتي حانوتًا ليحصل على مبتغاه؛ ولكنه آثر أن يذهب إلى هناك، ليقنص ما يشاء بوقت معدود محدود محسوم.
لقد مثَّلت تلك الآية دورة قيادية متكاملة، يعجز عن أدائها كِبارُ قادة التدريب في علوم التنمية البشرية.
إنها دورة متخصصة في مهارة إدارة الوقت واختصار الجهد للوصول إلى الأهداف المطلوبة بأسرع الطرق ضمن مخطط مرسوم بدقة متناهية.
ما أجمل القرآن العظيم واختزالاته العميقة المتجذرة التي تغنينا عن قراءة النصوص البشرية المملة المتكررة!
إنها لفتة قرآنية تُطْلِعُنا على الرعاية الإلهية للأنبياء الذين يرعاهم الله تعالى ويربيهم على عينه.
وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ((أدبني ربي فأحسن تأديبي)).