بعد عدة ليال حافلة بالسهر و العربدة و الأحلام في أجمل و أشهر ملاهي و بارات و شوارع لندن , سألني صديقي المقيم على ضفاف التايمز , و سيارته الفخمة تتهادى بنا تحت اجمل مطر انكليزي رأيته في حياتي :
هل أعجبتك لندن ؟
ج : جداً .
س : و هل ذهبت الى " الهايد بارك " و سمعت الناس تخطب بكل لغة وبكل حرية ؟
ج : نعم . ذهبت و سمعت .
س : و هل تجولت في الشوارع و رأيت العشاق يقبّلون بعضهم علناً أمام المارة ؟
ج : نعم . تجولت و رأيت .
س : و هل فندقك مريح , و طعامك جيد و طلباتك مؤمنة ؟
ج : على أحسن ما يرام .
س : إذاً متى تهز كتفيك و تكتب لنا شيئاً عن انطباعاتك ؟
ج : لا أستطيع .
س : لماذا ؟
ج : لأنني أخاف .
س : تخاف و انت في عاصمة الحرية و الديموقراطية في العالم . أنت في لندن يا رجل .
ج : في لندن .. في تعز .. أخاف . و فرائصي ترتعد من كل خطوة أو نظرة أو رنة هاتف . تأكد ان عندي في اعماقي " احتياطيا" من "الخوف" أكثر مما عند السعودية و فنزويلا من احتياطي "النفط" .
ولذلك نحن تعساء هذا العالم نطالب بمنظمة مماثلة للأوبيك ترعى أمورنا و تصون حقوقنا .
س : انك تبالغ . و ما رأيتك الا نهماً في المطاعم .. ضاحكاً في البارات و المنتزهات .
ج : تأكد ان كل لقمة شهية أكلتها في مطعم خلال هذه الزيارة , و كل ضحكة أطلقتها في بار , أو صخب قمت به في نزهة , ما هي إلا متع عابرة و مؤقتة كالقبل في البارات , و كالعصافير على الأغصان .
س : هذا مرض قديم يجب ان تتخلص منه .
ج : مستحيل , إنني كمن يحاول التخلص من معطف بسبعة أكمام .
س : ألهذه الدرجة ؟
ج : و أكثر . تصور , أنك توقفت اليوم أمام آلة عجيبة في أحد الشوارع المكتظة بالمارة و السياح , تضع قطعة نقود فيها و تكبس زراً فتطلع لك الصورة التي تشتهيها من مشاهير النجوم . و مضت ساعة وقطعة النقود في يدي لا أجرؤ على وضعها .
س : لماذا ؟
ج : لأنني كنت أخشى أن تطلع لي بدل صورة مارلين منرو أو جين مانسفليد , صورة عبد الحميد السراج .
س : هذا مرض ... وسواس .. جنون يجب أن تتخلص منه في الحال .
ج : ماهو؟
س : الخوف ؟
ج : مستحيل . انه الشيء الوحيد الذي أملكه من المحيط الى الخليج , و لا بديل له الآن , لأن العربي دون خوف بالنسبة للعالم أجمع كالتركي دون طربوش .. كالانكليزي دون غليون .. كالسجين دون أحلام .
وجه عربي و مرآة انكليزيه
09-22-2022
وجه عربي و مرآة انكليزيه / محمد الماغوط
رد: وجه عربي و مرآة انكليزيه / محمد الماغوط
العرض العادي
