~{فعاليات منتديات وهج الذكرى}~

عدد مرات النقر : 1,490
عدد  مرات الظهور : 42,023,122


عدد مرات النقر : 1,490
عدد  مرات الظهور : 42,023,122

العودة   منتديات وهج الذكرى > وهج العـــامـ > وهج النقاشات والحوار الجـاد
وهج النقاشات والحوار الجـاد القسم يهتم بالمواضيع الحوارية والنقاشات الجادة والمتنوعة
التعليمـــات روابط مفيدة
إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
#1  
قديم 06-08-2015
خال العرب غير متواجد حالياً
لوني المفضل Cadetblue
 رقم العضوية : 895
 تاريخ التسجيل : Jul 2012
 فترة الأقامة : 4721 يوم
 أخر زيارة : 06-13-2019 (12:34 AM)
 المشاركات : 2,109 [ + ]
 التقييم : 19088
 معدل التقييم : خال العرب has a reputation beyond reputeخال العرب has a reputation beyond reputeخال العرب has a reputation beyond reputeخال العرب has a reputation beyond reputeخال العرب has a reputation beyond reputeخال العرب has a reputation beyond reputeخال العرب has a reputation beyond reputeخال العرب has a reputation beyond reputeخال العرب has a reputation beyond reputeخال العرب has a reputation beyond reputeخال العرب has a reputation beyond repute
بيانات اضافيه [ + ]
شكراً: 0
تم شكره 60 مرة في 47 مشاركة
افتراضي



الحلقة السادسة

قبل الإبحار من عتبة الرصيف السادس لهذه الرحلة الغريبة الأطوار، كما يحلو للبعض أن يصفها، في طريقي نحو جزيرة الخوف والرعب والهلاك، كما يتصورها البعض، أو على الأقل هكذا يحاول أن يصوّرها للعالم عبر إعلامه المسخ، أتوقف للحظة لأوضح بعض الأمور التي تساءل عنها عدد من القراء، بينها حادثة ترك عناصر الشرطة الإسلامية لسيارة دورية النجدة في الشارع، عند تقاطع منطقة النبي يونس، وترك مفاتيحها فيها قبل إلتحاقهم بالمعارك، لهذا وجبَ عليّ القول أن هذه الحادثة غيرت من بوصلتي، وجعلتني أبحث عن سبب هذا الإهمال، إن كان إهمالاً، وسبب هذا الشعور المفرط بالأمان، إن كان أماناً، وذلك عبر البحث عن الأسباب التي أدت إلى هذا الإهمال، أو المسببات التي تمنح المدينة أماناً على هذا المستوى الخرافي والعالي من الطمأنينة والثقة بالشارع، فقد ظن بعض القراء إنني أخذت أبحث عن مقابلة القاضي لاسأله عن هذه الحادثة بالتحديد، وعن سبب ترك الدورية في الشارع ومفاتيحها فيها، فالأمور لا تُقزّم ولا تختزل بحادثة صغيرة كهذه، أيها القراء الأعزاء، القضية أكبر وأعظم من دورية في وسط الشارع، أنا أبحث عن عدل قضاء أوصل إلى هذا الحال، فالقضاء إن صلُحَ، صلحت أمور الناس، وعم الأمن والرخاء، وإن فسد، فسد الراعي والرعية، وساد الجهل وتفشى الوباء!
تساؤل ثان،ٍ تكرر بكثرة، حول سبب حلاقة رأس المعتقل عند دخوله إلى هذا السجن، فأقول:
هنا في هذا السجن، لا مكان لمن لا يحمل تهمة ما، إلا في حالات نادرة، كما هو وضعي أنا، ولهذا وجدت كل من هو بين ثنايا هذا المعتقل قد تمت حلاقة رؤوسهم، بعد أن تتأكد التهم بحقهم، وفي هذا السجن، أو هذا المعتقل، لا يوجد تحقيق، فالتحقيقات الأولية والإعترافات توثق في مقرات الشرطة الإسلامية الموزعة في مدن الولايات، ثم يتم تجميع المتهمين، ممن ثبتت إدانتهم، ليتم عرضهم على القاضي هنا، لهذا فكل من يتم حلاقة شعره، فهو قد إعترف بالتهم المنسوبة إليه، أو أن التحقيقات أثبتت التهم عليه، لهذا فإن هذا الأجراء لا يطال كل من يدخل السجن، بل يُتخذ بحق من اُدين، سواء بإعترافه، أو بما أكدته الوقائع وأثبتته التحقيقات، ومن يدخل هنا، سيتم عرضه على القاضي لثلاث مرات على الأقل، ليتأكد القاضي من كل الأدلة والإثباتات والبراهين، قبل النطق بالحكم، فيما يتم عرض المتهمين بـ(الدماء) على القاضي لأكثر من خمس مرات، لأهمية الأمر، كونه يتعلق بالدماء، وبحرمتها، وبالخوف من الوقوع في الأحكام الخاطئة، فيترتب على ذلك الظلم، الذي وحده الكفيل بأن يكسر شوكة الدولة الإسلامية، في حال سلكت طريقه الشائن، لا سمح الله، بعد أن عجز العالم كله عن كسرها ومنع تمددها بالسلاح والنار، فدعوات المظلومين والمضطهدين هي من ترفع من شأن الأمم وتثبت وجودها، إن كانت لها، أو هي من تجعلها في خبر كان، إن كانت عليها!
فهيا معي لنرفع المرساة، ونُطلق الشراع، ونواصل أبحارنا سوية في سفينة الخلافة الإسلامية، التي من ركب على ظهرها نجا، ومن شطَ عنها، فلن يعصمه اليوم جبل من فوران التنور!
** ** *
لم يكن أحد من السجناء أو المعتقلين يعرف بهويتي، أو بمهنتي، أو بطبيعة المهمة التي أنا فيها بعد، لكن الهمسات التي كنت اسمعها عن سبب عدم حلاقة شعر رأسي، كما هو متعارف مع أي معتقل يصل إلى هنا، دفع بعض المعتقلين ليتساءلوا في ما بينهم، دون أن يتطرق أحد منهم إلى سؤالي مباشرة، بإستثناء (أبو عمر)، الذي عاد ليكرر سؤاله عما جاء بي إلى هنا، ولكن بطريقة مهذبة، حينما قال لي:
ما مهنة (عابر السبيل)، يبدو عليه بإنه اُستاذ جامعي أو ما شابه.. قالها بطريقة تساؤلية، ليحصل مني على جواب يشفي غليله، فهناك من لا تُعرف تهمته، يبقى سراً مجهولاً محيراً* للغير، حتى يبوح بما لديه..!
قلت له:
عابر السبيل صحافي، عاد من الخارج، وكان في طريقه إلى مدينة أخرى، فأضطر للمرور في الموصل، واستوقفته إحدى نقاط تفتيش الدولة الإسلامية، واحضرته إلى هنا، كونه قدم لهم جوازاً أجنبياً، وهم الآن يريدون التأكد من وجهته!
لا أعرف كيف خطرت هذه الرواية لحظتها على بالي، ولماذا لم أتحدث عن الحقيقة، ربما كانت محاولة مني لإستكشاف طبيعة المعتقلين أولاً، أو ربما كي اطّلع على الأمور كما هي على حقيقتها..
كنت قد أدرجت هذه الرواية في حديثي، كوني سمعت عن طريقٍ يوصل مدينة الموصل، عبر منطقة الجزيرة، بمناطق غرب العراق، دون الحاجة للمرور بمدينة بيجي العصية، التي تدور فيها معارك ضارية، ما جعل الطريق مقطوعاً من هناك، ولكوني من أبناء غرب العراق، فإن ذلك يعطي مصداقية لروايتي التي أوردتها في معرض إجاباتي على (أبو عمر)!
صمت (أبو عمر) قليلاً، قبل أن يُدلي بتعليقٍ حول روايتي، وكان يجلس متكئاً على الجدار، ويضع في حِجره وسادة، ثم ما لبث أن رفع الوسادة ليضعها جانباً، وهو يقول لي:
هل أنت متأكد..!! إن كانوا قد فعلوا ذلك فهذا ظلم، خصوصاً إن كانت لديك مستمسكات تؤكد إنك من سكان الأنبار التي كنت متجهاً إليها..
أدركت حينها أي مطب قد وضعت نفسي فيه، فأنا هنا قد اتهمت رجال الدولة الإسلامية بما ليس فيهم، وهم الذين أكرموني واحسنوا إستقبالي، رغم وجودي هنا في معتقلهم هذا، وجود تم بإرادتي أنا، عبر بحثي عن الحقيقة..
إستدركت الموضوع وقلت لـ(أبي عمر):
وهناك أشياء أخرى كذلك!
لم يسألني (أبا عمر) عن الأشياء الأخرى، التي أردت من خلالها البحث عن خط رجعة لكلامي، لكنه عاد ليتطرق لموضوع آخر، حيث قال:
تقول إنك صحافي.. فما هو اسمك الصحافي:
قلت:
حسين المعاضيدي!
توقف لبرهة عن الكلام، ثم قال، وهو يعقد حاجبيه قليلاً:
هل كنت تكتب في الصحافة قبل الاحتلال!؟
رددتُ عليه بالإيجاب، فعاد ليقول لي:
هل كتبت في الصحيفة الفلانية والفلانية، وراح يعدد بعضاً من الصحف التي كنت اكتب فيها بالفعل، قبل فترة الاحتلال الأميركي للعراق..
ثم أضاف:
ولك لقاءات على قناة الرافدين تتحدث فيها عن أيام إعتقالك في السجون الأميركية!؟





أجبته كذلك بـ(نعم)، وبإندهاش كبير لأشياء مرّ عليها سنين، حتى أنها كادت تمحى من ذاكرتي أنا، لكنه لم يذكر أي من كتاباتي اللاحقة حول المجاهدين ونصرتهم طيلة السنين الماضية!
ثم أخذ يضحك، مردداً:
سبحان الله! والله إني لأعرفك، وأعرف كتاباتك، ومواقفك، ونُصرتك للمجاهدين..
ثم أخذ يذكر لي بعض المقالات التي قرأها لي، في وقت أخذت اشرح له مناسبة وقصة كل مقال أشار إليه.. والحق أقول إنني شعرت بالسعادة لأن هناك من كان يقرأ لي، وعلى هذا المستوى من المجاهدين، ما يعني أن كلماتي كانت لا تصل إلى الأعداء فقط، بل ويطلع عليها مجاهدوا الميدان.. وهنا قال لي:
سيكون مكانك هنا، مشيراً إلى الفراش الذي بجانبه، ثم سألني إن كنت قد تناولت طعام غدائي أم لا، فأكدت له إنني صائم!
مع إقتراب موعد آذان المغرب، طلب أحد المعتقلين، ويدعى (أبو فهد)، من الجميع النهوض، وجمع الأفرشة ورفعها عن الأرض، إستجاب الجميع، فتم درجُها جميعها، ووضعت مع محيط الجدران..
جلس بعض المعتقلين على الفراش (المدروج)، فيما أخذ بعض السجناء والمعتقلين بالسير، جيئة وذهاباً، على الأرض الملساء التي تبدو كقطعة زجاج واحدة، بعدما رصفت أرضيته بقطع كبيرة من الكاشي الملون، الذي بدى وكإنه قطع من المرمر..
ولأن القوانين في سجون الدولة الإسلامية لا تسمح بتواصل المعتقلين والسجناء بشكل مباشر مع الحراس الجهاديين، بل يتم ذلك عبر شخص، يتم ترشيحه وإنتدابه من قبل المعتقلين والسجناء أنفسهم، ونفس الشخص هو كذلك من يشرف على عمليات تسلم الطعام وبقية الأمور الإدارية الخاصة بالمعتقلين والسجناء والمحتجزين، لهذا فقد اُنيطت المهمة بالمعتقل (أبو فهد)، وهو صاحب معرضٍ للسيارات، جاء، كشاهدٍ برفقة شاب آخر، يدعى (محمد)، في قضية سيارة، وقع عليها إشكاليات مع أحد المشتكين، وهو ينتظر أن يرسل إليه القاضي ليحسم الجدل لمن تكون عائدية السيارة، ولإنه لم يكن متهماً بجرم، فقد كان شعره طويلاً، كحالي أنا، فيما كان أمير القاعة ومشرفها (أبو عمر) هو من يتولى إمامة السجناء والصلاة بهم، فضلاً عن أمر الإشراف على المشرف..
طلب (أبو فهد) من (جماعة التنظيف) البدء بعملهم، حيث أخذوا بمسح الأرض بالمكانس إستعداداً للصلاة، وعادة ما يتولى أمر تنظيف القاعة أصغر الموجودين عمراً، كتطوع منهم لا بحكم أمر..
إقترب المغرب، وحان موعد الصلاة، صدحت جوامع الموصل بالآذان، فيما قام (أبو فهد) برفع الآذان، تزامناً مع أصوات الجوامع في الخارج..
قبل البدء في الصلاة سارع (أبو عمر) لإحضار برتقالة، وسلّمها لي، كي اُفطر عليها، لحين وصول طعام العشاء، ولا أعرف من أين أحضرها، وكيف، حتى ظننت أنه يحظى بمعاملة خاصة، كونه مجاهداً، وأمير..!
قشرت البرتقالة على عجل، في حين كان السجناء والمعتقلين يقفون في طابور على المغاسل إستعداداً للوضوء لأداء للصلاة..
وقف السجناء في صفوف عدة خلف إمامهم (أبو عمر)، ورغم أن كثيراً من المعتقلين، ممن لا يبدو عليهم إنهم من أصحاب الصلاة، قد وقفوا في الصف، ففهمت بعد ذلك أن الأوامر من إدارة السجن تقضي بأن يحرص كل سجين على الصلاة، وإن رفض فيُجبر عليها، وإلا فإنه يتعرض لعقوبات، دون أن يتم تحديد نوع هذه العقوبات.
كان الإمام يقف إنتظاراً كي ينتهي جميع المعتقلين والسجناء من عملية الوضوء، فيما أخذ إداري القاعة (أبو فهد) يُنظّم الصفوف، ويتأكد من إستقامة كل صف، ليُبلغ بعدها الإمام أن (كلشي تمام)، وأن الصفوف منظمة، ولا فجوات بين المصلين، ليبدأ الإمام بعدها بتكبيرة الإحرام..
كنت أقف في الصف الأول، وتحديداً خلف الإمام، لتأدية صلاة المغرب والعشاء جمعاً، ومع إني كنت أصلي صلاة مسافر، (قصراً وجمع) إلا إنني صليت صلاتهم، إقتداءاً بالإمام..
هذه الصلاة كانت لي معها قصة، فحينما قرأ الإمام سورة الفاتحة بذلك الصوت الجهوري العذب، شعرت أن روحي تنساب من بين ثنايا جسدي، الذي اقشعر، بعدما وجدت نفسي أؤدي أول صلاة تجمعني بالمسلمين في أرض الخلافة، حتى وإن كانت داخل سجن ومعتقل..!
لم أتمالك نفسي، فعذوبة صوت الإمام، (أبو عمر)، وهو يقرأ القرآن سحرتني، وأنا الذي أفتقدت مثل هذه الصلوات منذ سنين طوال، في غربة جعلت من نفسي فيها إماماً لمسجد، ولكن لا مجال للمقارنة بين إمام حقيقي كـ (أبو عمر) وإمام، هو ليس سوى صحافي، اُجبر على صعود منبر الرسول، صلى الله عليه وسلم، لعدم وجود من يقوم بهذا المهمة، وشتان بيني وبين صاحب هذا الصوت الساحر، الذي جعلني انفجر باكياً في أول ركعة من صلاتنا..!
وصل الإمام إلى الركعة الأخيرة، ورفع أكفه إلى السماء قبل السجود، وأخذ يدعو الله أن ينصر مجاهدي دولة الخلافة الإسلامية، وأن يحفظ خليفتها، وأن يُثبّت أركانها على منهاج النبوة، والمصلون من خلفه يُؤمّنون على دعائه.. ثم تحول في دعائه الطويل إلى سؤال الله، سبحانه وتعالى، هداية شباب المسلمين، وإصلاح من إنحرف منهم عن الطريق القويم.. وما أن أخذ يدعو للجميع بتفريج كُربِهم، وبالخروج من المعتقل، عاجلاً غير آجل، حتى علت الأصوات من خلفه أكثر وهم يرددون (آمين)، فيما أخذ بعض المصلين يبكي بحرقة، وحينما أخذ يدعو الله، عزّ وجلّ، أن ييسر خروج المجاهدين المذنبين ليعودوا ويلتحقوا بإخوانهم من جديد في سوح الجهاد حتى أخذت أصوات أخرى ترفع من (التأمين) على دعاء الشيخ، وكنت ألمس تبايناً في الأصوات، فقد كانت تختلف نبرة المرددين خلفه (آمين) من مكان لآخر، ففهمت حينها أن من ردد أخيراً بـ (آمين) وبصوت عالٍ، إنما كانوا مجاهدين، لم أعرف ماهي تُهمهم، أو طبيعة ذنوبهم بعد، فيما غرق الإمام (أبو عمر) هو الاخر بدموعه، وهو يدعو الله، سبحانه وتعالى، أن يُعجّل بفكاك سجنه، وسجن بقية المعتقلين ليعودوا إلى أرض النزال..
إنتهت الصلاة، ولا أعرف إن كانت صلاتي ستُقبل أم لا، وأنا الذي كنت منشغلاً، في كثيرٍ من وقتها، بتحديد أماكن الأصوات التي (تؤمّن) على دعاء الشيخ بمستوى أعلى من غيرها، فضلاً عن التقسيمات المكانية لتلك الأصوات، وما أن فرغ الإمام من التسليم، حتى سارعت، عبر الإلتفات هنا وهناك، لإستطلاع أماكن تلك الأصوات، لأبحث عن إجابة لكثير من التساؤلات، التي زاحمت خشوع صلاتي!
كان الحرس ينتظر عند الباب أن يفرغ السجناء والمعتقلين من الصلاة ليبدأ في إحضار طعام العشاء.. وهو ما جعل (أبا فهد) ينهض مسرعاً بإتجاه الباب، وهو يمسح بدموعه، ليتسلم أطباق الطعام من الحارس الذي يطلق عليه السجناء اسم (الحجي)، وهذا الوصف تبين لي لاحقاً أنه يُطلق على كل حارس هنا، وليس على ذلك الحارس فقط، كما ظننت للوهلة الأولى!
أحضر الحراس أولاً أكياس الخبز، أو ما يسمى في العراق بـ(الصمون)، وكان لا يزال حاراً، وكإنه خرج لتوه من الفرن، فيما طلب (أبو فهد) من السجناء والمعتقلين تشكيل مجاميع صغيرة، وفي لحظة تحول كل ثلاث أو أربع أشخاص إلى مجموعة يحيطون بـ(منسف) من الرز، كما يسمى في بلاد الرافدين، والتي تم توزيعها على المعتقلين، و(المنسف)، أو (الصينية)، كما يسمى في مناطق أخرى من غرب العراق، هو وعاء متوسط، أو كبير الحجم، يوضع فيه عادة الرز، أو الثريد، ويكثر إستخدامه عند الأسر الكبيرة، أو في المناسبات والولائم، خصوصاً في المجتمعات الريفية والقبلية والبدوية..



تساءل الحارس، وبصوت عالٍ، عما إذا كانت هناك حاجة للمزيد من (مناسف) الطعام، فترحمت العديد من الأفواه الممتلئة بالرز على والديه، وبعضهم أعقبها بتذكيره بسرعة إحضار الشاي بعد الطعام مباشرة، وهم يرددون بلسان عراقي: (عود لا تنسى الچاي بدربك)..
غادر الحارس القاعة، وهو يؤكد لهم بإن (الچاي) جاهز، و(بيكم خير وتدللون)، قالها بلهجته العراقية..
كان الطعام عبارة عن رزٍ، وأضيفت له مرقة بيضاء، وفوقه قطع من الدجاج..
وماهي إلا لحظات، بعد الإنتهاء من العشاء، حتى وجدنا الشاي حاضراً بين أيدينا، كما وعد بذلك الحارس..
كانت إدارة السجن تحضر الشاي في إبريقين كبيرين، يكفيان لأكثر من مائة شخص، وهو ما كان فرصة لشرب أكثر من قدح شاي واحد، بل أن البعض كان يشرب مثنى وثلاث ورباع، فأبناء الرافدين من أكثر شعوب الأرض، بعد البريطانيين، إدماناً على شرب الشاي، ولا تزال في البال قصة خالي، الذي زارنا يوماً، فسارعت والدتي إلى تجهيز الشاي، فأدارت لخالي القدح الأول، أو (الإستكان)، كما يسمى بالعراقي، ثم اتبعته بالثاني، وأردفت الثاني بالثالث، ليعقبه الرابع، فتلاه الخامس فالسادس، حتى وصل إلى (الإستكان) الثالث عشر، فسألته والدتي حينها إن كان يريد المزيد، على أمل أن يقول إكتفيت، لكنه فاجئها بالقول: إن لم يكن لديك مانع، فردت عليه، ليس لدي مانع يا قُرّة العين، ولكن إبريق الشاي قد فرغ..!
بعد الشاي، فوجئت بسلال البرتقال بيننا، حيث أحضر الحارس صندوقين من البرتقال، تم توزيعهما على المعتقلين، بحسب العدد، فيما نلت أنا أكبر البرتقالات حجماً، كتكريم لي من قبل مسؤول إدارة القاعة، (أبو فهد)، كوني ضيفاً جديداً عليهم الليلة.
بعد وصول البرتقال، فهمت الآن مصدر تلك البرتقالة التي أكرمني بها (أبو عمر)، والتي طلب مني الإفطار عليها في نهاية صيام يومي، إذ تبين أن طعام العشاء يتكون من ثلاثة فقرات، الرز مع الدجاج، وأحياناً البرغل بدلاً عن الرز، وأحياناً الإثنان معاً، فضلاً عن الشاي، ثم البرتقال، الذي يستبدل أحياناً بالتفاح، وتارة بالموز، وتارة بـ(اللالنكي)، كما نسميه في أرض السواد، و(أبو عمر) كان محتفظاً بحصته، قبل أن يُطعمني إياها!
بعد الإنتهاء من فقرات تناول العشاء، وشرب الشاي، وتقشير البرتقال، حمل ثلاثة من المعتقلين المكانس ونظفوا القاعة من جديد، ثم اعقبوها بمسح الأرضية، ثم شطفها بالماء والصابون، والقليل من الديتول، للحفاظ على نظافة المكان من الدهون، ومن مخلفات الطعام، الذي عاد جزء منه في الأواني، فقد كان هناك فائض في الكمية، إذ تحرص إدارة المعتقل أن يتناول السجناء كفايتهم من الطعام حد الشبع..
حينذاك بدأت جلسات السمر والسهر على شكل حلقات، وعادة ما يكون تقسيم هذه الحلقات بحسب طبيعة كل مجموعة، فالمجاهدون كان أغلبهم موزعين على حلقات همها الأول التنافس على حفظ القرآن، ومراجعة الحفظ عبر الإستماع لبعضهم البعض، حيث توجد هناك أعداد من نسخ المصحف الشريف، وإن إحتاج النزلاء لأعداد أكبر من المصاحف فيتم تزويدهم بها مباشرة.. كما أن هناك الكثير من المطويات الدعوية بختم وتوقيع وطباعة الدولة الإسلامية، بعضها يتناول مسائل التوحيد ونواقض الإسلام، وبعضها يتطرق إلى عقيدة الولاء والبراء، وبعضها يتحدث عن الحدود، كحد السرقة والزنا واللواط وسائر الموبقات، وأخريات عن فريضة الجهاد في سبيل الله، فيما شدتني مطوية كان يمسك بها أحد الصبيان، الذي لم يتجاوز بعد الخامسة أو السادسة عشر من عمره بعد، حيث سارع (أبو عمر) إلى شدها من يده، وأردفها بضحكة وهو يقول:
جد شيئاً ينفعك، تركت كل المطويات وأمسكت بهذه!!
دفعني الفضول لأستفسر من (أبي عمر) عن فحوى المطوية تلك، وسر سحبها من ذلك الصبي، فردّ عليّ ضاحكاً:
هذا الصبي هنا بتهمة اللواط، ويمسك بمطوية تتحدث عن شروط السبي في دين الإسلام!!
فضحكت واستغربت في ذات الوقت.. ضحكت للموقف، واستغربت لتهمة هذا الصبي، إذ قلت لـ(أبي عمر):
وهل هناك مثل هذه الجرائم ما تزال تقع الآن!؟
فرد عليّ وهو يتألم:
ما تزال هناك ترسبات من عصر ما قبل الفتح (ويقصد ما قبل فتح الموصل)، ثم واصل:
تصور نحن في هذه المحنة، وفي هذا الحال الذي لا يخفى على أحد عظمته، وهناك من لا يزال يرتكب الفواحش، ثم أخذ يشير لي إلى بعض السجناء، ويقول لي:
اُنظر إلى هذا، قد فعل كذا، وهذا قد فعل كذا، وذاك قد فعل كذا، حتى إنني ما صدقت ذلك أول الأمر، وظننته يمازحني، فقد كنت أظن أن معظم هؤلاء السجناء والمعتقلين، إنما هم سجناء رأي، أو من المتورطين بأعمال ضد الدولة الإسلامية، أو من المناوئين لها، كما يردد ذلك ببغاوات الإعلام وأعداء الدولة الإسلامية..!
طلبت من (أبي عمر) أن يضعني في صورة الأمر، وأن يشرح لي سبب وجود كل هؤلاء، فقضينا أول الليل بالحديث عن سبب وجود كل واحد من هؤلاء هنا، فلقد كانت لصاحبي (أبي عمر) معلومات عن كل من يدخل إلى هذه القاعة، بحكم دوره ومهمته في الإشراف على القاعة، وهذه المعلومات لا يأخذها من الحراس، الذين يعجز أي معتقل عن استخلاص المعلومات عن طريقهم، بل يأخذها من ألسنة المعتقلين مباشرة، كما حدث معي!
وهنا قفز إلى ذهني سؤال (أبو عمر) عن سبب وجوده بالتالي هو بالسجن، خصوصاً أنه تحدث عن وجوده في المعتقل منذ العيد الماضي، أي أنه أقترب من إكمال الثلاثة أشهر، فمسح على رأسه، ثم أمسك بلحيته الطويلة، وراح يخللها بأصابعه، وهو يقول:
عليّ دّينٌ، ويجب عليّ إيفائه، ولا أملك المال الكافي لرد الدّين..
ثم أضاف:
القاضي متردد من حسم قضيتي، بل إن أكثر من قاضياً قد نظر في قضيتي ولم يحسمها!
استغربت لهذا الأمر، فسألته السبب، فاكد لي أن القضاة، الذين مرّت عليهم قضيته، يعرفونه عزّ المعرفة، بل أن كثيراً منهم رفاق جهادٍ له، وكانوا يخشون أن يميلوا في حكمهم لصالحه، بحكم العلاقة التي تربطهم به، فكان القضاة يرمي واحدهم بالقضية على الثاني، خشية من الوقوع في هذا الأمر، بحسب تفسير (أبي عمر)..
ثم يستطرد:
اُريد أن أرد الدّين لأهله ليتم إطلاق سراحي، وقد كلفت أبني بهذا الأمر، لكن الأمر يحتاج إلى تفرغ، حيث يتوجب عليه بيع شيء من حاجياتي ليسدد ديّني..
سالته عن المانع من ذلك، فأكد لي أنه يملك قطعة أرض في بيجي العصية، والأحداث والمعارك الجارية في هذه المدينة تعرقل عمليات البيع والشراء الآن، والأهم من ذلك، كما يقول (أبو عمر)، أن ولديه، اللذان يعتمد عليهما في هذا الأمر، هم في سوح الجهاد الآن، وغير متفرغين لهذا الأمر، بل ولا أريدُ لهم أن يمتلكوا الوقت لهذا الأمر- كما يقول- فالجهاد أولى من فكاك الدّين الذي برقبتي!
خرسَ لساني عن النطق، وضاع الكلام، ألهذا الأمر وصل الحال بالمجاهدين، أن يؤثروا سوح الجهاد حتى على أبائهم، بل ويؤثر الآباء بقاؤهم في السجن على أن يتخلى أبنائهم عن مهمتهم الجهادية، ولو ليوم واحد..!
حاولت الإستفاقة من صدمتي، وقلت له:
وكم المبلغ الذي بذمتك لمدينك، فقال لي:
هي (75) ورقة، كما يتم حسابها بالعراق عادة، أي سبعة آلاف دولار ونصف!
قلت له:
المبلغ ليس كبيراً لدرجة أن تبقى هنا في هذا السجن قرابة الثلاث شهور..
قال لي، مع إبتسامة عريضة تخفي خلفها ألماً، بدى لي بحجم أرض وسماء:
قد يكون لديك ليس صغيراً، لكنه والله عندي ليس كذلك، والله أعلم بالحال!
قلت له:
بداية هو ليس بصغير عندي، فالحال من بعضه، كما يقال، لكنك، يا شيخ، أميراً عسكرياً، ومن المفترض أن مرتبك الشهري يسد مثل هذه الإحتياجات!
فنظر إليّ مستغرباً هذه الفكرة عن مسألة المرتب الشهري وحجمه، وعن حال الوضع المادي لأمثاله من الأمراء في جيش الخلافة، قائلاً:
أخي أبا قسورة:
إن لم تكن تعلم، فإن ما يتقاضاه (الأمير) في دولة الخلافة الإسلامية، هو ذاته ما يتقاضاه الجندي البسيط، فلا فرق بين هذا وذاك، فالكل في ميزان الشرع سواء، والأمر نفسه ينطبق على مخصصات الزوجة والأطفال..
ثم أضاف:
نحن لسنا طلاب مناصب، ولسنا ممن يبحث عن الثراء والغنى، نحن نجاهد في سبيل الله، ودولة الخلافة، أعزّها الله، تتفضّل علينا حينما تعطينا ما يسد رمق أطفالنا وعائلاتنا، فما خرجنا إلا لنجاهد في سبيل عزّة الإسلام والمسلمين، وتمكين شرع الله، لا بحثاً عن المال، ولم يكن في خلدنا الحصول على المال، لكن الدولة الاسلامية تكفلت بتأمين معاش عائلاتنا، وإن لم نحصل منها على هذا القوت الشهري، فسيكون خيارنا الجهاد، فضلاً عن تأمين ما نسد به رمق أطفالنا..!
لم أتمكن، وأنا استمع إليه، من حبس دموعي، فما اسمعه هنا يذيب لسماعه الصخر، حتى إنني تمنيت لحظتها لو كنت أمتلك في جيبي، او حتى في خزائني مثل هذا المبلغ لأدفعه عنه، وأفك به ضيق سجنه!
أضاف وهو يتحدث، في وقت كنت ألوذ بالصمت، من شدة الذهول:
والله إنني لا أتألم من وجودي هنا، فهنا كل شيء متوفر لي، طعام، ومنام، وظل، ودفء، ولكن محروم من الجهاد، فما عذري أمام رب العالمين، يوم أقف غداً بين يديه، ما عذري وأنا قد سمحت لأبني بتنفيذ عملية إستشهادية استهدفت مقر وزارة العدل في بغداد، وانا هنا متأخر عن الجهاد بسبب دّين.. ثم أضاف:
والله لو طلبوا مني قطع أجزاء من لحم جسدي قبالة دَيني ما ترددت لحظة، حتى لا اُحرم أكثر من سوح الوغى..
كان (أبو عمر) يتحدث، وعيونه غارقة بالدمع، حتى ابتلت لحيته.. تمدد على ظهره ووضع البطانية على جسده، ثم أخفى وجهه، بعدما أنتابته نوبة بكاء صامت، على تأخره عن سوح الجهاد..!
كنت اتحدث إليه، ولا أعلم إن كنت أواسيه، أم أواسي نفسي، التي تأخرت عن هذا النعيم كل هذه السنين، وإن كنت مجبراً، فما اسمعه هنا شيئاً يفوق الوصف والخيال..!
قلت له:
هون عليك بالله يا (أبا عمر) إنها أيام، بإذن الله، وتعود لجهادك..
رد عليّ متحسراً، وإن عدت، فمن يعوضني هذه الأيام التي قضيتها هنا..!! أبنائي يجاهدون، وثالثهم نفذ عملية إستشهادية في (وزارة الظلم) الرافضية، وأنا هنا جالس لا أستطيع إيفاء ديني ليُفك أسري..
بعد حديث (أبي عمر) وفتح قلبه لي، بعدما تيقن من هويتي، كان لزاماً عليّ أن أصارحه بما جئت لأجله، فتبسم وهو يمسح بدموعه، قائلاً لي:
أعرف ذلك، وأعرف إنك اخفيت عني ذلك!
استغربت أكثر، وسألته:
كيف عرفت!؟
قال:
لقد قرأت لك الكثير، وأعلم إنك لست من النوع الذي يجعل من أرض الخلافة له مجرد طريق ليكون فيها عابر سبيل لا أكثر، ومثلك لابد أن يدعم صدق كلامه بعمله، فأدركت حينها عظمة مسؤولية الكلمة، فكل كلمة نكتبها ولا نطبقها، إنما ستكون شاهدة علينا أمام رب الأرباب، فتهوي بنا في قعر الجحيم ودركه الأسفل مع المنافقين، أو يكون لها معنا شأن آخر وحال!
أخذ (أبو عمر) يجيب عن كثيرٍ من تساؤلاتي، حتى قبل أن اسأله إياها.. قال لي:
لن أحدثك عن القضاء، فشهادتي مجروحة، لإنني أحد جنود الخلافة، لهذا عليك أن تعرف بنفسك ذلك، وتيقن أن وجودك هنا لم يكن عبثاً، بل بتقدير رباني، لتمارس دورك في إظهار وكشف الحقيقة المغيبة عن الناس، والتي يتحكم بمصيرها الشرق والغرب عن طريق إعلامه، هذا الإعلام الذي أنصف حتى الهندوس وعبدة البقر والحجر، لكنه لم ينصف يوماً الدولة الإسلامية، التي تريد أن تطبق شرع الله، لا أكثر، وأن يُعبد الله، سبحانه وتعالى، كما يريد لنا أن نعبده ونقدسه..
حاولت التقصي عن قصة إستشهاد أبنه، التي حدثني عن بعض تفاصيلها، رغم إدراكي صعوبة فتح مثل هذا الموضوع معه، لكن الواجب يحتم عليّ ذلك كما أرى، فمن المهم التوثيق لهذه المرحلة ولرجالاتها الأباة، أمثال هذا المجاهد..
قلت لـ(أبي عمر) معاتباً، بعدما رأيت الألم الذي يختزن في داخله، حتى يكاد يفتك به:
عليك أن تفرح لإستشهاد إبنك، لا أن تحزن!
فردّ عليّ، وكإنني فجرت قنبلةً بين يديه:
معاذ الله، ومن قال لك إنني حزين لما قام به ولدي، بل والله ما حزنت إلا لأنه سبقني إلى الجنة، وأنا لا أزال هنا حياً ومكبلاً بقيود السجن، بل أنه وحينما اتصل بي في آخر لحظاته قبل تنفيذه لعمليته، دعوت له بالثبات، وأوصيته بالدعاء لي ولإخوته أن يلحقنا به عاجلاً غير آجل..
ثم أضاف أبو عمر:
لقد فقدت ولدي، وزوجتي، وأبنتي، رحمهم الله، في وقت متقارب، لكني والله ما حزنت كحزني الآن على حالي هنا، فأي شعور ذلك الذي ينتابك وأبناؤك يقاتلون في بيجي العصية وتكريت الأبية وأنا متأخر عنهم!
لا أعرف لماذا قفزت إلى ذهني قصة ذلك الأسد الهزبر (أبي محجن الثقفي)، وهو يتمرد على قيود وزنزانة الصحابي الجليل سعد ابن أبي وقاص، رضي الله عنه، في معركة القادسية ليهرب من السجن، بمساعدة (سلمى)، زوجة ابن أبي وقاص، ليقاتل في الخفاء، ثم يعود إلى سجنه بعد ذاك، وكإني بـ(أبي عمر) يبحث عن (بلقاء) سعد، وينادي بصوت أبي محجن:
كفى حزنا أن تدخل الخيل بالقنى
وأترك مشدودا علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وغلقت
مصاريع دوني تصم المناديا
يُقَطِّع قلبي حسرةً أن أرى الوغى
ولا سامعٌ صوتي ولا من يَرَانيا
وأن أشهدَ الإسلام يدعو مُغَوِّثاً
فلا أُنجدَ الإسلام حينَ دعانيا
سُلَيْمى دعيني أروِ سيفي من العدا
فسيفيَ أضحى وَيْحَهُ اليومَ صاديا
دعيني أَجُلْ في ساحةِ الحربِ جَوْلَةً
تُفَرِّجُ من همّي وتشفي فؤاديا
تساءلت هنا مستغرباً عن كونه أميراً والمحكمة لا تأخذ هذا بنظر الإعتبار، فرد عليّ بما يثلج الصدر:
نحن هنا جميعاً سواسية، فلا قضية مفضلة على قضية أخرى، بل هنا، ورغم إنني أمير، وشيخ وإمام وخطيب، إلا أن الحراس ينادونني بإسمي، وبإسمي فقط، وهو بالفعل ما لاحظته، واستغربته أول الأمر، حينما سمعتهم ينادون عليه باسمه وهم يتحدثون إليه..
ويضيف (أبو عمر):
هنا لا مكان للمحسوبية، وهذا الصبي، مشيراً إلى صاحب تهمة اللواطة، هو له نفس الحقوق هنا، ولا يتم تفضيلي عليه، فهو، وإن كان مسيئاً، وصاحب ذنب، إلا إنه لا يجب أن تُقدم قضيتي على حساب قضيته، فهو من رعية الخليفة، ويجب أن ينال حقوقه أياً كانت تهمته..!
قطع حديثنا، وحديث الجميع حارس القاعة، الذي طلب من الجميع الخلود للنوم إستعداداً للنهوض مبكراً لصلاة الفجر، فأطفأت جميع الأنوار بإستثناء ضوء واحد خافت، ليساعد من يرغب في الذهاب إلى الحمام ليلاً على إبصار طريقه، فقلت لـ(أبي عمر)، سأنتظر مقابلة القاضي يوم غدٍ، بإذن الله.. فتبسم في وجهي وهو يقول:
لا تنتظر مقابلته غداً، فالغد هو الجمعة، وهو عطلة رسمية في أرض مؤسسات ودوائر الخلافة، فضحكت بدوري وقلت له، حبذا لو كان الإسبوع القادم كله جمعة، لأن هناك الكثير مما أريد معرفته عن هؤلاء المعتقلين، وما جاء بهم إلى هنا، وما سيؤول إليه مصير كل واحد منهم، فتبادلنا الضحكات قبل أن نغطي وجوهنا بالبطانية هرباً من النور المضاء لنتمكن من النوم!
رغم محاولاتي النوم إلا إنني عجزت، فقد كانت الكثير من الأفكار والأمور قد بدأت تتزاحم في رأسي وتعصف به وبي، من بينها الخشية من أن يطول بي المقام، حتى لو رغبت بالبقاء، فحينما دخلت المعتقل الأميركي كنت قد ظننت حينها إنني سأخرج بعد ساعات، كوني صحفياً، وحينما مرت الساعات قلت ربما بعد يوم، وبعد اليوم منّيتُ النفس بإسبوع، ثم توالت الأسابيع والشهور، حتى وجدت نفسي قد قضيت فيه عاماً كاملاً.. فهنا قد قطعت الصلاة مقابلتي مع القاضي، ولا أعرف متى سيعود، ولا أمل في خروج من هنا يوم غد، كونه الجمعة، رغم إنني بحاجة للبقاء هنا فترة أطول، لكني أخشى ما أخشاه أن يطول بي المقام هنا، ليس خشية من السجن، فالحياة هي لنا سجن، ولكني أخشى أن يقال أن الدولة الإسلامية تسجنُ مناصريها، أو تعتقل الناس بغير وجه حق!
وبين نائم وصاحٍ إستيقظ (أبو عمر)، ليجدني لا أزال اتقلب في فراشي، وكانت الساعة حينها قد ناهزت على الثالثة والنصف صباحاً، فقال لي ممازحاً، وهو يفرك بعينيه:
وكإنك لم تعتد حياة السجون والمعتقلات يا أبا قسورة!؟
فقلت له:
والله ليس هذا من سرق النوم من عيناي، ولكن الأمر عندي أعظم وأجلّ!
فرد عليّ مُطمئنا إياي، بعدما فهم مقصدي:
ترفق بنفسك، فوالله لن تندم على سعيك هذا! قاصداً بذلك سعيي إلى البحث عن عدالة ونزاهة القضاء في ظل دولة الخلافة، وهو ما جعلني أرد عليه:
وهذا والله ما أرجوه!
غادرني (أبو عمر)، رفيق سجني المؤقت هذا، ليتوضئ، كي يقيم الليل، وحينما عاد بدأ يصلي فوق فراشه، فأطال القيام حتى شعرت وكإنه ختم نصف القرآن في ركعة واحدة، فيما كانت عيناي تغالب النعاس، الذي بدأ يغزو مضاربي في أعقاب كلام أبي عمر الذي طمئنني على صدق التوجه الذي إخترته لنفسي..
كان دعاء (أبو عمر) الخافت، ودموعه الغزيرة، وهو يناجي رب العزّة في تلك الليلة، بتيسير وتسريع عودته إلى الميدان الجهادي، تقطعُ عليّ طريق النوم، فقد كنت استمع لهمس دعائه، وأنا تحت الفراش، ودون أن يعلم كنت أؤمن له على الدعاء، فمثل ذاك الرجل ليس له إلا أن يكون في الميدان، لولا الدّين الذي يقهر الرجال!
شعرت بيد (أبي عمر) وهي تمتد لتوقظني من غفوتي البسيطة، التي هاجمتني في غفلة من سكوني، وهو يبلغني أن صلاة الفجر قد إقترب أوانها، وعليّ الوضوء قبل أن يصبح هناك زحاماً على الحمامات والمغاسل..
نهضت من فوري، وبعد وضوء وصلاة قيام سريعة، طلب مني (أبو عمر) رفع الآذان الأول، بعد سماعنا لصوت الآذان الأول من مساجد الموصل ، لتغطي التكبيرات وتعلو على أصوات طائرات التحالف (العربي – الغربي – الإيراني)، حتى ما عدنا نسمع لها صوتاً..
بعد الإنتهاء من الآذان، الذي لم يوقظ الجميع، طلب (أبو عمر) من أحد المجاهدين، وكنيته (أبو صفية)، الذي كان معتقلاً هو الآخر لسبب أجهله في ذلك الوقت، أن يوقظ من تبقى من النائمين، فأخذ يدور عليهم واحداً واحداً ليوقظهم، ثم بدأ بعض المعتقلين ممن أنهوا الوضوء في بسط البطانيات فوق الفراش إستعداداً للصلاة..
طلب مني (أبو عمر) ثانية رفع الآذان الثاني، لتبدأ بعدها الصلاة التي لم يتأخر عنها أي من المعتقلين، حتى أولئك أصحاب التهم المخزية، فلا خيار هنا ولا عذر، فالصلاة واجبة على الجميع أياً كانت تهمته أو جريمته أو ذنبه وخطيئته، لتنتهي الصلاة كما أنتهت صلاة العشاء والمغرب بدعاء ودموع وحسرات أولئك المذنبين والمتهمين!
تفرق الجميع بعد الصلاة، وعاد كل واحد منهم إلى مضجعه ليكمل نومته، فيما جلس آخرين فوق فراشهم يمسكون بالمصاحف ليقرؤوا في كلام الله، ويتدبروا آياته..
ساعة ونصف، لا غير، هي الفترة التي اعقبت الصلاة، قبل أن يطرق الباب حراس المعتقل، طالبين من المعتقلين النهوض والإستعداد لتناول طعام الإفطار..
جلس الجميع واتكئوا على الجدار، واضعين الأغطية على أجسادهم، دون الرأس، فالبرد في الخارج قارص، وخيوطه تغزو القاعة، خصوصاً حينما نضطر لفتح أجزاء من النافذتين الطويلتين اللتين أقطتعتا جزءاً عريضاً من الجدار الطولي للقاعة، فمفرغات الهواء، التي تقع واحدة منها فوق رأسي تماماً، لا تكفي أحياناً لتنقية جو القاعة، رغم وجود مفرغتين كبيرتين في سقف القاعة، لا تستخدما عادة إلا نادراً، لإنهما تحولان جو القاعة، حين فتحهما، إلى قطعة من القطب المتجمد الجنوبي!
طعام الإفطار في معتقل الدولة الإسلامية هذا يتوزع بين الخبز الحار، أو ما نطلق عليه بالعراقي اسم (الصمون)، والذي يأتي من الفرن مباشرة، حيث يتم منح صمونتين إثنتين لكل معتقل، وبين الجبن (المثلثاتي) الشكل، حيث تكون حصة كل سجين قطعتي جبن، وأحياناً يُستبدل الجبن ببيضتين مسلوقتين أثنتين، وأحياناً يستعاض عنه باللبن الرائب، حيث يتم منح علبة كبيرة لكل مجموعة، وفي حالات أخرى يتم توزيع الراشي (الطحينية)، التي تتميز بها مدينة الموصل عن غيرها من المدن، تماماً مثلما تتميز بالـ (كبة)، الكبيرة الحجم، والتي تختلف إختلافاً جذرياً عن الـ(كبة) الصغيرة، التي كان يطهوها (حيدر العبادي)، لزبائنه في المطعم الذي كان يعمل فيه بإنكلترا، قبل أن يصبح، وفي غفلة من الزمن، رئيساً لوزراء حكومة المنطقة الخضراء( الإيرانية – الأميركية) المشتركة، تلك (الكبة) التي يعزف عن تناولها الغربيين، لإحتوائها على روث المعممين المُستورد من إيران، ومن النجف ومن كربلاء، على ذمة (الفيسبوكيين) و(التويتريين) وبقية روّاد مواقع التواصل الإجتماعي، ما يجعل جُلّ زبائنه من الحثالات التي صدرتها السعودية إلى أوربا من معسكرات (رفحا) الشيعية، والتي أقامتها شمال الجزيرة العربية للقتلة والسراق والمجرمين في أعقاب حرب الخليج الثانية!
كانت مجموعة توزيع الطعام داخل القاعة مجموعة من الشبان، اختارهم المسؤول الإداري (أبو فهد)، والذين يجاورونه في النوم، فهم من يتكفل بتوزيع الخبز ومفردات الفطور، وتوزيع الشاي، وكذا الحال مع بقية الوجبات، فأخذ أحدهم يتحدث مع المعتقلين بعصبية، كون بعضهم يطلب ملء كوب الشاي جيداً، خصوصاً وأن الشاي كثير، ويكفي لضعف العدد، لينضم أحد أعضاء مجموعة توزيع الطعام إلى صاحبه في توبيخ بعض المعتقلين، فراح يتحدث بصوت عالٍ في وسط القاعة قائلاً:
(من لا يشبع في بيته لن يشبع هنا)، وهذا المقولة معيبة في العُرف العراقي، لإنها تُعدُّ نوعاً من الإهانة والإذلال للمقابل، فما كان من (أبو عمر) إلا أن نهض من مكانه، وأمر هؤلاء الشباب بالجلوس في أماكنهم، ومنع مشاركتهم ثانية في هذا العمل (التطوعي)، فيما هاجم الشباب من المجاهدين، طالباً منهم التكفل بخدمة إخوانهم المسلمين، بحسب قوله، مشيراً إلى أن العمل الجهادي لا يقتصر على سوح الجهاد، بل وخدمة المسلمين أينما كانوا، حتى لو كانوا داخل معتقل، وحتى لو كان المسلمون هؤلاء من أصحاب الذنوب والمعاصي، فخدمتهم واجبة، كما يقول (أبو عمر)، الذي كان يتحدث بعصبية، تعاكس تماماً ذلك الهدوء الجامح الذي كان يطغى عليه، قبل أن يحمل بيده أبريق الشاي الكبير، ويبدأ يدور بنفسه على المعتقلين ليسقيهم الشاي، مردداً: نحن مأمورون أن نخدم صغير المسلمين وكبيرهم!
إنتهى الإفطار ووقته، وشرب المعتقلون الشاي الساخن، الذي عدّل مزاج بعض المعتقلين، من مدمني الشاي، خصوصاً بعد محاضرة (أبو عمر)، الذي كان يتحدث وهو يدور على المعتقلين وأبريق الشاي في يده، لتبدأ بعد ذلك الأحاديث والإستماع للقصص والأسباب التي أوصلت كل واحد من هذا الجمع، الستيني العدد، إلى هذا السجن، ذو العشاء والفطور الشهي، في ظل غياب لهوية الغداء، الذي لم أصل لمرحلته ووقته بعد!
أخذ بعض الشباب يتجمعون حولي، وبدأت الأسئلة تنهال عليّ من هنا وهناك، بعد الإستئذان من (أبو عمر)، الذي جلس يستمع دون أن يتدخل في الحديث، ممسكاً بيده مصحفاً ليراجع حفظه، فهو يحفظ القرآن بكامل أجزائه، ولا ينفك من مراجعة حفظه، كي لا يفقد منه شيئاً، كما ذكر لي لاحقاً..
إختصرت قصتي للجميع بإني صحافي، وبإني هنا للتأكد فقط من جواز سفري، وسأغادر بسرعة، دون أن أخوض في أية تفاصيل أخرى، حتى لا يتم إتهام الدولة الإسلامية ورجالها بما ليس فيهم، كما فعلت مع (أبو عمر) بعد وصولي، والذي سرعان ما صححت له الوضع بتبياني له حقيقة وأسباب وجودي في أرض الخلافة أولاً، وفي ذلك المعتقل ثانياً..
وجدت أن أكثر من يحيطون بي هم من غير المجاهدين، فالمجاهدون كانت لهم حلقاتهم، ولا تجد أحد منهم يغادر يده المصحف، لهذا بدأت أتحدث إلى أولئك الذين جاءوا إلى هذه المعتقلات نتيجة ذنب جنوه، أو جنحة ارتكبوها، أو موبقة وفاحشة اقترفوها، مستغلاً خبرتي في مجال الخطابة لعدة سنين في المسجد الذي إفتتحته في غربتي واعتليت منبره لعدم وجود من يقوم بالمهمة من أهل الإختصاص..
كنت أتحدث لهم أولاً عن إختلاف البيئة التي جئت منها عن هنا، وكيف أن فرق درجة الحرارة قد يصل أحياناً إلى مائة درجة، ففي الصيف مثلاً تصل درجة الحرارة في العراق إلى الستين درجة مئوية، وتزيد أحياناً عن الستين، في حين أن درجة الحرارة في الشتاء، حيث كنت أنا، قد تصل في بعض الأوقات في الشتاء إلى خمس وأربعين تحت الصفر..
كنت اُجيب عن أسئلتهم عن شكل الحياة في الخارج، وكيف هي غرائبها وعجائبها، كنت أتحدث لهم وأشرح لهم، وهم ينصتون بإهتمام بالغ، فكثير منهم لم يغادر حدود الموصل إلى محافظة أخرى، فكانوا منجذبين لهذا الحديث، ثم ما لبثت أن اتجهت في الحديث، مستغلاً هذه الفرصة، عن نظرة العالم إلى الدولة الإسلامية من الخارج، وكيف يحسد المسلمون سكان المناطق التي تقع تحت سيطرة الدولة الإسلامية، وكيف أن الأمنيات معلقة بالهجرة إليها، وكنت أؤكد لهم أن كثيراً من الناس يحسدونهم على هذه النعمة التي هم فيها، حتى العصاة منهم، ثم أخذت استعرض لهم كيف أن العالم يتآمر على الإسلام، وكيف أن كثيراً من سكان الغرب بدأوا يدخلون ويعتنقون هذا الدين، رغم محاربته، ثم أعود لأطلب منهم النظر إلى حالهم، إن كانوا يمثلون الإسلام، أم إنهم أعداء للإسلام، من حيث لا يدرون، بإرتكابهم المعاصي والجرائم، في ظل هذه الظروف التي تمر بها أمة الإسلام، خصوصاً وهم يمثلون اليوم شعب الخلافة..
وجدت في حديثي هذا فرصة لمعرفة أسباب وجود هؤلاء هنا، وما قصة كل واحد منهم، فتوجهت، في خضم حديثي، إلى أحد الشباب الذي كان بعمر المراهقة، وسألته عن سبب وجوده في هذا المعتقل، فأكد لي إنه لص..
سألته عما سرقه، فأكد لي إنه سرق من أحدى المحلات التجارية مبلغاً من المال يقرب من المليون دينار عراقي، أي قرابة السبعمائة وخمسين دولاراً، سألته ثانية عن سبب مد يده، فتذرع لي بالجوع..!
قلت له:
وماذا فعلت بالمبلغ، فقال لي إنه إشترى بنصفه هاتفاً خلوياً حديثاً، والنصف الآخر إشترى به ألعاباً إلكترونية، فوقع في التناقض من حيث لا يدري..
سالته مستغرباً:
وهل من يسرق الأموال بذريعة الجوع يذهب ليشتري بها ما أشتريته، فوضع رأسه بين ركبتيه وقال:
والله صدقت، لكن، والله، أن الشيطان من دفعني إلى ذلك، ولن أفعلها ثانية.. كان يتحدث إليّ وكإنه يتحدث إلى القاضي، ثم سألني:
أنت صحافي و(تفتهم)، رأيك ما سيكون حكم القاضي بحقي؟!
كان الشاب الصغير، ورغم أنه لا يزال في سن المراهقة، إلا أنه لم يكن يعرف حتى القراءة والكتابة، بعد أن ترك المدرسة طيلة سنوات الاحتلال، نتيجة الظروف الصعبة والقاهرة التي كان سكان الموصل يعيشونها قبل إعادة تحريرها وفتحها من قبل مجاهدي الدولة الإسلامية، لهذا فقد كان يتحدث بطريقة بسيطة جداً، قلت له:
أعطني يدك، أمسكت بيده، ثم قلت له:
أيهما تختار؟!
قال:
لأي شيء!؟
قلت:
لقطع يدك.. هذه، أم هذه !؟
فتغير لونه، ثم أخذت نبرة صوته تتغير، وهو يقول لي:
هل حقاً سيقطعون لي يدي !؟
سألته هنا:
المال الذي سرقته لمن كان !؟
أجابني:
سرقته من محل تجاري!
قلت:
يعني هو لشخص ما !؟
صمتَ للحظة، ثم قال:
بالتأكيد!
قلت:
يعني هو لشخص لديه عائلة وأطفال، ويخرج من الصباح إلى الليل، ويعمل جاهداً حد التعب والإرهاق في هذه الظروف القاسية والعصيبة، ليأتي برزق أطفاله وأهله ليطعمهم، ثم تأتي أنت لتسرق جهده وتعبه ورزق أطفاله، فياترى ما الحكم الذي تستحقه أنت.. أنت أجبني؟!
قال بصوت ممزوج بندامة:
من الجوع!
فذكّرته بإعترافه:
أنت قلت إنك إشتريت بالمبلغ هاتفاً (موبايل)، وألعاباً إلكترونية، فعن أي جوع تتحدث، فما كان منه إلا نكّس رأسه ثانية، وهو يقول:
والله صحيح!
إلتفت إلى شاب آخر، وسألته:
يا ترى ماهي تهمتك أنت؟!
فردّ عليّ:
أنا كنت شرطياً قبل الفتح!
استوقفتني إجابة هذا الشاب الذي تجاوز العشرين، ربما بأربع أو خمس سنين، ويدعى (سعد المعيني)، والذي كان يرتدي سترة جلدية (قمصلة)، أنيقة، بنية اللون، فهي المرة الأولى التي التقي فيها بألد أعدائي، من أعوان الحكومة الشيعية، سواء من الشرطة، أو من الجيش، أو من بقية عناصر الأجهزة الحكومية العميلة..
قلت له:
وهل إعتقلتك الدولة الإسلامية لأنك شرطي !؟
فأجابني، بعدما تنهد قليلاً:
أنا قصتي طويلة ومعقدة!
قلت له:
ليس ورائنا من شيء، تحدث لنقضي الوقت بالأحاديث، قلتها على أمل أن يضعني في تفاصيل قصته (الطويلة والمعقدة)، والتي إختصرها بالتالي بثلاث جمل، لا أكثر..!
قال سعد:
لقد كنت شرطياً قبل الفتح، وتحديداً في دائرة الشؤون الداخلية بشرطة بيجي بمحافظة صلاح الدين، قبل أن تصبح إحدى ولايات دولة الخلافة، وبعد (الفتح)، وسيطرة (الإخوة) على المحافظة، قمت بالتوبة وإعلان براءتي، حالي حال الآلاف من أفراد الشرطة والجيش والصحوات..
كان (سعد) يتحدث، وهو يستخدم مفردات جهادية كـ(الإخوة) تعبيراً عن المجاهدين، و(الفتح) دلالة على عملية فتح المدن وتحريرها، وغيرها من المصطلحات..
وقبل أن يكمل حديثه قاطعته:
وأين المشكلة، فإن كنت قد تبت، فلماذا أعادوا إعتقالك إذن !؟
قال:
حينما اعلنت البراءة كان يتوجب عليّ تسليم سلاح الشرطة، الذي كان بحوزتي، إلى (الإخوة) بحسب الأوامر والتوجيهات التي أعلنتها الدولة الإسلامية، كأحد شروط التوبة، لكني أخفيت المسدس، وأكتفيت بتسليم البندقية فقط، وفي أحد الأيام، تم إيقافي في إحدى نقاط التفتيش الخاصة بـ (الإخوة)، فوجدوا المسدس بحوزتي، حيث كنت أحمله معي في السيارة، فتم إعتقالي وتوجيه تهمتين لي بدل الواحدة، الأولى عدم تسليمي لكل السلاح عند إعلان توبتي، والثانية حملي السلاح دون ترخيص من الدولة الإسلامية.. ثم أنهى كلامه بسؤالي:
اُستاذ، يا ترى ما هي عقوبة مثل هذه التُهم؟!
فأجبته، مستحضراً كل حقدي الدفين على الشرطة والجيش الحكومي والصحوات:
قطع الرأس فقط!
كان (سعد) يضع ذقنه على ركبته، حينما كان جالساً متحدثاً إليّ ليروي حكايته، فرفع رأسه إلى الأعلى متفاجئاً ما أن نطقت بجوابي ذاك، فقال والرعب قد فتك بملامحه ودبّ بين عينيه:
معقول!!
شعرت بيد من خلفي تمسني، لأجد (أبو عمر) يخفي ضحكاته، وهو الذي كان يستمع لأحاديثنا، دون علمي، فسحبني نحوه قليلاً ليهمس في اُذني:
قطّعت أيديهم ورؤوسهم، رأفة بهم، فلن يناموا الليل يا رجل.. قالها، ثم أخذ يضحك.. فيما أجبته بالقول:
لو كان الأمر بيدي لأحرقتهم، فردّ عليّ مازحاً: لا جعلك الله قاضياً.. فتشاركنا الضحك على الموقف، قبل أن أعود لأكمل التناوب بين أحاديثهم وأحاديثي!
حان موعد صلاة الجمعة، وأخذت مساجد مدينة الموصل تصدّح بتكبيرات الآذان، وأصوات خطباء منابر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أخذت تشق أعنان السماء، صدعاً وجهراً بالحق، هذه المنابر التي لطالما حوربت من قبل الشيعة، ومن قبل علماني الكُرد، وعلى أيدي مرتدي السًنة، فكانت تشكو إلى بارئها ظلم هؤلاء، وتسيّد الباطل، فيما قمنا نحن بإداء صلاتي الظهر والعصر جمعاً، كالمعتاد، إذ لا جمعة في السجن..
بإنتهاء الصلاة، جاء موعد الغداء، والذي لم يكن يختلف كثيراً عن عشاء الأمس، (مناسف) الرز، وأخرى حوت البرغل، ليعقب الغداء الشاي، ثم الفاكهة، ثم نومة القيلولة بعد الظهر..
أثناء هذه الأحداث، شدني منظر أحد المعتقلين، وكان أكبرنا سناً، رجل كهل، يكاد عمره يقترب من الخامسة والسبعين أو ربما يزيد بقليل، وكان يجلس وحيداً، وهو محدودب الظهر، نتيجة تداعيات العقود السبعة او الثمانية التي تركت آثارها عليه..
كان مجموعة من الشباب يتناوبون على خدمته، يساعدونه في الذهاب إلى المراحيض وإعادته، وإبلاغ الحراس بكافة طلباته من علاج وغطاء مضاعف وغيرها..
كان يغطي رأسه وجسده دائماً بـ(فروة)، وهي رداء مبطن بجلد خراف الأغنام، وهي تعد من أساسيات الرجل الريفي أو البدوي في بلاد الرافدين، وخصوصاً في مناطق وسط وغرب وشمال العراق، دون الجنوب، الذين عادة ما يكثر سكانه من إرتداء (القماصل) العسكرية فوق ملابسهم المدنية، والـ (فروة) هذه يزداد سعرها إرتفاعاً كلما صغر عمر الخروف الذي صُنعت من جلده..
كان هذا الرجل المسن يؤدي الصلاة جالساً، لعدم قدرته على الوقوف طويلاً، فتعجبت لحال هذا الرجل، وعن سبب إعتقاله، وهو الذي بلغ من الكبر عتيا، فأخبرني (أبو عمر) بقصته، حيث تبين إنه كان يمارس السحر منذ سنين طوال، وأن رجال الدولة الإسلامية قد إعتقلوه متلبساً، وهو يمارس أعمال السحر، فجيء به إلى هنا، بإنتظار أن يُعرض على القاضي، لينظر في أمره، فقلت ممازحاً (أبو عمر)، سألجأ إليه ليعمل لي سحراً، فربما يخرجني من هنا، فضحك (أبو عمر)، قائلاً لي:
ليخرج نفسه أولاً بسحره..!
شاب في العشرينات جذب إنتباهي، لا ينفك عن قراءة القرآن، وكان دائماً ما يضع المصحف على صدره حتى أثناء القراءة، فكان يقرأ دون أن ينظر إلى المصحف، بل وحتى حينما ينام كان يضع المصحف على صدره، محتضناً إياه بقوة، وكإن أحداً ما يريد أن يسرقه منه، كان يرتدي بدلة جهادية سوداء اللون، ما يعني أنه تم إعتقاله من ساحة معركة أو من الواجب الذي كان فيه، وكان الشاب، ذو اللحية الطويلة، رغم صغر سنه، ينام على يميني، دفعني الفضول للتساؤل عن قصته وسبب دخوله السجن..
قلت له:
هل أنت من (الإخوة).. وأعني من المجاهدين؟!
فرد عليّ بحسرة، بعدما أعتدل في جلسته:
كنت!
والآن..؟! هكذا سألته:
أجابني:
لا أدري، فالشيخ من سيقرر.. ويقصد بذلك القاضي!
قلت:
لكنك لا تزال تلبس زي المجاهدين، يعني إنك لا تزال منهم!
ردّ عليّ:
زيهم ما يزال عليّ لإنهم إعتقلوني من مكان جريمتي!
سألته عن (جريمته)، كما وصفها هو!
فردّ عليّ:
أنا قاتل.. قالها بمرارة وألم..!
إندهشت للأمر، فسألته عن حيثيات قصته، فأكد لي إنه كان في واجب جهادي، وفي لحظة إستراحة، كان يمسك بسلاح بندقيته متفحصاً إياها، وفي غفاة منه إنطلقت رصاصة من فوهة البندقية، دون إدراك منه، ليُقدّر الله لحظة إنطلاقها مع مرور صديقه ورفيق جهاده من أمامه، لتستقر في فخذه!
قلت له مستغرباً:
وكيف لرصاصة في الفخذ أن تقتل صاحبها، فأجاب على إستفهامي بالقول:
كانت المعركة على أشدها، ولم يكن لدينا الوقت لنعالج الجرح، وقد رفض صديقي الجريح أن يتم إخلاؤه في الحال، وبعد الإنتهاء من المعركة تم نقله إلى المستشفى للعلاج، وبقيّ بعدها ليومين في المستشفى، قبل أن يفارق الحياة، نتيجة مضاعفات الإصابة التي حدثت بسبب التأخر عن علاجه وذلك لإصراره على البقاء في المعركة..!
وعكس بقية المعتقلين الذين كانوا يسألوني عن توقعي لقرار القاضي بحقهم، سألت (أحمد)، وكان هذا اسمه، عن الحكم المتوقع في مثل هذه الحالات، فأشار إلى أن صديقه، وقبل أن يفارق الحياة، برأه من أي شيء، وأكد لأهله، وللمجاهدين، بإن الحادثة إنما كانت قضاءاً وقدراً، وأوضح لهم إننا لسنا أصدقاء ورفاق جهاد فقط، بل نحن أخوة، وأن ما حصل كان بقدر رباني، مطالباً أهله بعدم تقاضي أي شيء من صاحبه ورفيقه، كالديّة، في حال عدم نجاته..
كان (أحمد) يتحدث والدموع تملئ عينيه.. قلت له:
هون عليك يا أخي، فالأمر قدرٌ إلهي، ونسأل الله لصاحبك الجنة، ولك المغفرة.. فأكد لي أن أكثر ما يؤلمه ليس عملية القتل بحد ذاتها، فهو، كما يقول، أدمن على القتل اليومي، وهو يتقرب إلى الله بقتل الشيعة وملاحدة البيشمركة، كما يصفهم، لكن الألم أن رفيقه وصديقه المقرب هو من سقط قتيلاً على يديه هذه المرة..
ثم أضاف:
تم عرضي على القاضي عدة مرات - يقول أحمد - وقد تكفلت الدولة الإسلامية بدفع الديّة عني إلى عائلة صديقي، كوني كنت في واجبي الجهادي، لكن العائلة لا تزال ترفض تسلّم الديّة، نزولاً عند وصية صاحبي، الذي قتلته بيداي!
كان شعور الذنب عند (أحمد) قد طغى على كلامه، حينما كان يكثر من ترديد مفردة (قتلت صاحبي بيدي)، تماماً مثلما يبرز ذلك من شدة تمسكه بالقرآن الذي كان ملاصقاً لصدره طيلة فترة حديثي معه..
تحدث (أحمد) أيضاً أن القاضي وعد بإطلاق سراحه، وهو ما تطالب به عائلة صديقه كذلك، لكن من الصعب عليه أن يتعايش لاحقاً مع هذا الأمر بسهولة، كما يقول، خصوصاً أن الفقيد كان أقرب المقربين إليه، فأخذت أواسيه بقصص من التأريخ، وبأحاديث نبوية، وآيات قرآنية، لعلي اُخفف عنه بعض مما فيه، فوجدته يردُ عليّ بما يفوق علمي وحدود معرفتي الشرعية، رغم صغر سنه.. فلله دّرُ رجال دولة الإسلام، لله دّرُ رجال دولة الإسلام!
*
خاتمة الحلقة

قد يتعجّل البعض، فيظن مخطئاً، أن ما جرى معي إنما هو مصير ومآل كل من يصل إلى أرض الخلافة مهاجراً، لكني، وحتى لا تذهب الظنون بالبعض بعيداً، أقول:
من يأتي أراضي الدولة مهاجراً، ليعيش على ثرى أرضها، وتكثير سواد أهلها، فسيتم إستقباله بحفاوة، قلّ نظيرها، ومن جائها مجاهداً، ليكون جندياً في جيشها الرباني، سيوضع في حدقات عيون قادتها واُمرائها قبل معسكراتها، لكن من يصلها كمهاجر، وكصحفي، يحمل في جعبته الكثير من الأسئلة والإستفهامات، كحالي، فلن يتم تسهيل أمره حتى يتم معرفة عدد الكريات البيضاء والحمراء في دمه، وعدد الكروموسومات ، وربما حتى أعداد الخلايا، الحية منها والنافقة، في جسده، فالدولة الإسلامية تخوض اليوم غمار الحرب العالمية الثالثة، وكما هو متعارف فإن إجهزة الإستخبارات الغربية، والعربية، والشيعية تعتمد في معظمها على الصحفيين، وعلى عمال الإغاثة، وعلى المؤسسات الإنسانية، ومنظمات حقوق الإنسان، في أعمالها التجسسية على أهدافها، فهذه المهن، هي عادة أولى السبل والوسائط التي تسلكها وتتبعها كل الأنظمة المخابراتية في العالم لإختراق مناطق سيطرة أية جماعة جهادية، واسألوني عن ذلك، فلطالما عرضت عليّ بعض المؤسسات الصحفية والإعلامية التي كنت أتعامل معها الحصول على معلومات أمنية واستخباراتية، أكثر منها صحفية، حينما كنت اعمل في الساحة الميدانية الجهادية، قبل إضطراري لمغادرة العراق.. والمصيبة الكبرى أن زملائي الصحفيين كانوا على الدوام مشاريع تجسس دائم، كعادتهم، ولمن يدفع أكثر، إلا من رحم ربي، لهذا فلن ألوم القاضي، لو حاول التقصي حتى عن نوع العطر الذي كانت تضعه جدة والدة أمي في ليلة دخول جد والدة أمي عليها، المتوفيان قبل ولادتي بعشرات العقود من السنين، خصوصاً أنني جئت من أوربا، حيث موطن المؤامرات، ومهد الدسائس التي تحاك ضد الإسلام عموماً، وضد الدولة الإسلامية خصوصاً، كما إنني قضيت سنين عدداً خارج البلاد، وهي مدة كافية ليتم تجنيدي حتى من قبل مخابرات قبائل الماساي الأفريقية، وما يرسم علامة الخوف والإستفهام أكثر، في مثل هذا الحال، أنني كنت اكتب وأناصر المجاهدين، دون خوف أو وجل من داخل أوربا، هذه التي عادت لتحمل لواء محاربة الإسلام من جديد، بدلاً عن أميركا المتقهقرة، بعد إنتكاسة الأخيرة وإنهزامها في العراق وأفغانستان وباقي سوح الجهاد، أوربا التي تطارد بأسنانها قبل أيديها وأرجلها أي حس أو نفسٍ جهادي، بل أن هذه الإجراءات أشعرتني بالإطمئنان بعدم قدرة أي مخابرات، مهما كان لونها، أو شكلها، أو جنسها على إختراق المنظومة الأمنية الجهادية لدولة الخلافة الإسلامية.. فناموا رغداً يا رعاياها!

وللرحلة بقية!




 توقيع :
\\\ جسمي علي البرد لايقوي --- ولا على شدة ألحراره \\\
\\\ فكيف يقوي علي حميم ---- وقودها الناس والحجاره \\\\

رد مع اقتباس
إضافة رد
كاتب الموضوع خال العرب مشاركات 8 المشاهدات 3397  مشاهدة صفحة طباعة الموضوع | أرسل هذا الموضوع إلى صديق | الاشتراك انشر الموضوع

(عرض التفاصيل الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع منذ بعد 06-01-2025, 05:44 PM (إعادة تعين) (حذف)
لا توجد أسماء لعرضهـا.

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة



الساعة الآن 03:33 PM بتوقيت الرياض


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. Designed & TranZ By Almuhajir
new notificatio by 9adq_ala7sas
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education
دعم فني استضافه مواقع سيرفرات استضافة تعاون
Designed and Developed by : Jinan al.klmah